مع قرارِ الرئيس الأميركي جو بايدن عَدَم الترشُّحِ لإعادةِ انتخابه –وهو أول رئيس شاغل للمنصب يفعل ذلك منذُ الرئيس ليندون جونسون في العام 1968- أصبحت نائبة الرئيس كامالا هاريس الآن المُرَشَّحة المُفتَرَضة للحزب الديموقراطي. مع ذلك، لن يُصبِحَ هذا الترشيحُ رسميًا إلّا بعدَ انعقاد المؤتمر الوطني الديموقراطي في 19 آب (أغسطس)، علمًا أنَّ هاريس ما زالت تفحصُ وتدرُسُ ملفّات المرشَّحين المُحتَملين لمنصب نائب الرئيس. علاوةً على ذلك، نظرًا لأننا لا نزال لا نعرفُ الكثير عن نظرتها للعالم، فمن الصعب التنبُّؤ بالاتجاه الذي ستتخذه السياسة الخارجية لإدارة هاريس المُحتملة. لذا، في الوقت الحالي، يسود عدم اليقين بشأن ما سيُقدّمه الحزب الديموقراطي للناخبين عندما يتعلق الأمر بسياسة أميركا الخارجية.
ما نعرفه هو البديل المعروض في تشرين الثاني (نوفمبر). قبل أيام (من 15 إلى 18 تموز/يوليو)، اختتمَ الحزب الجمهوري مؤتمره الوطني، حيث تمَّ ترشيحُ دونالد ترامب رسميًا كمُرشَّحٍ للحزب للرئاسة وتمَّ اختيار السيناتور جاي دي فانس (جايمس دايفيد فانس) رسميًا كنائبٍ له.
ماذا كَشَفَ المؤتمر عمّا يُمكِنُ للعالم أن يتوقَّعهُ من فترةِ ولايةٍ ثانية مُحتَملة لترامب؟ باختصار: المزيد من الشيءِ عينه.
لنبدأ باختيار ترامب لفانس كمُرشَّحٍ لمنصب نائب الرئيس. خلال فترةِ عمله القصيرة كعضوٍ في مجلس الشيوخ، أعرب فانس عن تشكُّكهِ في قدرة الولايات المتحدة على “القيام بكلِّ شيءٍ في وقتٍ واحد”. ورُغمَ أنه لم يُصدِر دعوةً عامة للانعزالية، فقد اقترحَ فانس أن تتراجَعَ أميركا عن بعضِ التزاماتها القائمة ــوخصوصًا الضمانات الأمنية الأميركية لأوروبا عمومًا والمساعدات العسكرية لأوكرانيا على وَجهِ التحديد ــ بسبب شَحِّ الموارد. لكن ربما لا يجب أن نقرأ الكثير عن اختيار فانس. إذ بشكلٍ عام، تتمثّلُ المهمّة الأساسية لنائب الرئيس في اتباع وتنفيذ قيادة وتعليمات الرئيس. ومع فانس على وجهِ الخصوص، من الأهمية بمكان ألّا نقرأ الكثير عمّا قاله أصلًا عن تفضيلاته في السياسة الخارجية. في نهاية المطاف، هذا شخصٌ أشارَ قبل بضع سنوات فقط إلى أنه “يكره ترامب”، وشَبّههُ بأدولف هتلر. والآن أصبح فانس نائبًا لترامب ويبدو أنه يستمتع بصحبة الرئيس السابق. ولعلَّ فانس غيَّرَ رأيه عندما تعرَّفَ على ترامب. وربما يكون مُجرّدَ شخصٍ انتهازي. في كلتا الحالتين، يُشيرُ هذا إلى أنَّ آراءَ فانس الشخصية من غير المرجح أن تُتَرجَمَ إلى نتائج في السياسة الخارجية إذا أصبح نائبًا للرئيس.
هذا يقودنا إلى وجهات نظر السياسة الخارجية التي عبّرَ عنها ترامب نفسه، أثناء حملته الانتخابية، وخلال مناظرته في حزيران (يونيو) مع بايدن، وفي خطاب ترشيحه، والذي كرر فيه الكثير مما قاله من قبل، في حين سجّلَ رقمًا قياسيًا في مدّته.
بعدَ أن افتتح الخطاب بروايةٍ صريحة ومُفاجِئة عن محاولة اغتياله، التي حدثت قبل أقل من أسبوع، انتقلَ ترامب في النهاية إلى لبِّ الخطاب. ومن بين التصريحات الجريئة التي استمرَّ في الإدلاء بها، إعلانه أنَّ “الولايات المتحدة ستحظى بالاحترام مرّةً أخرى”، وأنَّ “أيَّ دولةٍ لن تُشكّكَ في قوّتها” وأنه، بصفته رئيسًا، “سيستعيدُ السلام والاستقرار والوئام في جميع أنحاء العالم”. كلُّ هذا يبدو جيدًا، بل رائعًا. ولكن كيف سيُحقّقُ ذلك؟
على الرُغمِ من أن ترامب زَعَمَ أنَّ الولايات المتحدة بحاجة إلى قيادةٍ جديدة، إلّا أنَّ خطابه الترويجي للسياسة الخارجية لم يكن قائمًا على أفكارٍ جديدة. كان في الأساس إعادةَ تشغيلٍ للنصِّ الذي استخدمه في المرة الأولى.
