الاحدثدولي

السياسةُ الخارجية لكامالا هاريس لن تكونَ مُجَرَّد الشيءِ نفسه | بقلم غابي طبراني.

ما هي “عقيدة هاريس”؟ أصبَحَت كامالا هاريس الآن رسميًا مُرَشَّحةَ الحزب الديموقراطي لرئاسة الجمهورية في الولايات المتحدة بعد اختتام أعمال المؤتمر الوطني للحزب ليلة الخميس الفائت في شيكاغو، وهي حاليًا مُتَقَدِّمة في معظم استطلاعات الرأي على منافسها دونالد ترامب. لا يزالُ أمامنا أكثر من شهرين قبل يوم الانتخابات، ونجاحُها فيها ما زالَ بعيدًا من اليقين، لكن تمامًا كما إنه من المُهِمِّ التفكير في الكيفية التي ستُشَكِّلُ بها إدارة ترامب الثانية السياسة الخارجية الأميركية (راجع مقالي في 28/7/2024)، فإنَّ الأمرَ كذلك مع ولاية هاريس الأولى.

من نواحٍ عديدة، تبدو المُهمّة أكثر تحدّيًا بالنسبة إلى هاريس مُقارنةً بترامب. لدينا أصلًا للأخير سجلُّ فترةِ ولايةٍ كاملةٍ لمدة أربع سنوات والذي يمكننا من خلاله دَرسَ وتحليلَ سياسته الخارجية. وبناءً على ما قاله هو وحملته الإنتخابية حتى هذه اللحظة، فإنَّ ولاية ترامب الثانية ستتميّزُ بالنزعات الانعزالية والأحادية التي كانت في ولايته الأولى. وهذا يُفسّرُ على الأرجح سببَ تفضيل أكاديميي وخبراء العلاقات الدولية، بمَن فيهم عددٌ لا بأس به مِمَن يَعتَبِرون أنفسهم جمهوريين، لهاريس على ترامب.

على النقيض من ترامب، لا تمتلك هاريس سجلًّا رئاسيًا يمتدُّ على مدى أربع سنوات لتحليله. فبينما كانت نائبةً للرئيس خلال السنوات الأربع الماضية، فإنَّ تأثيرَ نوّاب الرئيس على السياسة الخارجية للرئاسة ضئيلٌ للغاية. لننظر إلى الرئيس الحالي نفسه، جو بايدن. فبينما كان نائبًا للرئيس باراك أوباما، كان تفضيله في وقتٍ مُبكر من فترة إدارة أوباما هو تقليص الالتزام الأميركي العسكري في أفغانستان بشكلٍ كبير. لكن هذا لم يحدث، الأمرُ الذي أثارَ استياءه.

يُمكِنُنا أن نلتفتَ إلى فترةِ هاريس في مجلس الشيوخ، حيث قدّمت سجلّات مجلس الشيوخ لأعضائه الذين وصلوا إلى البيت الأبيض تاريخيًا بعضَ الرؤى حول تفضيلاتهم في السياسة الخارجية كرؤساء. لكن حتى في ذلك الوقت، يُمكِنُ أن تتغيّرَ الأمورُ عندما يُصبحُ عضو مجلس الشيوخ رئيسًا للجمهورية ويجب عليه أن يتَّخِذَ قراراتٍ ويتحمّل المسؤولية عن اتِّخاذها. على نحوٍ مُماثل، فإنَّ النظرَ إلى كتابات مُستشاري هاريس المُحتَمَلين لا يُقدِّمُ سوى منظورٍ غير مباشر، حيث يمكن أن يكونَ ما يكتبه الأفراد وهُم خارج الحكومة مختلفًا تمامًا عن السياساتِ التي يُدافعون عنها بمجرّدِ تولّيهم مناصبهم الحكومية.

باختصار، لا توجدُ عدسةٌ مِثالية لتمييز ومعرفة “عقيدة هاريس” المُحتَمَلة تمامًا. لكن استنادًا إلى ما يُمكِنُ استخلاصه من سجلِّ هاريس حتى الآن، بما في ذلك الخُطَب التي ألقتها خلال الحملة الانتخابية، وآخرها خطاب قبول ترشيحها في مؤتمر شيكاغو، فإنَّ ملامح “عقيدة هاريس” المُحتملة تتشكّل، ومن الواضح أنَّ نهجَها في السياسة الخارجية سوف يختلفُ ليس فقط عن نهجِ منافسها في الحملة الإنتخابية، دونالد ترامب، ولكن أيضًا عن الرئيس الحالي الذي تعمل معه، جو بايدن.

بناءً على ما قالته وفعلته حتى هذه اللحظة في حياتها السياسية، فمنَ المُرَجَّح أن تكونَ سياسة هاريس الخارجية أكثر تركيزًا على حقوق الإنسان من سياسةِ أيٍّ من أسلافها المباشرين. فقد قالت للصحافي في “واشنطن بوست” جوش روجين في العام الفائت أنها بصفتها نائبةً للرئيس، “أثارت باستمرارٍ حقوق الإنسان وحقوق المُثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومُغايري الهوية الجنسية وحقوق المرأة وحرية الصحافة مع القادة الأجانب”، وأنَّ هذا التركيز على حقوق الإنسان شكّلَ مواقفها العامة بشأنِ مجموعةٍ واسعة من قضايا السياسة الخارجية، من العلاقات الأميركية مع المملكة العربية السعودية إلى علاقة تايوان بالصين. والواقع أنه يُمكِنُ للمَرءِ أن يقولَ إنَّ هاريس تُفضّلُ سياسةً خارجيةً مُتشدّدةً في مجال حقوق الإنسان.

في بعضِ المجالات، قد يشيرُ هذا إلى استمرارِ سياسات بايدن، مثل القيود التجارية القاسية تجاه الصين وتعزيز حلفاء الولايات المتحدة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. لكن في جوانب أخرى، يُنذِرُ تركيزُ هاريس على حقوق الإنسان بانفصالٍ مُحتَمَلٍ عن بايدن. وفي حين ستواصل هاريس بلا شك دَعمَ أوكرانيا ضد روسيا، كما أكّدت في خطابها الأخير في شيكاغو، فقد تكونُ على استعدادٍ لتزويد أوكرانيا بكلِّ الأسلحة التي تحتاجها بشكلٍ أسرعٍ وأكثر عدوانية. وعلى النقيضِ من إحجامِ إدارةِ بايدن عن مَنحِ أوكرانيا دباباتٍ قتالية رئيسة أو طائرات “أف-16″، فمن المُرَجَّحِ ألّا تتردّد هاريس في فعل ذلك.

إنَّ هذا المنظورَ المُتشدِّد الذي يُركّزُ على حقوق الإنسان يعني أيضًا جَعلَ أميركا اللاتينية أولوية أكبر من إدارة بايدن حتى الآن. ومن المتوَقَّع أن تكونَ إدارةُ هاريس أكثر انخراطًا في المساعدة والتدخُّل لتخفيفِ أزمة اللاجئين التي تؤثّرُ في العديد من دول أميركا الجنوبية والوسطى.

إنَّ السياسةَ الخارجيةَ المُتشدِّدة في مجال حقوق الإنسان تعني في المقامِ الأول مُعارضةً أقوى للسياسة الإسرائيلية الحالية تجاه الفلسطينيين. ومثل بايدن، سجّلت هاريس أنها تُدافِعُ عن حقِّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها. وقد انتقدت إدارة بايدن الطريقة التي نفّذت بها حكومة بنيامين نتنياهو جهودها الحربية. لكن على عكس بايدن ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، أكّدت هاريس بشكلٍ أكثر صراحةً على إنهاءِ مُعاناة الفلسطينيين المُحاصَرين في الحرب بين الجيش الإسرائيلي و”حماس” وحقِّ تقريرِ المصير للفلسطينيين.

