إيران ما بين ذكرى المآسي الماضية والسياسة الخارجية الحالية
قد يبدو جليا أن من الأمور الراسخة لدى العقيدة الإيرانية هو ضرورة الاعتماد على النفس من أجل تحقيق التقدم، واليقين التام بأنه لا جدوى ولا مأمن أبدا في الاعتماد على القوى العالمية الكبرى، والتي تؤثر مصالحها الشخصية فقط ليعلو صوتها الأوحد.
ولا يمكن أن ننسى ما عانته إيران على مدار سنوات من السيطرة الروسية والبريطانية على أرض طهران خلال عهد القاجار، حيث تم إبادة نحو خمس الشعب الإيراني ما بين عامي 1917 و 1919 كنتيجة للمجاعة الناجمة عن سيطرة القوات البريطانية المحتلة على المصادر الغذائية خلال الحرب العالمية الأولى، إلى جانب واقعة الانقلاب على السلطة والتي تزامنت مع دق طبول الحرب العالمية الثانية، حيث تم الإطاحة بالحاكم الضعيف آنذاك رضا شاه لتتولى القوات البريطانية مهمة تنصيب ابنه محمد رضا شاه على عرش الدولة، وذلك بعد أعلنت إيران عن موقفها المحايد أثناء الحرب.
ومن الأحداث البارزة في تاريخ إيران أيضا؛ قيام القوات البريطانية بالاستعانة بالاستخبارات المركزية الأمريكية من أجل الإطاحة بحكومة محمد مصدق عام 1953 والذي أصدر قرارا إصلاحيا بتأميم النفط الإيراني، وذلك من منطلق خشية الدول الكبرى على حصصها البترولية، الواقعة التي خلفت المئات من الضحايا من أبناء الشعب الإيراني.
ويمكن القول بأن الحركة الديمقراطية الوحيدة في تاريخ إيران والتي منحت بعض الحقوق السياسية لأبناء الشعب هي الثورة الإسلامية عام 1979 ومنذ ذلك الوقت، وقعت إيران في فخ الحرب التي أشعل فتيلها الرئيس العراقي السابق صدام حسين والذي حظي بدعم واسع من الغرب ودول الخليج العربي في حربه الطويلة ضد إيران.
عبرة من دروس الماضي
والجدير بالذكر أن إيران نجحت في الاستفادة التامة من دروس الماضي في تشكيل سياسة التعامل مع الحاضر بل واستشراف المستقبل أيضا، حيث تلجأ دائما إلى اتخاذ خطوات احترازية في تعاملاتها مع القوى الدولية الكبرى، وبالحديث عن المباحثات الدولية بشأن البرنامج النووي الإيراني والتي كان من المتوقع أن تأخذ منحى أفضل بهدف تحسين العلاقات الإيرانية مع الغرب، إلا أن عدم وفاء دول الاتحاد الأوروبي بالتزاماتها وانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع طهران قد أدى إلى قلب موازين الأمور، حيث استمرت الدول الغربية في ممارسة المزيد من الضغوط على إيران لحملها على تخفيض برنامجها النووي، الأمر الذي يصب في مصلحة القوى العظمى من جهة والدول الخليجية من جهة أخرى.
ولمزيد من الفهم للسياسة الخارجية الإيرانية ، فإنه يمكن القول بأن طهران تتعامل حاليا مع مجموعة من الدول التي يحفل سجلها بالجرائم الإنسانية، والتي عادة ما تنجم عن الحروب التي تقودها تلك الدول الاستعمارية تحقيقا لمصالحها الشخصية، ولعل ذاكرة التاريخ لا تمحو أبدا الذكرى المأساوية للمجاعة التي حدثت في الهند خلال الحرب العالمية الثانية والتي أسفرت عن مقتل نحو 20 مليون مواطن عقب استيلاء بريطانيا على المصادر الغذائية في الهند استنادا إلى آراء رئيس الوزراء البريطاني آنذاك ونستون تشرشل والذي قال بأن الهنود يستحقون الإبادة جزاء معتقداتهم الدينية الغريبة.
وعليه، فإنه من البديهي أن يشكل الوجود الغربي في المناطق المجاورة لإيران متمثلا في القواعد العسكرية الغربية المقامة شرقا وغربا، تهديدا كبيرا على أمن طهران، مما جعلها تعمد إلى تقوية بنيتها التحتية في المجال العسكري تحسبا لأي عدوان محتمل من القوى الغربية، والتي أثبت التاريخ عدم التزامها بتعداتها على الإطلاق.
ومن الخطوات الجيدة التي أقدمت عليها طهران – بحسب رؤية بعض المحللين السياسيين- إسقاط طائرة التجسس الأمريكية RQ-4 في 21 من مايو الماضي، حيث تعد تلك الخطوة بمثابة رسالة ضمنية تهدف إلى تحذير الغرب من محاولة الاقتراب من الأراضي الإيرانية، هذا في الوقت الذي زعمت فيه الولايات المتحدة بأن الطائرة كانت تحلق فوق المياه الدولية، إلا أن السلطات الإيرانية قامت بانتشال الحطام من مضيق هرمز في نطاق المياه الإقليمية التابعة لطهران.
وتتجلى الحكمة في تلك الخطوة الإيرانية باعتبارها رسالة تحذيرية إلى الغرب فقط قد تؤدي إلى مزيد من التوتر في المنطقة ولكنها لن تتسبب في اشتعال الحرب بين الجانبين، فطهران تدرك جيدا العواقب الوخيمة التي كان من الممكن أن تنتج عن إسقاطها لطائرة عسكرية أمريكية كانت تحلق في نفس المحيط الذي تم استهداف طائرة التجسس فيه من قبل القوات الإيرانية، ولكن ما أثار الجدل والحيرة آنذاك؛ تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والتي توجه فيها بالشكر إلى إيران لحرصها على حفظ الأمن في المياه الدولية.
ويعتبر البعض أن الموقف الإيراني من طائرة التجسس الأمريكية قد أجبر دول العالم على احترام المجال الجوي الإيراني انطلاقا من مبدأ الحفاظ على السيادة، إلا أنه يمكن القول بأنه في الوقت الذي يخشى العالم فيه من ضربة أمريكية محتملة موجهة ضد إيران، فإنه يجب الاعتراف بأن الأنشطة النووية الإيرانية هي الدافع الأساسي الذي جعل الولايات المتحدة الأمريكية تعمد إلى إنشاء المزيد من القواعد العسكرية وحشد المزيد من القوات بالمنطقة، مما يشكل تهديدا خطيرا للأمن الإيراني.
ولازالت الآمال معلقة حتى الآن على احتمال تعديل مسار المباحثات الدولية المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني، من أجل الحفاظ على استقرار منطقة الشرق الأوسط، فالواقع أن الحديث عن نشوب حرب محتملة بين طهران وواشنطن يثير الكثير من المخاوف ويهدد بزعزعة الاستقرار في الخليج العربي والدول المجاورة.
رابط المقال الاصلي:
اضغط هنا