في المؤتمر، عادت مواضيع بارزة من حملته الرئاسية الأولى في العام 2016 إلى الظهور، مثل “بناء الجدار” و”الحفر، يا صغيري، الحفر”. عاد مرارًا وتكرارًا إلى مواضيع أساسية من ولايته الأولى في المنصب، مثل إلقاء اللوم على المهاجرين في مشاكل البلاد ووصفهم بالقوة الغازية؛ وانتقاد الحلفاء في حلف شمال الأطلسي (ناتو) لكونهم بخيلين ويستنزفون موارد أميركا؛ وانتقاد الصين، على حدّ تعبيره، لتمزيق الولايات المتحدة. كلُّ هذا مألوفٌ جدًا من ترامب.
في حديثه عن قضيتين رئيسيتين نشأتا منذ رئاسته ــالحرب في أوكرانيا والحرب في غزة ــ تحدّثَ ترامب مُطَوَّلًا، لكنه لم يُقدِّم سوى القليل من التفاصيل. فقد زَعَمَ أنه سوف “يُنهى كلَّ أزمةٍ دولية” تجتاح العالم حاليًا، لكنه لم يَذكُر كيف. وأصرَّ فقط على أنَّ هذه الأزمات “ما كانت لتحدث أبدًا لو كان هو رئيسًا”. وزَعَمَ أنَّ رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان أخبره أنَّ روسيا والصين تخافان منه، وأنَّ شيئًا “لم يكن ليحدث” لو ظلَّ في منصبه لفترة ولاية ثانية متتالية. وقد أدّى هذا إلى أفضل سطرٍ له في الخطاب ربما: “في عهد الرئيس (جورج) بوش، غزت روسيا جورجيا. وفي عهد الرئيس (باراك) أوباما، استولت روسيا على شبه جزيرة القرم. وفي عهد الإدارة الحالية، أصبحت أوكرانيا في نهاية المطاف جُزءًا من روسيا. وفي عهد الرئيس ترامب، لم تستول روسيا على أي شيء”. وهو سطرٌ جيد، لكنه في نهاية المطاف غير قابل للاختبار والتحقق. ولن نعرفَ أبدًا ما إذا كان وجود ترامب في البيت الأبيض كان ليمنع غزو روسيا لأوكرانيا في شباط (فبراير) 2022 أو كان ليجعل “حماس” تُفكّرُ بشكلٍ آخر وتمتنعُ عن مهاجمة إسرائيل في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023. لكن ما نعرفه هو أنه مع اندلاع هاتين الحربين الآن، فإنَّ التصريحَ الوحيد لترامب بشأن ما سيفعله إذا فاز بولايةٍ ثانية هو الإصرار على أنه يستطيع “وقف الحربين بمكالمة هاتفية”. ومرة أخرى، يبدو الكثير من هذا مألوفًا، ليس فقط لأولئك الذين تابعوا الحملة الإنتخابية الحالية عن كثب، ولكن لأيِّ شخصٍ يتذكّر سياسات وخطابات ولاية ترامب الأولى. لا يشيرُ أيٌّ من تصريحاتِ ترامب الجريئة هذه المرة إلى أيِّ أفكارٍ جديدة.
قد يكونُ السبب في ذلك أن ترامب ببساطة لم تَعُد لديه أفكارٌ جديدة. لكنه قد يعتقدُ أيضًا حقًا أنَّ ما فعله في المرة الأولى قد نجح. وكما ذكر خلال المناظرة مع بايدن، فإنَّ كلَّ شيءٍ في البلاد وحول العالم “كان جيدًا” عندما ترك منصبه في العام 2021. لكن هذا البيان قابل للنقاش في أفضل الأحوال. كانت جائحة كوفيد-19 لا تزال تُخلّفُ دمارًا محليًا ودوليًا. كانت الصراعات لا تزال مستعرة في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك في منطقة دونباس في أوكرانيا وأجزاء من سوريا، حتى لو لم تكن قد بلغت ذروتها كما في السنوات القليلة الماضية.
قد يكونُ من المبالغة القولُ بأنَّ ولاية ترامب الثانية لن يكونَ لها تأثيرٌ يُذكَر على السياسة الخارجية للولايات المتحدة. لكن يبدو من الواضح أن ولاية ترامب الثانية لن يكونَ لها تأثيرُ يذكر على السياسة الخارجية لترامب. لن تكونَ مجرّد صدى للسياسة الخارجية لولاية ترامب الأولى. بل ستنسخها.