تمّ تقسيم قبرص منذ نصف قرن تقريباً. تُدير الشمال حكومة قبرصية تركية، بينما تحكم الجزء المتبقّي من الجزيرة حكومة قبرصية يونانية مُعترَفٌ بها دولياً. بعد ما يقرب من نصف قرن على ظهور خط الهدنة، أصبحت “المنطقة الخضراء” برّية هادئة. لا تزال تحرسها قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، كما كانت بمثابة خلفية للعديد من جولات المحادثات حول مستقبل الجزيرة المُقَسّمة.
يستعد أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، لبدء جولة جديدة من المحادثات في غضون أسابيع. لكن المشكلة تكمن في أنه سيلتزم بشكل شبه مؤكد بالصيغ التي تم تجربتها وكانت فاشلة في الماضي، ما يعني أن احتمال الفشل مُرتفع.
إذا كنت قد سمعت أخباراً كثيرة عن قبرص في الآونة الأخيرة، فذلك لأن المنطقة المحيطة بها أصبحت أكثر تنازعاً وتنافساً.
خلال الحرب الباردة، كان يُشار إلى الجزيرة على أنها حاملة طائرات حلف شمال الأطلسي (الناتو) غير القابلة للإغراق، والتي كانت بمثابة حصنٍ ضد أي عدوان سوفياتي في شرق البحر الأبيض المتوسط. في هذه الأيام، يضع التوغّل التركي في المنطقة الأوسع وبناء تحالفها في مدينة مصراتة الليبية قبرص على تقاطع طموحات أنقرة.
وفي الوقت عينه، تنظر روسيا ما بعد الإتحاد السوفياتي إلى اللعبة وتتطلّع بإصرار إلى ضمان عدم إزاحتها من قواعدها البحرية حول اللاذقية على الساحل السوري المجاور. كما أن الرواسب المؤكدة من الغاز الطبيعي عبر المنطقة خلقت حوضاً اختلطت فيه مصالح حفنة من البلدان.
أثار تقسيم قبرص في السبعينات الفائتة موجةً قصيرة من الديبلوماسية رفيعة المستوى لمنع أعضاء “الناتو” من خوض الحرب ضد بعضهم البعض. بصرف النظر عن كون اليونان في منافسة مباشرة مع تركيا، فإن بريطانيا تُشارك بشكلٍ كبير أيضاً، باعتبارها “قوة ضامنة” وتمتلك قاعدتين سياديتين في الجزيرة. في هذه الأيام، تقترب المملكة المتحدة أكثر من الموقف التركي مع تضاؤل نفوذها، نظراً إلى أن قبرص تسعى إلى تعريف نفسها كمنصة لأوروبا ولم يعد لدى لندن صوت داخل الكتلة المُكَوَّنة من 27 دولة.
عندما تبدأ المحادثات التالية التي تنظمها الأمم المتحدة، تتلخّص الخيارات في إثنين:
دولة فيدرالية تتكوّن من منطقتين تتمتعان بالحكم الذاتي إلى حد كبير- تقريباً على طول تقسيم المنطقة الخضراء ولكن مع بعض الامتيازات القائمة على الخرائط- كانت مُفَضَّلة لعقود. في الواقع، تم تكريس سنوات من المفاوضات لهذا الهدف. من ناحية أخرى، تضغط تركيا من أجل التقسيم الدائم للجزيرة. وفقاً للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، لا يوجد سوى حلّ الدولتين للجزيرة.
إن حافز أردوغان يبدو واضحاً. تركيا وحدها فقط التي تعترف بالجمهورية المُعلَنة من جانب واحد في الشمال، والتي يدعمها الإنتشار العسكري لأنقرة والهجرة التركية من البر الرئيس. سيكون حلّ الدولتين نعمةً لتركيا، لكن من الصعب رؤية كيف يُفيدُ هذا الحل أيّ طرف آخر. من الصعب أيضاً أن نرى كيف سيفيد ذلك القبارصة الناطقين باللغة التركية الذين يعيشون هناك.
التفكير الجديد بشأن أزمة قبرص هو في الغالب وهم. غالباً ما يتم الترويج لمقترحات جديدة حديثة بشكل ساخر فقط لتعطيل احتمالات الحل.
فكيف إذن يمكن وصف آفاق الجولة الأخيرة من المحادثات؟
منذ أسبوعين، أُقيم “منتدى فيليا” في أثينا، وحضرت فعالياته كلٌّ من الإمارات والسعودية والبحرين ومصر والعراق. وكان نيكوس كريستودوليدس، وزير الخارجية القبرصي، حاضراً قوياً أيضاً في المداولات. وقد أظهر الإجتماع البصمة الاستراتيجية المشتركة للحضور.
توجّه المشاركون في “منتدى فيليا” نحو الإستثمار وتحديث الإقتصاد لتلبية المتطلبات الديموغرافية. ويوفر التركيز المُشتَرَك في الحوار منصّةً للتعاون كانت تبدو بعيدة المنال قبل عقد من الزمن. أفاد بيانٌ صادرٌ عن الوزير كريستودوليدس بأن الشراكة لا يُمكن أن تطلق العنان للفرص فحسب، بل إنها تُمكّن أيضاً من إدارةٍ أفضل لنقاط عدم الإستقرار.
الواقع أن رسالة الحاضرين كانت على النقيض من سرد المواجهات والمشاكل والصراعات التي تُكافح قبرص لاحتوائها.
في نهاية المطاف، يُوفّر الإتحاد الأوروبي للقبارصة المنصّة الوحيدة لحلّ النزاع. عندما قدّم كوفي أنان، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، خطته لإقامة دولة فيدرالية في العام 2004، تبنّاها الجانب التركي، لكن الجزء اليوناني من الجزيرة رفض. وكانت نيقوسيا انضمت لتوها في ذلك العام إلى الإتحاد الأوروبي.
بعد عقد ونصف، ستبدو الدولة ذات المنطقتين كما تصوّرها فريق أنان. هناك أيضاً نسخة ناعمة من خطة أردوغان القائمة على دولتين، والتي ستكون فصلاً أو تقسيماً لدولة داخل الاتحاد الأوروبي. لكن هناك خللاً في هذه الخطة.
نظراً إلى تزايد سلطات وكالة الحدود وخفر السواحل التابعة للكتلة المُكوَّنة من 28 دولة، “فرونتكس” (Frontex)، والسياسات المشتركة بشأن الهجرة التي باتت أكثر رسوخاً، سيكون من الصعب على تركيا تحمّل أجزاء من هذه العضوية المشتركة. بعد كل شيء، سيعني هذا فعلياً انسحاب معظم، إن لم يكن كل، قواتها المتمركزة في الجزيرة والتي يبلغ عددها 30,000 جندي. سيؤدي ذلك أيضاً إلى زوال ضمان المملكة المتحدة للجزيرة، والذي يعود تاريخه إلى الستينات الفائتة.
من الواضح أن القضية هي أن كلا البلدين ليسا عضوين في الإتحاد الأوروبي، فالمملكة المتحدة تركت الكتلة أخيراً وتتجه تركيا الآن إلى عدم الإنضمام.
وهناك تفاصيل أخرى، مثل تعويض القبارصة اليونانيين عن ثلثي الممتلكات في الشمال التي يملكونها، وعودة منتجع “فاروشا” (Varosha) المهجور، وكذلك الأراضي الأخرى خارج المنطقة الخضراء المنزوعة السلاح.
في حالة التوصل إلى معالجة هذه القضايا، ستكون هناك جولة من حملات الإستفتاء بنتائج يصعب توقّعها. عندها سيكون التركيز على إعادة بناء قبرص. ويكاد يكون من المؤكد أن إجراء التحوّل سيكون متعدد السنوات. بالنظر إلى ظروف المنطقة، ولا سيما الاستكشاف المتزايد واستغلال رواسب الغاز الطبيعي، فإن ذلك سيحتاج إلى آلية إنفاذ قوية.
من الواضح أن العديد من الدول تشترك في الحافز لحل القضية القبرصية. إن كيفية إقناع أصحاب المصلحة بالعملية لتعزيز زخمها يجب أن يُضاف كجزء في المحادثات.
رابط المقال: اضغط هنا