ندخل العقد الثالث من الألفية الثالثة، والعالم يعج باستحقاقات وتحديات غير مسبوقة، وهي في معظمها تتطلب مواجهات وحلولاً على مستوى البشرية بعدما ظهرت وتطورت أزمات مختلفة الأوجه تلامس تهديدات وجودية جدية، وسط غياب رؤى عملية لتجاوز تلك التحديات. ففي العقدين الأولين، انهارت نظم سياسية سادت ثم بادت، وتشكلت نظم أخرى، تزعمت الولايات المتحدة النظام العالمي وسط انطلاق منافسات جدية من غير قطب، وتشكلت بيئات مختلفة لتكريس شكل من اشكال تعدد قطبي للنظام العالمي دخلت فيه كل من الصين وروسيا وتجمعات كالبريكس في اطار متغيرات جدية، فما الذي يقودنا إليه العقد الثالث؟
في المبدأ، ثمة معالم لإعادة تشكّل نظام مختلط، تعددي في الشكل مترافق مع وجه من الثنائية مضمون، عماده كل من الولايات المتحدة والصين، إضافة إلى اندفاعة روسية جادة وإن لم تكن حاسمة، والمفارقة هنا في المقاربة الروسية الصينية التي تبدو مختلفة وإن اجتمعتا على مواجهة واشنطن، ورغم امتلاكهما عناصر ووسائل القوة الكافية للمنافسة وإعادة التشكيل، إلا أن عناصر ضرورية ولازمة أخرى ما زالت مفقودة في سياق التغيير المنشود.
خلال العقد الماضي مثلاً، تمكنت كل من موسكو وبكين من التموضع في النظام العالمي بقوة واعدة، وشكلا تحدّياً حقيقياً لواشنطن، إلى درجة التحدث عن أفول السطوة الأمريكية في بعض الحقب والأزمات، إذ احتاجت واشنطن إلى الكثير من تلميع قوتها وإقناع العالم بعدم قدرته على الاستغناء عن إدارتها للنظام العالمي، وسط إصرار واضح من جميع القوى الواعدة على رسم صور مختلفة، وهذا ما يفسر على سبيل المثال انفجار الصراعات والحركات الاحتجاجية في غير منطقة من العالم، والتي دخلت فيها معظم القوى الطامحة طرفاً في الصراعات لتعزيز مكانتها في أي مشاريع مستقبلية.
إذاً ما حدث أسَّس لواقع يؤمل منه جديداً، إلا أن إعادة التشكيل في المبدأ، تتطلب ظروفاً ومعطيات إضافية، ذاتية وموضوعية غير مكتملة. فالقوى الذاتية للصين وروسيا وان بدت بعض مظاهرها حاسمة ، لكنها بحاجة للظروف الموضوعية الدولية التي باتت حاليا في الحضيض، فخلال العام الحالي تكبد الاقتصاد العالمي خسائر غير مسبوقة، وتقدر بحسب إحصاءات صندوق النقد الدولي أن تصل إلى 35 تريليون دولار حتى عام 2025 إذا استمر فيروس كورونا دون حلول ناجعة، إضافة إلى حجم البطالة الذي سجل أرقاماً قياسية غير مسبوقة أيضا إذ خسر 80 مليوناً وظائفهم في الدول المتقدمة، وهي في الواقع أرقام مهولة ستضفي أزمات متلاحقة تعكس احتقاناً دولياً وخاصة العلاقات الدولية وكيفية إدارة الازمات الحادة منها.
إن الظروف التي ستحيط بالعقد الثالث تشكل تحدياً لكافة الدول الطامحة للعب أدوار في النظام العالمي، وهي تحديات ذات طبيعة بنيوية في مستقبل البشرية وما يحيط بها من متطلبات الاستمرار، وهي بطبيعة الأمر مسؤولية جماعية لن تتمكن دولة منفردة من القيام بها، وبالتالي من الصعب تصوّر تبدلات جذرية في سياق قيادة النظام العالمي في العقد القادم. وعليه ثمة مؤشرات قوية على استمرار الصورة الهلامية غير الواضحة لتوزّع القوى ومدى فعاليتها في التغيير المرغوب.
إن مراجعة بسيطة لظروف العقد الماضي، تظهر تحولات دراماتيكية سريعة في العديد من مفاصل وصور النظام الدولي علاوة على ظهور الرغبات الجامحة نحو التغيير، إلا أنها لم تتمكن حتى الآن من تكوين القوة الحاسمة لذلك، ومن غير الممكن خلال العقد القادم من إعادة هيكلة هذه القوى مجددا، إذ إن أسس العلاقات الدولية والمبادئ التي تحكم سلوكياتها وتضبط حركتها، فقدت الكثير من فعاليتها، وبالتالي باتت معظم القوى غير قادرة على فرض توجهاتها. وعليه إن عقداً من الظروف والأوضاع الدولية غير المستقرة ستسود وسط غياب واضح للمؤسسات الدولية وفي طليعتها منظمة الأمم المتحدة التي تلاشى دورها في حفظ الأمن والسلم الدوليين، وباتت مظاهر الفوضى والاضطرابات هي السائدة في عالم غزته الأوبئة والأزمات التي وضعت البشرية جدياً في أزمة وجودية غير مسبوقة.
رابط المقال : اضغط هنا