في الماضي ولسنوات عديدة، كان من المستحيل أن يخلو أي منزل أو متجر لبنانيّ من وجود عامل سريلانكيّ، وهو العامل المكافح الذي ترك وطنه وجاء ليرتزق في لبنان للحصول على لقمة عيش كريمة. هذا الشعب السريلانكي، الذي أحب الشعب اللبنانيّ، هو شعب ذكي تآخى مع الشعب اللبنانيّ وغيره من الشعوب حتى أصبح وإياهم كالعائلة الواحدة بإسم الإنسانية. كما تعلّمت أكثريّة هذا الشعب السريلانكيّ اللغة العربيّة بسرعة فائقة، وهذا إن دلّ على شيء فهو يدلّ على مدى ذكائه. كما كانت البضائع والسلع السريلانكيّة تُباع أمام منازل أهالي بيروت كل يوم أحد حتى يتمكّن الشعب السريلانكيّ من الحصول على كل ما لذّ له وطاب من خيرات بلاده.
هذا الشعب، أكنّ له كل الإحترام لأنّه شعب مكافح وذكي. لكن لن يُستثنى هذا التآخي بين الشعبَيْن من وجود بعض الشكاوى من اللبنانيّين غير المحترمين واللائقين الذين كانوا يعاملون السريلانكيّين معاملة سيئة لا تمت للدين بأي صلة، حيث أنّ الدين يحثّ على حسن المعاملة التي هي حق من حقوق الإنسان.
وفي نفس الوقت، كانت مجموعات من هذا الشعب السريلانكيّ تتابع أخبار لبنان وثورة 17 تشرين الأول 2019 وتدهور الأوضاع بسبب سطو من كان في السلطة على المال العام. هنا تعلّم الشعب السريلانكيّ من تجربة لبنان في الفساد وسرقة المال العام، وأنّ الشعب اللبنانيّ لن يتوقّف عن الإضراب والتظاهر بوجه الحكّام الظالمين، وكيف أنّ الليرة اللبنانية بدأت تتلاشى أمام الدولار الأميركيّ؟ لذلك قام العديد منهم بالعودة إلى وطنه سريلانكا بعد أن كانوا يعلمون أنّ الكهرباء متوفّرة في بلدهم دون انقطاع. ويتساءلون كيف أنتم في لبنان تعيشون دون كهرباء منذ العام 2000؟ تعلّم هذا الشعب المناضل الكثير من لبنان وتجربته وأكثر ما تعلّمه أنّ حب المظاهر والنفاق لدى اللبنانيّ جعله يخسر كل شيء. وكان يدرك أيضًا أنّ حب اللبنانيّ للظهور والبريستيج والإتيكيت قد أعمى بصيرته قبل بصره. رحلت الأكثريّة منهم عن لبنان مزوّدة بالأفكار الثائرة على الحكّام الظالمين كما ثار الشعب اللبنانيّ على كل الظالمين من الحكام.
ها هو الشعب اللبنانيّ اليوم يرى عبر وسائل الإعلام المرئيّ والمسموع مشهدًا للشعب السريلانكيّ لا بل منظرًا رائعًا يُعيده في الذاكرة إلى ثورة 17 تشرين الأول 2019، إذ تمكّن هذا الشعب الثائر وبسرعة فائقة من أن يقتحم مؤسّسات دولة سريلانكا وقصور سارقي المال العام، ممّا جعل رئيس البلاد يهرب ويستقيل رئيس الوزراء. وهكذا انقلب الأمر رأسًا على عقب خلال 72 ساعة.
أمّا الشعب اللبنانيّ وحتى اليوم لم يتمكّن من القيام بأي شيء، فالدولار الأميركيّ يزداد تحليقًا لا بل أكثر من ذلك، هو شعب يعيش بلا ماء ولا كهرباء، وبلا دواء ولا استشفاء، وبلا مدارس وأكثر من 95% منه يُعاني الفقر والحرمان من أدنى متطلّبات العيش الكريم.
كل الإحترام للشعب السريلانكيّ البطل لإنتفاضته، وهو الشعب الذي ثار على ظلم حكّامه بينما الشعب اللبنانيّ تحت شعار الطائفيّة والمذهبيّة والمناطقيّة لم يفعل شيئًا ولم يُعبّر إلّا عن جبنه وجهله. وعلى سبيل المثال لا الحصر، لقد تمّ إنفاق 46 مليار دولار أميركيّ على الكهرباء والبلد يعيش في ظلمة تامة.
هذا الواقع السريلانكيّ يُعيدني في الذاكرة إلى إحترام الحكام لشعوبهم عبر ما حصل في موريتانيا قبل عقود حين زار “موبوتو”، ثاني رئيس لجمهورية الكونغو الديمقراطيّة، الرئيس الموريتاني المؤسسس “المختار ولد دادّاه” في العاصمة نواكشوط حيث بقي الأخير ثلاثة أيام دون تغيّير ملابسه. فقدّم عندها موبوتو لولد دادّاه شيكًا مصرفياًّ بقيمة 5 مليون دولار لشراء الملابس من أفخم المتاجر الفرنسيّة. فأخذ ولد دادّاه المبلغ وأنشأ به مدرسة لتعليم المعلّمين دون إنفاق أي فلس منه على نفسه. وعندما أراد موبوتو بعد 3 سنوات زيارة المغرب، إتصل بالمختار دادّاه لمعرفة أوضاع بلاده فاستقبله هذا الأخير بنفس الملابس وقام بدعوته إلى المدرسة التي أنشأها، وكان قد خرّج منها المعلمين لإنشاء الأجيال بدل من هدرها على المظاهر الكذابة. هؤلاء الرؤوساء أمثال ولد دادّاه هم الرؤوساء الذين قد يفتخر الشعب بهم للأبد.
وأخيرًا، إنّني أؤيد كل الثورات وآخرها الثورة السريلانكية، لكن لا أؤيد التجاوزات التي تحصل من إهانة لبعض المسؤولين اللصوص الذين أحتقرهم، حيث إنّني أرفض الإعتداء عليهم كما ورد في بعض المقاطع المسجّلة على مواقع التواصل الإجتماعيّ، لأنّ ذلك يُعتبر إنتهاكًا لحقوق الإنسان. وهنا أطلب إحالتهم إلى القضاء ومحاكمتهم بعدلٍ لأنهم سرقوا الشعب، وعلى هذا أساس يُعاقب كل مسؤول سرق من المال العام. كما أرفض هذا النوع من الإنتقام من قِبل الشعب حتى لمن هم لصوص، علمًا أنّ هناك الكثير من الدول تُهين الإنسان بطريقة أفظع ليس بسبب لصوصيته لا بل بسبب رأيه. في كل الأحوال، إنّ الإعتداء الجسديّ على أي إنسان مذنب كان أو غير مذنب هو مرفوض رفضًا قاطعًا.