يُمكِنُ لإدارة هاريس أن تُعبِّرَ عن دَعمِ الولايات المتحدة لإسرائيل ضد العدوان المباشر من قبل إيران، وفي الوقت نفسه تُعبّر عن عدم التسامح التام مع الأذى الذي يلحقُ بالسكان الفلسطينيين بسبب أسلحة الحرب الإسرائيلية. وهذا يعني القول “إنه أمرٌ سيّئ للغاية، إفعل ما هو أفضل” عندما يزعم المسؤولون الإسرائيليون أنه من الصعب للغاية محاربة “حماس” في غزة من دون الإضرار بالمدنيين.

بصرفِ النظر عمّا قد تفعله الرئيسة هاريس، فإنَّ التأكيدَ على الحاجةِ إلى تخفيفِ محنةِ الفلسطينيين أمرٌ مهمٌّ للمُرشّحة الحالية هاريس. في حين أنَّ السياسة الخارجية غالبًا ما تكون قضيةً ثانويةً بالنسبة إلى الناخبين، فإنَّ السياسة الأميركية تجاه الحرب في غزة، وطريقة تعامُل بايدن مع الحرب، هي القضية الرئيسة للناخبين العرب والمسلمين الأميركيين، الذين يعيش ما يقرب من 400 ألف منهم في ميشيغان، وهي ولاية مُتأرجِحة حاسمة فاز فيها بايدن بفارق 155 ألف صوت فقط في العام 2020. إذا ظلَّ هؤلاء الناخبون مُحبَطين، ولم يروا أن الديموقراطيين أو الجمهوريين يُقدّمون تبايُنًا واضحًا مع السياسة الأميركية الحالية بشأن هذه القضية، فقد يبقون في منازلهم يوم الانتخابات.

إنَّ حقيقةَ أنَّ هاريس قد تنتهي إلى أن تكون أكثر تشدُّدًا من بايدن في السياسة الخارجية تتوافَقُ مع ما وجده خبراء العلاقات الدولية في ما يتعلق بنهج السياسة الخارجية للقيادات النسائية في بلدانٍ أخرى. ولأنَّ القادةَ الذكور لديهم مَيلٌ إلى التقليل من أهمّيةِ آراءِ القيادات النسائية، فإنَّ القيادات النسائية غالبًا ما تدفع بقوّةٍ أكبر في موقف المساومة، حسب بعض الدراسات. كما وجدت دراساتٌ أخرى أنه على مرِّ التاريخ، انخرطت الدول التي تقودها نساء، بما في ذلك الملكيات، في حروبٍ أكثر من الدول التي يقودها رجال.

في حين أنَّ هناكَ أوجهَ تشابُهٍ واضحة بين السياسات الخارجية لإدارَتَي ترامب وبايدن، إلّا أنَّ تمييزاتٍ عدة تَظهَرُ في النهج. لقد استاءَ ترامب، مع سياسته الخارجية “أميركا أوّلًا” التي اعتمدها، من قيودِ المؤسّسات الدولية، وانزعَجَ من الحلفاء، وسعى إلى تقييدِ تدفُّقِ الأشخاص والبضائع إلى الاقتصاد الأميركي. أما بايدن فقد جسّدَ براغماتية الواقعية السياسية مع أسلوبٍ دولي. وعلى هذا النسق، قد تبدو “عقيدة هاريس” أكثر شَبَهًا ب”عقيدة بايدن” منها ب”عقيدة ترامب”. وبهذا المعنى، من المُرَجَّح أن يشعُرَ أولئك الذين يأملون في أن “تُعيدَ” هاريس تشكيل السياسة الخارجية الأميركية بالكامل بخيبةِ أمل. لكن من غير المُرَجَّحِ أن تكونَ السياسة الخارجية لهاريس استمرارًا بسيطًا لنَهجِ بايدن. بدلًا من ذلك، يبدو أن هاريس على استعدادٍ لأن تكونَ من صقورِ حقوق الإنسان.

غابريال طبراني، كاتب وصحافي لبناني مقيم في لندن

غبريال طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب”. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه: gabrielgtabarani.com أو عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى