الاحدثدولي

الدبلوماسية الفرنسية في المنطقة ومحاولات التأثير في المشهد السياسي | بقلم د. عوض سليمية

في مناسبات عدة، دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إسرائيل إلى الوقف الفوري للعدوان الجاري على قطاع غزة، مشددًا على الحاجة إلى السماح بتدفق المساعدات الإغاثية العاجلة إلى سكان القطاع. ومما يندرج في هذا السياق، تصريحاته الأخيرة التي أدلى بها خلال زيارته لمدينة العريش المصرية بصحبة الرئيس السيسي عقب القمة التي جمعته بالرئيس السيسي وجلالة الملك عبد الله ملك الأردن في القاهرة، في مطلع هذا الشهر. صرح ماكرون: لقد طالبنا رسميًا الرئيس ترامب، في اتصال هاتفي مشترك، بضرورة استئناف وقف إطلاق النار لمدة تتراوح بين أربعين وخمسين يومًا، واستئناف إطلاق سراح الرهائن، واستئناف المحادثات الرامية إلى تثبيت اتفاق حول الحل الأمني والسياسي في غزة في اليوم التالي. مشدداً على ضرورة، إدخال المساعدات الإنسانية الطارئة للمواطنين في قطاع غزة.

في وقت سابق من هذه الزيارة، التي تعد الثانية لمصر منذ أحداث 7 أكتوبر 2023، أعربت فرنسا ودول الاتحاد الأوروبي عن تأييدها لمخرجات بيان القمتين العربية والإسلامية -قمة فلسطين في مارس الماضي، حيث أكدت الدول العربية والإسلامية على ضرورة إنهاء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة فوراً ورفض خطط ترامب تهجير المواطنين إلى دول أخرى. عقب هذا البيان، أعلن قصر الإليزيه أن “الخطة العربية تمثل أساساً جيداً للمناقشات، لكنها تحتاج إلى توسيع فيما يتعلق بالضمانات الأمنية ونظام الحكم المستقبلي في غزة”. وكانت هذه أولى الإشارات التي وصلت إلى بريد ترامب حول وجود حالة من الاستياء المتزايد في أوروبا نتيجة سياساته غير المدروسة.

وفي أحدث تصريح له بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، أعلن ماكرون أن “فرنسا تخطط للاعتراف بالدولة الفلسطينية خلال الأشهر المقبلة، وقد يتم ذلك في مؤتمر الأمم المتحدة في نيويورك في يونيو حزيران القادم”. مؤكداً على “وجوب التحرك نحو الاعتراف بدولة فلسطين المستقلة بمشاركة ديناميكية جماعية”.

تاريخياً، كان الموقف الرسمي للحكومات الفرنسية المتعاقبة ثابتاً ويعتمد على مبدأ حل الدولتين، الذي يُعتبر الخيار الأمثل لإنهاء الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، رغم رفض إسرائيل لهذا الحل، ومحاولات الولايات المتحدة المتكررة لإفشاله. في هذا السياق، أعلن الرئيس الفرنسي أن بلاده تعتزم بالتعاون مع المملكة العربية السعودية والشركاء الإقليميين تنظيم مؤتمر دولي حول حل الدولتين في يونيو المقبل.
تشير التحركات الفرنسية الحديثة والانخراط المباشر في قضايا الشرق الأوسط، بما في ذلك فلسطين ولبنان، بالإضافة إلى تعزيز العلاقات مع الدول العربية، إلى سياسة جديدة تعيد لفرنسا استقلالية قرارها في السياسة الخارجية، بعيداً عن التبعية للسياسة الأمريكية التي استمرت لعقود. يبدو أن ماكرون، الذي تولى رئاسة الجمهورية منذ عام 2017، يسعى للحفاظ على إرثه السياسي وتخليد اسمه إلى جانب الرؤساء البارزين الذين ساهموا في تعزيز مكانة فرنسا. ومن أبرز هؤلاء جاك شيراك، الذي واجه جنود الاحتلال خلال زيارته لمدينة القدس عام 1996، حيث عبر عن استيائه لممارساتهم أمام الكاميرات وحظي باستقبال شعبي حافل في رام الله. إلى جانب الزعيم فرانسوا ميتران، الذي وجه خطاباً إلى رئيس وزراء الاحتلال مناحيم بيجن في مارس آذار من العام 1982 من على منصة الكنيست، دعاه فيها إلى ضرورة الاعتراف بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة والاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني. وقد أدى هذا الخطاب المفاجئ إلى تعرض بيجن لوعكة صحية استدعت إجراء فحص طبي عاجل.

يبدو أن سلسلة الإجراءات الأمريكية غير محسوبة العواقب التي طالت الدول الأوروبية، بما في ذلك فرنسا، قد أثارت جدلاً واسعًا، ومن بين هذه الإجراءات، قرار الرئيس ترامب الأخير بفرض رسوم جمركية بنسبة 20% على صادرات دول الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة، والتي وصفها ماكرون بأنها “حرب تجارية”. بالإضافة إلى ذلك، هناك المفاوضات المباشرة بين الولايات المتحدة وروسيا لإنهاء الحرب القائمة في أوكرانيا وسط تجاهل واضح لمصالح الأوروبيين من قبل الرئيس ترامب. كما تضمنت هذه التطورات، الضربة التي تلقتها باريس إثر إلغاء صفقة الغواصات النووية مع أُستراليا لصالح شركات أمريكية في سبتمبر من العام 2021، يليها إعلان أمريكا عن تحالف أمني عسكري مع أستراليا وبريطانيا في منطقة المحيطين الهندي والهادئ تحت مسمى تحالف AUKUS بعيداً عن مشاركة فرنسا. إلى جانب ذلك، تعرضت الاقتصادات الأوروبية، وخاصة في قطاع الطاقة، لأضرار جسيمة بعد التزامها بالموقف الأمريكي في عهد الرئيس بايدن بفرض حزم من العقوبات على واردات موسكو من السلع والنفط والغاز ومصادر الطاقة الأخرى، رداً على العملية العسكرية الروسية في الدونباس مطلع العام 2022. هذه التطورات جميعها يبدو انها حفزت ماكرون لإعادة النظر في المواقف الاستراتيجية لبلاده.

تشير تصريحات الرئيس ماكرون الاخيرة إلى ضرورة انتهاء عصر الاعتماد الزائد على السياسة الأمريكية، التي طالما أفضت إلى مخاطر جسيمة على المصالح الفرنسية والأوروبية بشكل عام. لقد باتت السياسات الأمريكية التي تتجاهل مصالح فرنسا بمثابة الدافع الرئيسي لإعلان ماكرون اعتزامه الاعتراف بدولة فلسطين، وهو إعلان يشكل تجاوزًا واضحًا للخطوط الحمراء التي تضعها واشنطن أمام الدول الأوروبية الفاعلة. يمكن تفسير هذا التحرك كأسلوب صريح لبدء التحرر من التبعية الأمريكية والسعي وراء مصالح فرنسا بشكل مستقل، بما في ذلك إحياء العلاقات الفرنسية العربية، خاصةً بعد تراجع المصالح الفرنسية في عدد من دول القارة الأفريقية. وهذا التوجه من شأنه أن يزيد من حدة التوتر في العلاقات الفرنسية الأمريكية.

في الواقع، يسعى ماكرون إلى استغلال الفوضى الحالية في مراكز القوة العالمية- روسيا، الصين والولايات المتحدة، والارتباك الذي يحيط بإدارة ترامب وحلفائها على مستوى العالم، بالإضافة إلى غياب الدور الألماني والإيطالي وتراجع الدور البريطاني في المنطقة والعالم بشكل عام، ليعلن نفسه زعيماً للغرب ومدافعاً قوياً عن مصالح أوروبا.

ومع ذلك، من المبكر الاحتفاء بالوميض القادم او المبالغة في الاعتقاد ان تحولاً مفاجئًا من التألق الدبلوماسي الفرنسي سيؤدي الى اختراق الحواجز الامريكية الممنوعة. فقد شهدنا العديد من التصريحات السابقة للرئيس الفرنسي التي تراجع عنها بعد أن واجه انتقادات شديدة من الولايات المتحدة، بما في ذلك تصريحاته في الصين حول تايوان وتواصله مع المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل بشأن الحاجة إلى إنشاء جيش مستقل لدول الاتحاد الأوروبي بعيدًا عن حلف الناتو، بهدف التحرر من الاعتماد على الولايات المتحدة.

ومع هذا الحذر الشديد، إلا ان الاعتراف الرسمي من قبل فرنسا بدولة فلسطين، إذا تم، لن يكون مجرد قرار عادي. بل سيكون بمثابة تقدم كبير في الدبلوماسية الفلسطينية وتحولاً مهماً في الموقف الفرنسي لصالح فلسطين. كما أنه قد يمثل بداية سلسلة من الاعترافات من قبل الدول الأوروبية الأخرى، ويشكل حافزاً كبيراً لبريطانيا التي يقودها حزب العمال اليساري. بالإضافة إلى ذلك، سيشكل هذا الاعتراف ضربة لسياسات ترامب وإدارته التي تنكر حقوق الشعب الفلسطيني، ويكون بمثابة صفعة لحكومة اليمين المتطرف في إسرائيل. فهل سيقوم ماكرون بهذه الخطوة؟.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى