الاحدثدولي

الماراثون الديمقراطي الأوروبي والزلزال الفرنسيّ (2/2) | بقلم د. محي الدين الشحيمي

لم تكن انتخابات البرلمان الاوروبي مجرد استحقاق انتخابي دوري بقدر ما شكّلت نتائجه زلزالاً هزّ اوروبا وتحديداً فرنسا.

انتهى الماراثون الديمقراطي الأوروبي الاتحادي. ظهرت معالم تكوين مشهديّات جديدة في القارّة العجوز. أهمّها:

أوّلاً: على المستوى الاتّحادي الأوروبيّ:

– سيطرت الديمقراطية الوطنية على الاتحادية. تحكّمت في نتائجها. تحوّلت الانتخابات البرلمانية من الطابع الأوروبي القارّي إلى الشكل الوطني الخاصّ بكلّ دولة. انتخبوا أوروبياً في الظاهر، لكنّهم اقترعوا وطنياً في الجوهر.

– تمايزت فيها طريقة التحالفات استجابة لمتغيّرات الأحوال المحلّية داخل العواصم الأوروبية. اختلفت ردّات فعل الناخبين على حسب اقتناعهم بأداء التحالفات السياسية الحاكمة.

– صعد اليمين المتطرّف في أهمّ العواصم الأوروبية، المؤسّسة للكتلة الاتحادية مثل فرنسا وإيطاليا وألمانيا وهولندا. تقدّم اليمين المتطرّف أوروبياً في النقاط. وأحدثت المجموعات المنادية بالانفكاك بعض المكاسب، من دون الحصول على الأغلبية المهدّدة في البرلمان الأوروبي.

– اتجاه دول الشمال الأوروبي (فنلندا، السويد، الدنمارك) إلى معسكر اليسار الأمر الذي يضفي على اللعبة السياسية نوعاً من التماثل الخجول في الحراكات السياسية.

حفاظ حزب الشّعب على موقعه

على الرغم من الموجات الشعبوية ونموّ الحركات القومية اليمينية والمتطرّفة، وتغلغلها الأوروبي، ثبت حزب الشعب الأوروبي في موقعه وحافظ مع حلفائه على وزناته. يناصر هذا الحزب رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين. إذ تمّت المحافظة على التوازنات السياسية في بروكسل.

تقدّم حزب الشعب بشكل طفيف. حصد عدداً إضافياً من المقاعد. تراجع حلفاؤه من الاشتراكيين والديمقراطيين والتغييريين على نحو ملحوظ. لكن أصيبت “كتلة تجديد أوروبا” بانتكاسة شديدة. وتضمّ هذه الكتلة حزب النهضة الذي يرأسه إيمانويل ماكرون وحلّ من حيث النتائج خلف التجمّع الوطني، إضافة إلى الائتلاف الحاكم في ألمانيا بزعامة المستشار أولاف شولتز، الذي تعرّض أيضاً لهزيمة قاسية في هذه الانتخابات بعدما جاءت الأحزاب الثلاثة في حكومته خلف المحافظين واليمين المتطرّف.

توجّه البرلمان نحو اليمين

فازت مارين لوبان، وتصدّر حزبها التجمّع الوطني في فرنسا. احتلّ حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرّف المركز الثاني، وراء المحافظين. هذا وسبق بفارق كبير حزبَي الائتلاف الحاكم، الاشتراكيين الديمقراطيين وحزب الخضر. ربح حزب إخوة إيطاليا اليمينيّ الشديد التطرّف. تتزعّمه رئيسة الوزراء الإيطالية جيورجيا ميلوني في إيطاليا. تفوّق في النمسا حزب الحرّية اليميني المتطرّف. وعزّز حزب “من أجل الحرّية” في هولندا الذي يتزعّمه خيرت فيلدرز اليميني المتشدّد نقاطه. هذا وأظهرت النتائج في إسبانيا تقدّم حزب “الشعب اليميني”، إلى جانب تحقيق حزب “فوكس” اليميني مكاسب. وحاز في المجر رئيس الوزراء القومي فيكتور أوربان الذي يصفونه ببوتين أوروبا المركز الأوّل، وقد وصف هذه الانتخابات بالتاريخية. كما حصل في اليونان حزب الديمقراطية الجديدة اليميني على ثلث الأصوات وتقدّم على الحزب اليساري.

يتوجّه البرلمان الأوروبي نحو اليمين رويداً رويداً. لكنّه إلى الآن مشرذم وحركته مفرطة. ينقسم اليمين في البرلمان الأوروبي إلى كتلتين. ما زال تقاربهما غير مؤكّد. يشوبه العديد من الخلافات، وخاصة حول روسيا والموقف من حرب غزة، بالإضافة إلى العلاقة مع أميركا والصين والشرق الأوسط، ناهيك عن المشاكل الداخلية أوروبيّاً. تصعّب تلك الأمور إمكانية الجمع بين اليمين المتطرّف واليمين السيادي. وهو ما يضيع وزنهما داخل المجلس التشريعي الاتحادي. لذا من الممكن أن تساهم هذه المحصّلة في عرقلة اليمين المتطرّف، وإطالة الوقت أمام إمكانية سيطرته القارّية في المستقبل. حيث بقي المحافظون والموحّدون الكتلويون في المقدّمة.

ثانياً: على المستوى الفرنسيّ:

حوّل الناخب الفرنسي الفعّالية الأوروبية إلى جمهرة مع العهد الماكروني أو ضدّه. قسّم الاستحقاق الاتّحادي المجتمع الفرنسي إلى ثلاث فئات تحكّمت كلّها بنتيجته النهائية:

– الفئة الأولى خسرت: وهي المؤيّدة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. صوّتت لمصلحة حزب “الجمهورية إلى الأمام” وحزب النهضة وحلفائه الذين هم تجمّع الأحزاب الثلاثة الداعمة للرئيس إيمانويل ماكرون. تتألّف من حزب النهضة الرئاسي وحركة الديمقراطية (وسط)، إضافة إلى حزب هورايزون الذي أسّسه رئيس الحكومة الأسبق إدوار فيليب.

– الفئة الثانية فازت: وهي المعارضة للعهد الماكرونيّ. في مقدَّمها اليمين المتطرّف وحزب التجمّع الوطني وتحالفاته.

– الفئة الثالثة تائهة: وهي من المقاطعين والمتردّدين الرماديين. تزداد هذه الفئات في فرنسا يوماً بعد يوم امتعاضاً من أداء الإدارة الفرنسية الحالية وتلك التي سبقتها. تسجّل معارضة للمنهاج اليميني. تبرز نقمتها على الأحزاب الكلاسيكية الفرنسية، وخاصة فئات اليسار والاشتراكية على الرغم من تقدّمهم الطفيف في الانتخابات، وكذلك ينعكس الأمر على الجمهوريين. هي السبب المباشر في أن تكون نسبة الامتناع عن الاقتراع في فرنسا 48.6%.

استحقاق وطنيّ

تحوّلت الانتخابات الأوروبية الاتحادية إلى استحقاق وطني فرنسي بامتياز. تأثّرت بالعديد من الملفّات الفرنسية والقارّية والدولية. أضحى لها طعمها المختلف. تقدّم اليمين في أوروبا. تراجعت قوى الليبرالية والتغيير والمناخ. تأثّرت فرنسا بشكل مباشر، وسجّل مقياس الإليزيه فيها زلزالاً سياسياً فرنسياً. فاز اليمين المتطرّف في فرنسا. وتصدّر حزب التجمّع الوطني نتائج الانتخابات الأوروبية في فرنسا. حصل على نسبة 32%، برئاسة جوردون بارديلا، وهو قائد شابّ يبلغ من العمر 28 عاماً، أي أصغر من رئيس الحكومة الحالي غبريال أتال.

أصيب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بانتكاسة مدوّية. خسر على أثرها الأكثرية البرلمانية الأوروبية. أجبرته هذه النتيجة على احترام الديمقراطية وتبدّل المزاج الشعبي للناخب الفرنسي، فأقدم على قرار حلّ المجلس النيابي. انتقلت إلى فرنسا عدوى الاستحقاقات الدستورية الفجائيّة.

لمن فاتته قراءة الجزء الأول:

هجوم معاكس لماكرون: مقامرة محفوفة بالمخاطر (1/2)

د. محي الدين الشحيمي، استاذ في كلية باريس للأعمال والدراسات العليا

الدكتور محي الدين محمود الشحيمي، دكتوراه في القانون جامعة باريس اساس في فرنسا. عضو لجنة التحكيم في مدرسة البوليتكنيك في باريس. محاضر في كلية باريس للاعمال والدراسات العليا واستاذ زائر في جامعات ( باريس 2 _ اسطنبول _ فيينا ). خبير دستوري في المنظمة العربية للقانون الدستوري مستشار قانوني واستراتيجي للعديد من الشركات الاستشارية الكبرى والمؤسسات الحكومية الفرنسية كاتب معتمد في مجلة اسواق العرب ومجلة البيان والاقتصاد والاعمال ومجلة الامن وموقع الكلمة اونلاين . رئيس الهيئة التحكيمية للدراسات في منصة الملف الاستراتيجي وخبير معتمد في القانون لدى فرانس 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى