قضت المحكمة العليا الأمريكية يوم 1 تموز/يوليو بأن الرئيس السابق دونالد ترامب يتمتع بدرجة كبيرة من الحصانة الدستورية الاساسية الرسمية من الإجراءات المتخذة بإعتباره رئيسا للولايات المتحدة، “يحق للرئيس السابق الحصول على حصانة مطلقة من الملاحقة الجنائية بسبب أفعال ضمن «سلطته الدستورية القاطعة والدائمة»، ولكن «لا توجد حصانة من الأفعال غير الرسمية». كما جاء في نص القرار.
قرار هيئة المحكمة العليا سوف يتردد صداه ليس فقط فيما يتصل بقضايا ترامب الجنائية ولكن أيضًا بمستوى صلاحيات الرؤساء المستقبليين للولايات المتحدة. وقد وصل هذا القرار سريعا إلى بريد البيت الابيض وقوبل باستياء شديد من الديمقراطيين الذين وصفوه بأنه انتكاسة للديمقراطية وتقويض للدستور الأمريكي بإعتباره وضع ترامب فوق القانون. لكن قاضي نيويورك خوان ميرشان كان له رأياً آخراً، وارجأ الحكم على الرئيس السابق في قضية شراء الصمت إلى تاريخ 18 سبتمبر بعد ان كان مقرراً يوم 11 من هذا الشهر، لمنح القضاة مزيدا من النقاش في تفسير سريان قرار المحكمة العليا من عدمه على القضية.
القرار الذي احتفل به انصار ترامب باعتباره هزيمة للمحاكم السياسية التي انتهجها الرئيس بايدن ضد زعيمهم، ووصفه ترامب بالانتصار واعتباره “فوزا كبيرا لدستور الولايات المتحدة وديمقراطيتها”، ومصدر فخر للأمريكيين، جاء وسط انقسام وتباين في الرأي بين القضاة 3-6 على اساس حزبي، تراوح بين الاقتناع بطبيعة الحصانة التي يتمتع بها الرئيس خلال فترة ولايته وبين الحق في افتراض الحصانة عن اعماله الرسمية، لكنه ترك الباب مفتوحاً في سياق عبارة لا يمكن محاكمة الرؤساء على “أفعالهم الرسمية”، بالنظر إلى ان هيئة المحكمة لم تحدد في قرارها الخط الفاصل بين الأعمال الرسمية وغير الرسمية بشكل قاطع، بإستثناء توجيهات فضفاضة تتضمن مجموعة واسعة نسبيًا من حدود الحصانة القانونية- لكل من الرئيس السابق ترامب وكل رئيس يأتي من بعده.
وفقا لمراقبين، من الآن فصاعدا في كل استخداماتهم للسلطات الرسمية، التي منحها لهم الدستور، أصبح الرؤساء الأمريكيون ملوكاً فوق القانون، بما يشمل قوانين المحكمة العليا نفسها. في سياق هذا التفسير، فإن الإدانات الجنائية الــ 34 الموجهة لترامب بما فيها تزوير سجلات تجارية وإخفاء دفع أموال في القضية المعروفة “شراء الصمت” وباقي رزم القضايا المنظورة على طاولة هيئة المحلفين في نيويورك سوف يجري تبريدها، هذا في حال بقيت القضايا اصلا على طاولة هيئة المحكمة، بالنظر إلى ان القضاة سيحتاجون وقتا طويلا في إعادة التدقيق لتحديد الخيط الرفيع الفاصل بين ما هو رسمي وما هو غير رسمي من الافعال والانشطة التي قام بها ترامب خلال فترة رئاسته وما تبعها.
مع مزيد من الغموض القضائي، بين نعم المؤكدة ولا المؤهلة، كتب رئيس المحكمة العليا جون روبرتس لأعضاء المحكمة أنه “لا يمكن مقاضاته “ترامب” بسبب اتصاله بمسؤولي وزارة العدل أو نائب الرئيس آنذاك بنس، وسيكون من الصعب أيضًا على المدعين الدفاع عن التهم المتعلقة بتغريداته وتصريحاته العامة”. مضيفا، “على عكس أي شخص آخر، فإن الرئيس هو فرع من فروع الحكومة، والدستور يمنحه سلطات وواجبات هائلة”. لكنه “يخضع لمحاكمة جنائية بسبب أفعال غير رسمية مثل أي شخص آخر”.
على الرغم من ان قرار المحكمة العليا لم يمنح ترامب حصانة “مطلقة” عن افعاله كما يطالب لكنه جاء في الوقت المناسب. من ناحية، أزال بعض الممارسات والاخطاء التي ارتكبها ترامب عن طاولة هيئة المحكمة، وترك الكثير من القضايا معلقة في الهواء بحاجة لمزيد من التدقيق والمراجعة. ومن ناحية اخرى، استطاع ترامب توجيه ضربة استباقية اضافية للديموقراطيين، بعد العرض المتعثر الذي قدمه الرئيس بايدن في المناظرة الرئاسية الاولى على منصة الــ CNN نهاية الاسبوع الماضي، وتهاوي شعبيته لتلامس 33%. وقبل ان يتمكن الرئيس بايدن من إعادة تفعيل محركاته، هبط هذا القرار ليحدث زلزالاً آخراً في صفوف الديموقراطيين المتصدعة اصلاً، ويمنح ترامب مزيدا من الرياح السياسية التي تقف في إتجاه مواتي لمساعيه في إستعادة كرسي البيت الابيض المفقود يوم 5 نوفمبر المقبل.
قرار المحكة العليا في توسيع الحدود الحصانة لسياسات الرؤساء الأمريكيين لم تكن مفاجئة لا سيما عند النظر في سياق السياسة الخارجية القائمة على المصالح الأمريكية في عالم احادي القطبية فقط – بالنظر إلى الانعكاس المباشر للسياسة الداخلية على السياسة الخارجية للادارات الأمريكية في ظل نظام مبني على ايقاع مألوف لضغط اللوبيات وجماعات المصالح، لكنها تنعش الذاكرة ايضاً بالحصانة الممنوحه لكل أمريكي في العالم، وهو ما ورد في قانون الكونجرس الذي صدر عام 2001، المعروف بإسم ” قانون غزو لاهاي” الذي يوفر – من بين مزايا اخرى، للمواطن والمقاتل الأمريكي واعضاء الخدمة السرية وحلفاء واشنطن- بمن فيهم بالطبع قادة اسرائيل، الحصانة الكاملة من المثول امام المحاكم الدولية بما فيها محكمة الجنايات الدولية، ويشرعن للجيش الأمريكي غزو لاهاي واجتياح المحكمة واعتقال القضاة ومحاكمتهم وفق القانون الأمريكي، في حال مثول من تنطبق عليهم هذه الصفات امام المحكمة بفعل مذكرات اعتقال صادرة عنها.
في هذا السياق القائم على تحطيم اسس القواعد والقوانين الدولية، جاء احدث إصدار لـــ 12 عضوا من مجلس الشيوخ الأمريكي في مذكرة تهديد واضحة إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية السيد كريم خان، بعد اعلانه النية لاصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو ووزير دفاعه جالانت، ورد فيها “إذا أصدرت المحكمة مذكرة اعتقال للقيادة الإسرائيلية، فسنفسر ذلك ليس فقط على أنه تهديد لسيادة إسرائيل ولكن لسيادة الولايات المتحدة”، وسنذهب إلى اقصى “مدى لحماية تلك السيادة”.
بينما يقترب موعد انعقاد المؤتمر العام للحزب الديموقراطي، تزداد الفجوة بين الرئيس ودائرته المقربة وبين قادة الحزب الديموقراطي وكبار المانحين المطالبين بالخروج السريع من سباق الرئاسة من أجل مصلحة الحزب قبل ان تتساقط باقي القطع وتتناثر امام زخم الحملة الانتخابية لترامب وصعود شعبيته. نقلت شبكة CNN عن مشرع ديموقراطي قوله «هناك مجموعة كبيرة ومتزايدة من أعضاء مجلس النواب الديمقراطيين القلقين بشأن ترشيح الرئيس، ويمثلون شريحة واسعة من التجمع». إلا ان الرئيس بايدن يرفض التنحي حتى الان، وينظر إلى قرار المحكمة العليا من زاوية مختلفة جدا عن رؤية كبار زملائه في الحزب الديموقراطي، ويعتقد ان ترامب حالة طارئة قادمة من العدم يمكن تجاوزها، يقول بايدن «هذه الامة تأسست على مبدأ عدم وجود ملوك في أمريكا». “كل واحد منا متساوٍ أمام القانون. لا أحد – لا أحد – فوق القانون، ولا حتى رئيس الولايات المتحدة”.