عشيّة الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية الفرنسية المفاجئة يوم الأحد 30 جزيران، تعاني الجمهورية الخامسة الفرنسية من عدميّة إنتاج دورة سياسية إيجابية. لا تزال غارقة في بحثها عن رجالات دولة جدد. فيما تتجلّى على المسرح المحلّي الفرنسي حقيقة واحدة هي تفوّق اليمين المتطرّف.
يتصدّر التجمّع الوطني كلّ استطلاعات الرأي، ومختلف حالات وأشكال التعبير عن نوايا التصويت:
– يتصدّر زعيم التجمّع الوطني جوردون بارديلا المركز الأوّل في استفتاءات الرأي التي تجري يومياً، مع 35% من الأصوات.
– تمركز تحالفات اليسار العريضة (الجبهة الشعبية الجديدة)، في المرتبة الثانية، لنيلها 29.5% من الأصوات.
– 19 حلول تحالف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المنتمي إلى الوسط في المركز الثالث، بعدما حاز%.
من يصوّت لليمين المتطرّف؟
يتّخذ اليمين المتطرّف من الأولوية الوطنية الشعبوية وأسلوب القطيعة الدائمة في مواجهته العهود المختلفة، إضافة إلى نموذج تحالف الأجيال، شعارات أساسية له. هذا وتتمركز الأغلبية المؤيّدة لليمين المتطرّف في:
– ضواحي المدن الكبرى، وليس في وسطها أو داخلها، حيث يتمركز اليسار.
– في الضواحي المنعزلة، التي لديها نقمة بسبب عدم استفادتها من الخدمات بشكل عام.
بعد عام 2022، قضم اليمين مزيداً من الأصوات في ضواحي إيل دو فرانس. انضمّت اليهم مجموعة في المناطق الشمالية الشرقية والجنوبية، التي تشكّل حوض الهجرة المغاربية التقليدية. وتمثّل تلك المناطق أيضاً المعقل التاريخي لليمين المتطرّف، الذي زاد من نسبته فيها.
تطوّر اليمين المتطرّف بشكل ملحوظ. انتهز المشاكل السياسية الظرفية، واستفاد من أخطاء ورتابة المؤسّسات السياسية الحاكمة، ومن ضعف مواردها البشرية على اختلاف هرميّتها. ساعدته على تسجيل المزيد من الاختراقات في صفوف المجتمع على اختلاف الفئات العمرية والطبقية. تُعدّ هذه الحالة سابقة تاريخية في الحياة السياسية الفرنسية. وهي تؤسّس لإمكانية تحوّل اليمين المتطرّف من مجرّد نزوة عقابية، أو رسالة اعتراضية لحظيّة، إلى نهج سياسي مكرّس، وإلى مدرسة واقعية على مسرح الدولة الفرنسية تجعله صاحب نفوذ مع إمكانية إحكام قبضته على السلطة في فرنسا للمرّة الأولى في حياة الجمهورية الخامسة.
يتوزّع مؤيّدو اليمين المتطرّف بين فئات عمرية مختلفة:
– 30 تصوّت للتجمّع الوطني بقوّة مجموعة بشرية تراوح أعمارها بين 50 و59 سنة، وبلغت نسبة تصويتها حوالي%.
– 13 برزت الفئة العمرية المُسنّة، التي رفعت ثقتها بالنهج اليميني. وصلت نسبة منحها الأصوات إلى حوالي%.
– استقطب بشكل لافت جداً كوكبة مؤيّدة أخرى تراوح سنّها بين 35 و49 سنة. يتجمّع هذا الحشد حول جوردون بارديلا. يعطيه ما يقارب 26% من الأصوات.
– جذب 18% من فئة الشباب، التي يراوح عمرها بين 18 و34 سنة.
ثورة في صفوف الطبقة الوسطى
تصدّرت هذه القائمة جماعة الطبقة الوسطى الفرنسية. وهي تضمّ كلّاً من المتقاعدين والموظّفين العموميين، وفريقاً كبيراً من العمّال. تتجلّى بوضوح نقمة الطبقة الوسطى على سياسات العهود السابقة. وجدت نفسها متراجعة على المستوى الاجتماعي، مع ارتفاع تكاليف الحياة والازدياد في الأعباء. أحسّت هذه الشريحة الوازنة بفقرها مجدّداً، خاصة المتقاعدين منهم. باتوا يفكّرون كثيراً في اليوم التالي. هاجسهم القدرة الشرائية والتضخّم والعيش بكرامة والاكتفاء الذاتي. تقلقهم كثيراً موجات المهاجرين غير الشرعيين. ساهمت كلّ هذه المشاكل في تبدّل قناعات جمع كبير من الفرنسيين، الذين كانوا لا يؤيّدون اليمين، وبرزت لدى قسم كبير منهم فكرة إعطاء الفرصة والأفضلية لليمين المتطرّف الفاشي. إذا تمكّن من تقديم الحلول للمشكلات الوطنية، فلا بأس عندهم في قليل من الفاشية في مقابل علاج ملفّاتهم المصيرية، وهو ما يشكّل خطراً على الجمهورية الخامسة نظراً لأهمية هذه الطبقة المؤسّسة لها.
هل هو تصويت عقابيّ؟ أم هو تحوّل عقائدي وأيديولوجي في المزاج اليومي الفرنسي والسياسة العامّة الباريسية؟
تشريع ببرلمانات متعدّدة..
يوصف اليمين المتطرّف بأنّه حزب “غير جمهوري”. تتلخّص مرتكزاته وقناعاته بما هو متعارض مع قيم الجمهورية (مساواة، حرّية، أخوّة). يتناقض مشروع الجبهة الوطنية بشكل تامّ مع القيم المؤسّسة للدستور الفرنسي الخامس، خاصة من ناحية المساواة وتوازي الفرص والمعاملة. على الرغم من كلّ محاولات هذا اليمين التجميلية في طمس شيطنته، وتلطيف أدبيّاته اللفظية، من منطلق تكريس نفسه كنهج، وليس كفقاعة نزواتيّة، يمثّل على فكرة الدولة الفرنسية خطراً داهماً، ما لم تقرّر إدارة تنوّعها بشكل عقلاني وواقعي أكثر. يمتلك كذلك العديد من الطروحات التي تضعه بشكل مباشر في مواجهة الدستور نفسه ومجلسه الدستوري الضامن والحامي لهذه الجمهورية.
ستُدخل هذه الطروحات بشكل عاجل كلّ الإدارة الفرنسية، ومؤسّساتها الدستورية والتشريعية والإدارية، وكلّ الأحزاب والحراكيات الممثّلة في الجمعية الوطنية، وليس فقط الجبهة الوطنية، في متاهة عجز وعدم إنتاجية سياسية مرهقة تضع هذه الإدارة أمام كتلة كبيرة من الأزمات تتشكّل عبرها مناخات مقلقة من حالات الانسداد التشريعي، فيبرز توجّه حتمي في عدم حصد أيّ من الجهات الأغلبية المطلقة. فالاكتفاء بالأغلبية العددية لا يكفي، إذ ينتج مزيداً من الاستعصاء والضمور التنفيذي، مع تكرار حالة المساكنة غير المجدية.
يتحضّر المشهد لظهور حالات رفض كبيرة للقوانين والمراسيم والمشاريع. حتماً ستواجه القوانين المقدّمة من اليمين المتطرّف بالطعون والرفض والإسقاط عبر المجلس الدستوري، مع ازدياد حدّة الجدليات العقيمة تحت قبّة البرلمان، إذ سوف تتحوّل الجمعية الوطنية إلى سلطة تشريعية ببرلمانات متعدّدة بحيث تحسب كلّ كتلة نفسها مجلساً نيابياً خالصاً.
الأخطاء الماكرونية..
– لم يحافظ على الفجوة الجماهيرية، التي كوّنت الفريق الوسطي الذي ناصره في عام 2017، وساهم في دخوله الإليزيه، بل خسرها تدريجياً لمصلحة اليمين المتطرّف واليسار الراديكالي.
– أبعد قوى الوسط المعتدل من حوله. دمّر الحزب الجمهوري الديغوليّ. وشرذم اليسار المعتدل. وفتّت الحزب الاشتراكي. ولم يستفد منهم سوى اليمين المتطرّف واليسار الراديكالي.
– تخبّط في المناورات مع الجماعات الاحتجاجية، من السترات الصفر، إلى تظاهرات القطاعات الإنتاجية الزراعية والصناعية. تعامل بشكل غير مدروس مع حزب الخضر. دعمهم جميعاً بشكل مستتر لكي يساعدوه في تحجيم اليمين. ولكن ما حصل هو العكس تماماً.
– تعثّر في السياسة الخارجية. شكّلت تلك المعضلة الغذاء الأساسي في نموّ اليمين المتطرّف بسبب الضمور الفرنسي الدولي، والعجز في ملفّات الصحّة والهجرة والاقتصاد، إضافة إلى الصراعات بين النزعة الوطنية والقومية القارّية.
اليوم التالي من الانتخابات هو المهمّ
تعتبر هذه الانتخابات البرلمانية مصيرية جداً. إنّها استحقاق مفصلي في تاريخ السياسة الفرنسية الحديثة. لا تعود الأهمّية لها بالذات. بل إلى اليوم التالي والمرحلة المؤسّسة من بعدها. ستضع النظام السياسي والدستوري الفرنسي على مقاسات متحرّكة بحسب نتيجتها. من المرّات النادرة في المسرح الفرنسي أن يُعتبر النظام الفرنسي شبه رئاسي. لكنّه سيتحوّل إلى رئاسي مقنّع في حال فاز التحالف الرئاسي بالأغلبية المطلقة، وهذا صعب جداً. سيكون نظاماً برلمانياً عاجزاً إذا فازت المعارضة بالأغلبية. وستكون فرنسا أمام الانسداد السياسي في حال أفرزت الانتخابات كتلاً نيابية متساوية، ولم يحظَ أيّ تحالف بالأغلبية المطلقة.
يقدّم اليمين الجديد نفسه على أنّه الوسيلة المجدية من أجل إعادة السلطة إلى مصدرها الأصلي، أي إلى الشعب، بعدما استولت عليها النخبة الحاكمة الحالية التي استمدّت ضوء قوّتها من ضمور وفشل الأحزاب التقليدية المؤسّسة للجمهورية الفرنسية. في ظلّ الانفلاش الإضافي في خيبات الأمل، وانخفاض معايير الثقة بالأحزاب والمؤسّسات التقليدية في فرنسا، ينذر هذا الأمر بمشكلة كبيرة ومتراكمة. فقد تجنح الإدارة الفرنسية نحو المجهول السياسي.