تحقيقات: المصالح الجيوبوليتيكية لمصر وتركيا تكمن في السلم والسلام رغم ضبابية المشهد كتب د.مازن مجوز
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
ألقت تركيا حجر التنقيب عن الغاز والنفط في مياه البحر المتوسط، فإرتسمت فيه دوائر التوتر العالي، على خلفية الخطط التركية وضمنها إقامة أنابيب الغاز . وبالتالي، إرتفع منسوب إحتمالات المواجهة خصوصاً بعد توقيع أنقرة مع حكومة الوفاق الليبية نهاية العام 2019 إتفاقية لترسيم الحدود البحرية، ما أغضب مصر واليونان ودفعهما الى توقيع إتفاقية في 6 آب الماضي حول تعيين المنطقة الاقتصادية الخالصة بين الدولتين في شرق البحر المتوسط وهي منطقة تضم احتياطات واعدة للنفط والغاز، لتعترض تركيا على ذلك الاتفاق وتعتبره “لاغياً “و ” عديم القيمة ” وينتهك الحقوق الليبية.
هذه الإتفاقية تقطع الطريق على الآمال التركية في غاز المتوسط ونفطه، حيث أعلنت تركيا أن الاتفاقية تنتهك الجرف القاري التركي، ثم ما لبثت أن أرسلت سفنها للتنقيب قرب الجزر اليونانية.
توازياً، تُعد هذه الاتفاقية بين مصر واليونان، إمتداداً لمنتدى شرق البحر الأبيض المتوسط الذي يستنثي تركيا. وقد شُكل هذا المنتدى ومقره القاهرة، في كانون الثاني 2019 ، ليضم وزراء الطاقة في دول شرق المتوسط : مصر وفلسطين والأردن وإسرائيل وقبرص واليونان وإيطاليا.
وتتلخص المنافسة على الغاز والنفط فى شرق المتوسط بين تكتلين: الأول يضم إسرائيل مع الدول العربية وقبرص واليونان، ويفرض سيطرته على ثلاثة حقول مركزية، والثاني والحديث نسبياً يضم تركيا مع ليبيا؛ ويبدو أن التكتل الأول يمضي بخطوات أسرع لقطع طريق التكتل الثاني.
التهدئة ضرورية جدا
من رؤية إستراتيجية، تعتبر مصر وتركيا أكبر دولتين في شرق البحر المتوسط ؛ بالإضافة إلى إيران، ويشكلان ما يقرب من نصف إجمالي سكان الشرق الأوسط برمته. كما تمتلك الدولتان أكبر قوة عسكرية ما يجعلهما أقوى قوتين عسكريتين تقليديتين في هذه المنطقة .
وتصنف القاهرة وأنقرة من أهم عواصم صنع القرار في العالم الإسلامي، فالقاهرة تضم مؤسسة الأزهر الشريف، أهم جامعة إسلامية في العالم، والتي تعد أحد أهم أدوات القوة الناعمة المصرية، بينما كانت تركيا موطن آخر خلافة إسلامية، وينظر إليها الآن من باب الحنين الخاص في كل أنحاء المنطقة.
وتخوفاً من تطور التوتر والإضطراب إلى مواجهة عسكرية، فلا شك بأن التهدئة المتعلقة في ملف استكشافات الغاز والنفط في هذه المنطقة ضرورية جداً، وإلا لما رأينا التدخل الدبلوماسي من الدول العظمى كالولايات المتحدة وروسيا وفرنسا في الملف، من دون أن ننسى أن لهذه الدول وللدول المتشاطئة في شرق المتوسط مصالح تعمل على تحقيقها أو تعزيزها وحمايتها. وتعد تركيا ومصر من أبرز هذه الدول، وقد رأينا مثلاً كيف حرص لبنان على أن تسود حالة السلم مع اسرائيل وليس الحرب من أجل المباشرة بالإستثمار في بلوك رقم 9 من دون حصول أي نزاعات معها، بعد إعلان رئيس مجلس النواب اللبناني عن إتفاق إطار بين لبنان وإسرائيل لترسيم الحدود البحرية بين البلدين مطلع الشهر الحالي.
في المقابل، هناك من إستبعد لجوء أي من هذين الفريقين الى حرب من جديد، في ظل إنتشار المنشآت البحرية ومشاريع الانابيب المنتظر أن تنقل الغاز والنفط الى المستهلك الاوروبي عبر المياه الاقليمية لأكثر من دولة متشاطئة على البحر المتوسط ..
هذا النموذج الحديث، يشكل نموذجاً من نماذج كثيرة عن قوة المصالح النفطية في جمع الاضداد التي تضع الخلافات السياسية جانباً، فهل يشكل الخلاف الحاصل بين الكثير من الدول المتشاطئة في منطقة شرق المتوسط حول الغاز والنفط مدخلاً الى السلام أكثر منه مدخلاً الى الحرب خصوصاً بين الخصمين اللدودين مصر وتركيا ؟ ومن هي الدولة ” المفتاح ” التي ستدفع بهاتين الدولتين نحو السلم والإستقرار بدل التوتر والإضطراب، ويكون لها التأثير الأكبر في دفع كل منهما في هذا الاتجاه ؟.
الخلافات متشعبة ومتجذرة
قبل الدخول في هذه الإشكالية، ومن أجل مقاربتها بشكل موضوعي وواقعي ، لا بد من الإشارة إلى ان الصراع على الغاز في شرق حوض البحر الأبيض المتوسط يمتاز بتداخل أبعاده المختلفة السياسية والاقتصادية والقانونية والأمنية مع بعضها البعض، ما يجعله صراعاً معقداً وقابلاً للإشتعال، خصوصاً مع تنوع هويات اللاعبين المحلية والإقليمية والدولية ، ووجود خللٍ هائل في توازن القوى بين أفرقاء الصراع بالإضافة إلى مصالح اقتصادية ضخمة للمنخرطين فيه.
وفي هذا السياق يُعلق الاكاديمي والخبير في الشؤون التركية الدكتور محمد نور الدين في حديث لصحيفة ” Skonic ” الإلكترونية :” الخلاف بين تركيا ومصر لا يقتصر على مجال الطاقة وخطوط إمدادها وتحالفاتها، لأن هذا المجال هو أحد الخلافات القائمة بين البلدين، وعلى رأسها دعم تركيا لجماعة الاخوان المسلمين في مصر والعالم العربي، وفي عدم إعترافها بحكم عبد الفتاح السيسي واعتباره إنقلابياً وليس ديمقراطياً”، لا بل وصفته بالنظام غير الشرعي، ومنذ 3 يوليو 2013 وحتى اليوم، لا تزال العلاقات الثنائية بين البلدين تمر بأزمة شديدة التعقيد.
هذا الخلاف ينسحب أيضاً على معظم دول الخليج لا سيما المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، باعتبار أن مصر هي جزء من هذا الحلف العربي المصري الخليجي ضد تركيا بشكل عام، وتُشكل ليبيا إحدى أبرز ساحات هذا النزاع وفق نور الدين .
بدوره يؤكد الاستشاري في المفوضية الاوروبية والمحاضر في كلية باريس للأعمال والدراسات العليا الدكتور محي الدين الشحيمي، في حديث لصحيفة ” skonic” الإلكترونية، أن ” تركيا أصيبت في الماضي بخيبة أمل من عدم دعم مصر لأنقرة بشأن القضايا المتعلقة بقبرص، فيما إستاءت مصر كذلك من شراكة تركيا الوثيقة مع الكيان المحتل، والتي فاقت باشواط العلاقات المصرية العبرية وهذا يعكس دلالات في المنافسة” .
