تاريخ حافل بالتوتر، لكن هذه المرة مرتبط بصراع القوة والنفوذ في البحر الأسود بين روسيا وحلف شمال الأطلسي ( الناتو ) الذي وصل ذروته منذ الثالث من حزيران الماضي، بعد خرق المدمرة البريطانية “ديفندر” الحدود الروسية البحرية قبالة سواحل شبه جزيرة القرم.
الحادث لم يكن عابراً بل بمثابة “إختبار”، الهدف منه جس نبض روسيا، ومدى جدية ردة فعلها على”الإختراق” البحري البريطاني، وبالفعل ردت روسيا بسرعة عبر طريقتين، الاولى تمثلت بإرسال طائرتين أطلقتا طلقات تحذيرية، والثانية بتوجيه القطع البحرية عددًا من الطوربيدات على مسارها ثم تحذيرها بتغييره، في رسالة واضحة مفادها أن “لا تلعبوا معنا لأن الموضوع أخطر من أن يتم التلاعب به، والمزاح ممنوع في البحر الاسود، فهو مس بسيادتنا في المياه الاقليمية”.
في القراءة الإستراتيجية يمكن القول إن بريطانيا لم تتصرف من تلقاء نفسها، بل وفق قرارٍ جماعي من حلف شمال الاطلسي ( الناتو )، وهي بمثابة ورقة اعتماد للرئيس الأميركي جو بايدن.
تٌعد روسيا ملكة البحر الأسود، حيث يتربع اسطولها الضخم في جزيرة القرم، وقد حذرت الناتو أكثر من مرة من الاستفزازات، وأكدت استعدادها للرد المباشر على أي اجراءات تهدد مصالحها وأمنها القومي. واقع يظهر بأن العالم أصبح أمام واقع القطبية المتعددة، وأنه يبتعد تدريجيًا عن عالم أحادي الأقطاب تسيطر عليه الولايات المتحدة.
خطوة استفزازية أخرى غير مسبوقة تمثلت بإجراء المناورات الأميركية الأطلسية مع أوكرانيا “سي بريز” أي نسيم البحر في البحر الأسود، بدأت في 28 حزيران/ يونيو، وتنتهي في 10 تموز/ يوليو بمشاركة أكثر من 32 سفينة و40 طائرة، و18 فرقة كوماندوس، و32 دولة من 6 قارات، وأكثر من خمسة آلاف عسكري، لذلك تعتبر أكبر مناورات عسكرية مشتركة تم تنفيذها منذ العام 1997.
ومن هنا يمكن لنا أن نتخيل حجم التهديد الذي تواجهه روسيا، صحيح انها مناورات تدريبية في العرف الدولي، لكن تتميز هذه المرة بأن من يُجريها هو حلف الناتو نفسه، الذي يعد أقوى حلف عسكري في العالم.
بالطبع روسيا ردت على ما اعتبرته خطوة استفزازية، وأجرى طيران أسطول البحر الأسود الروسي، إلى جانب طيران المنطقة العسكرية الجنوبية (يوفو)، رحلات تدريب قتالية فوق البحر الأسود في 3 من الشهر الحالي.
وقامت بنقل بطاريات صورايخ “باستيون- بي” المحمولة الى الحدود البحرية التي ستنفذ عليها المناورات، وتستطيع بطارية واحدة منها أن تدمر أي هدف بحري معاد، يتحرك على سطح البحر في نطاق 300 كيلومتر من الشاطئ، على شريط ساحلي يمتد لمسافة 600 كيلومتر، وهي مصممة لتدمير حاملات الطائرات، وسفن الانزال، وصورايخها أسرع من الصوت، وقادرة على حمل رؤوس حربية وزنها بين 200 الى 250 كغ، وتتميز بدقة تصويب عالية جداً.
وبالإضافة إلى هذه الاجراءات، نقلت روسيا منظومة صواريخ “بال-إي” وهي مكونة من 4 منصات قادرة على إطلاق 32 صاروخاً دفعة واحدة، وهي تتميز بالقدرة على التخفي عن رادارات العدو، فضلاً عن أنها تطير على إرتفاعات منخفضة سواءً ليلاً أو نهاراً.
إن جس النبض أو مصطلح ما يعرف ب”سبر المياه testing water” عندما يصل الى البحر الاسود، لن يكون مصيره إلا أسوداً، لأن الاحتكاك بين الناتو و روسيا في أي لحظة، عبر طلقة خاطئة أو صاروخ غير مقصود قد يؤدي بالفعل الى مواجهة مباشرة، وكارثة حقيقية.
بعدما أثبت الروس أنهم لا يترددون في الرد، وأن يدهم على الزناد، ولا يفكرون مرتين، يبرز السؤال الأهم “هل ستبقى هذه المناورات محصورة في حدود “المناورات” وماذا بعد؟