ولطالما إتسمت العلاقات المصرية – التركية بعدم الثبات، فكانت تمر ب” مد وجزر سياسي” حتى يمكننا القول إن لكل مرحلة من هذه”الحالة” حسب ظروفها ومتغيراتها وأولوياتها، لكنها بالإجمال هي علاقات متوترة منذ العصر العثماني، فلطالما واجه الاتراك صعوبة في السيطرة على مصر، فيما طموح السيطرة على النفط يستحوذ على تفكير القيادات السياسية في هذين البلدين.
ويرى الشحيمي أن المنافسة الودية إستمرت حتى نهاية الحرب الباردة، وانعكست على الصعيد الاقتصادي فقد تميزت العلاقات بين البلدين بمعيار التعاون والثبات الجيد وخصوصاً بين العامين 2002 و 2013 .
من هنا يتبين أن الخلافات متشعبة ومتجذرة بين البلدين، وفي هذا يشير الشحيمي أن تركيا إنتهجت في العصر الحديث سياسة موالية للشرق الأوسط بشراسة، مع تسلم حزب العدلة والتنمية الحكم 2002، ففي ذلك العام بدأت تركيا بالتنازل رويداً عن نموذج أتاتورك والمنفتح على أوروبا فقط، ووضعت نفسها في سجالات حساسة في وسط الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لافتاً إلى أنها نسجت علاقات مع العديد من الأحزاب التابعة لجماعة “الإخوان المسلمين” في الشرق الأوسط، بدءاً من “حركة حماس” إلى “الإخوان المسلمين” نفسها في ليبيا وحتى مصر، وهنا بدأ الزحام يتحول الى توتر شديد اللهجة وعدم ثبات في العلاقات، كاد ان يتحول الى صدام في بعض الاحيان وخصوصاً في مناطق النفوذ خارج الدولتين .
هذا الأمر- أي الصراع في مسألة الاخوان المسلمين- يرى فيه نور الدين ساحة توتر أخرى، مضيفاً عليها العلاقات مع ايران، فالعلاقات التركية – الإيرانية تتسم بالإيجابية، فيما تعتبر السعودية ومعظم دول مجلس التعاون الخليجي ( بإستثناء قطر) من الدول الاكثر عداءً لايران في المنطقة.
الولايات المتحدة هي مفتاح الحل
وإذا ما وضعنا كل هذه العوامل وبقية العوامل التي تعد عوامل” خصام ” في سلة واحدة، فإننا نجد أن المصالح الاقتصادية خصوصاً قد تتقدم على الخلافات الاخرى إن كانت سياسية أو تاريخية بين الدول لا سيما إذا كان احد هذين البلدين بحاجة ماسة الى تأمين وارداته الطاقة التي يفتقر اليها، وهذا ما ينطبق على تركيا. ولكن مقدار تشكل المصالح الاقتصادية عامل تلاقٍ وليس عامل خصام في ما بينها في المبدأ صحيح، إنما نجد في تطورات شرق المتوسط نموذجاً مغايراً لهذا الامر، بحسب نور الدين.
في موازاة ذلك تستبعد مصادر مطلعة في حديث لصحيفة ” skonic ” حصول صراع مسلح بين دول المنطقة، عازيةً ذلك الى كون الجميع يهمه التفاوض لتحقيق أكبر المكاسب من خلال ما يسمى” سياسة رفع السقف ” سقف الشروط، مشددة على وجوب الإنتباه لمعادلة قائمة ” هناك بين هذه الدول من تعد قوية إقتصادياً يقابلها دول تعاني من انهيار إقتصادي أو على وشك الإنهيار إقتصادياً، وفي هذه الحالة الدول القوية ستستغل هذا الفارق لفرض شروطها على طاولة المفاوضات” .
وتعزز هذه المصادر رأيها بالقول ” إن الولايات المتحدة الاميركية “تمون” على تركيا ومصر ، فيما روسيا ولو كانت تجمعها علاقة جيدة في بعض ملفات المنطقة، إلا أن لا تمون بنفس المقدار الذي تمون فيه الولايات المتحدة على مصر، علماً أن مصر كدولة عربية لا تزال تتوجس من الدور التركي المترامي الذي وصلت حدوده الى ليبيا”.
ووفق نور الدين فإن التقارب الروسي- التركي شهد بعض التفاهمات في مناطق، وشهد بعض الصراعات في مناطق اخرى، فهو شهد صراع في ليبيا والقوقاز، ويشهد صراع متفاوت في الوقت نفسه في سوريا شارحاً “تركيا ليست مرتاحة للموقف الروسي من الصراع اليوناني –التركي، لذلك لا يمكن ان نضع العلاقات التركية- الروسية في موضع إيجابي وأحادي بشكل عام “، كاشفاً أنه وفي النهاية فإن أي تقدم للمصالح الروسية في مصر هو أمر غير مرغوب به من جانب الولايات المتحدة الاميركية، لهذا السبب لا نلاحظ تطوراً في العلاقات الروسية المصرية بالشكل الكافي، لأن مصر تبقى رهينة للسياسات الغربية والاميركية.
هذه العطيات تقود نور الدين للقول بأن البلد الوحيد الذي له علاقة مقبولة بين مصر وتركيا هو الولايات المتحدة، فهي تمون على مصر بشكل كامل، ولكن الولايات المتحدة يمكن أن تشكل أذى لتركيا اذا لم تتجاوب معها في بعض الملفات، بينما تركيا تحاول نيل سياسة إستقلالية ولكن في لحظة معينة هي تخشى الولايات المتحدة، لتبقى هذه الأخيرة البلد الوحيد الذي يشكل مفتاح السلم والسلام بين البلدين، من دون أن ننسى أنه لا يمكن إيجاد حل لأي من المشاكل العالقة ( الآنفة الذكر ) وبشكل منفرد ، من دون حل لسلة العناوين الأخرى.
“المصلحة” أقوى من المواجهة
وفي الختام يشدد الشحيمي أن المنافسة الإقليمية على الثروات الطبيعية في منطقة شرق البحر المتوسط، لا سيما بين مصر وتركيا ستبقى محكومة بالمصلحة الجيوبوليتيكية لكلا البلدين، والمنافسة ذاتها ستشكل مدخلاً للحل والسلم للبلدين – ولو طال الزمن لكي نرى ملامحه تترجم على أرض الواقع – من اجل الجلوس وفتح الملفات بجدية والبدء بحلحلتها وخصوصاً ان الطرفين يملكان العديد من الاوراق الرابحة والقوية. مضيفا “وما الرد المصري الذي جاء ندياً على تركيا باقصائها من منتدى غاز الشرق الاوسط سوى عامل ضغط لحثها على تغيير نهجها وتشجيعها على الحوار، وخصوصاً أن قبرص اليونانية موجودة في الاتفاق، وإقصاء قبرص التركية هي دلالة واضحة للضغط على تركيا .
وبرأيه فإن” الاتفاق” هو الشرط المطلوب في النهاية، ذلك ان الثروات النفطية لا يُستفاد منها الا في حالات السلم والطمأنينة والاستقرار، ويتابع” الشركات الكبرى لا تستثمر الا في البيئات الآمنة، والتي تعطيها مجال حيوي وزمني لتنفيذ مشاريعها، ولهذا العامل وغيره يتحتم على مصر وتركيا الاتفاق والابتعاد عن الفوضى والمشاحنات لتشكل معادلة “المصلحة” الباب الحقيقي للإستفادة المشتركة والبناءة .
هذا التحول – في حال حصوله- سينعكس على مستوى الشعبين راحةً واستقراراً إجتماعياً خصوصاً أن الدولتين ذات الاغلبية المسلمة السنية، وهذا عامل إستراتيجي وديمغرافي حساس جداً. لتبقى الرفاهية مرهونة بالسياسة الإقتصادية لكل من الدولتين، ونموذجها التحفيزي، بالإستفادة المشتركة والعامة لهذه الثروة لصالح النفع العام دولةً ومؤسسات.
رابط المقال اضغط هنا