الاحدثدولي

ترامب جديد يولد في ألمانيا: بلاد الرايخ فوق الجميع | بقلم د. محيي الدين الشحيمي

انقلب الألمان على حكم يسار الوسط والحكومة الاشتراكية. استاؤوا كثيراً من طريقة إدارة ملفّات الهجرة واللجوء. امتعضوا أيضاً من الرعونة في التعاطي مع المشاكل الاقتصادية. انتخبوا اليمين المحافظ. يريدون ألمانيا الأوروبيّة، فيما فُتحت الأبواب أمام تقدّم الأحزاب المتطرّفة من اليسار إلى اليمين. إنّها نقطة تحوّل مهمّة في تاريخ ألمانيا قد تجعل من الوصول إلى تسوية أمراً غامضاً، على الرغم من الاتّفاق الضمنيّ على عدم جواز نقل العداوات الانتخابية إلى كواليس تشكيل الحكومة. فهل يكون فريدريش ميرتس صاحب المرحلة؟

من هو فريدريش ميرتس؟

كاثوليكي متديّن. قرويّ وفيّ. ما زال يعيش إلى الآن بالقرب من مسقط رأسه. يمينيّ محافظ، ومحارب عنيد لاستقلالية ألمانيا. يؤيّد الأفكار الاتحاديّة الأوروبية، ومقرّب جدّاً من أميركا. جدّه لوالده نازيّ سابق، ثمّ تحوّل إلى الحزب المعتدل الكاثوليكي الوسطيّ. كان والده قاضياً محلّيّاً سابقاً، وعضواً في حزب الاتّحاد الديمقراطي المسيحي. يوصف بأنّه صاحب ميول وقيم وسطية في السياسة العامّة، لكنّه شرس في الصميم، وفي الخفاء متطرّف ألمانيّ.

يرجع أصل تكوين عائلته إلى الرومانية. وتمتلك خلفيّة سياسية متينة وصلبة. أبصر النور في قرية بريلون في ريف ولاية رينلند التي تتبع لمقاطعة “وستفاليا” الشهيرة تاريخياً في معاهدة الصلح التي أنهت التحارب الديني الأوروبي الدمويّ. مارس السياسة بعمر مبكر، وانتسب في سنّ المراهقة إلى الحزب الديمقراطي المسيحي. أدّى الخدمة العسكرية الألمانية الإلزامية في سلاح المدفعيّة.

يعدّ خصماً عنيداً لحزبَي “البديل” و”الاشتراكية”، وهو سياسي بارز مع توجّهات عنيفة ضدّ الهجرة ومتشدّدة إزاء اللاجئين. وجّه بسببهما انتقادات لاذعة إلى رئيسة حزبه والمستشارة السابقة أنجيلا ميركل قبل عقد من الزمن. حمّلها مسؤوليّة دخول المئات من آلاف اللاجئين ألمانيا. أصبح في عام 1989 عضواً محافظاً في البرلمان الأوروبي. وتمّ انتخابه بعد خمس سنوات مشرِّعاً ألمانيّاً في البرلمان الاتّحادي “البوندستاغ”.

هو داعم قويّ لأوكرانيا، ومحبّ جدّاً لأميركا. لم يسبق في التاريخ الألماني الحديث أن برزت شخصية سياسية ألمانية بهذا القرب من أميركا. لكنّه مولع بالسياسات الاتّحادية الأوروبية ومسلّح بشعار “ألمانيا أوّلاً”. بزغ فجره من أروقة المصارف، وناطحات سحاب الشركات الماليّة الكبرى. وتحوّل منها إلى السياسة التشريعية. يُعرف بكونه “الطيّار المليونير” بسبب عمله محامياً في مجال الشركات والبنوك. تبوّأ مراكز رفيعة جداً في العديد من مجالس إدارات الشركات الكبرى. توّج مسيرته برئاسة الفرع الألماني من الذراع الأوروبي لشركة الاستثمار الأميركية الكبرى “بلاك روك”.

يحوز ميرتس شعبية وافرة في ألمانيا. يصفه المحافظون في الحزب الديمقراطي المسيحي بـ”أمل ألمانيا المستقبلي”. يعرف بالخطيب المفوّه والذكيّ. تمركز على هرم الحكم التنفيذي في ألمانيا، بعد انقطاع عن السياسة دام اثني عشر عاماً. كان نائب أنجيلا ميركل ومنافساً لها. توقّف صعوده السياسي وانتهى في عام 2002 حين خسر الصراع على السلطة بعد تأييد الحزب لميركل في خوض الانتخابات. عندها قرّر تعليق عمله السياسي، وانغمس في العمل المهنيّ، وركّز على اكتساب الخبرات والمهارات. عاد من جديد إلى الوسط السياسي في برلين في العام الذي تنحّت فيه ميركل عن منصب رئيسة الحزب.

تحدّيات العهد

حقّق ميرتس، المستشار الألماني المنتظر، انتصاراً تاريخياً مع حليفه البافاري “الحزب المسيحي الاجتماعي”. أعادوا ألمانيا إلى حكم اليمين المحافظ بعد سنوات حكم اشتراكية تكلّلت بالتردّد والوهن واللايقين. يعتبر تحدّي ميرتس الجوهري هو تحويل ضعف أولاف شولتز إلى قوّة من جديد. يريد استعادة الأهمّية الألمانية في العالم بعدما تبدّدت وخسرتها أمام حلفائها وأصدقائها وعلى رأسهم أميركا. يرفض التحالف مع حزب البديل اليميني المتطرّف. على الرغم من ذلك يخاصمه حزب الخضر والحزب الاشتراكي بتشدّد لأنّهما يريان فيه ممرّاً واسعاً لسيطرة أقصى اليمين على القرار السياسي الألماني. وصف المحاولة الأميركية لإبرام صفقة مع روسيا بشأن أوكرانيا من وراء أوروبا، بالحركة الخبيثة وغير المقبولة.

يتعهّد الرجل السبعينيّ إعادة ألمانيا إلى لعب الأدوار الرياديّة ببروزها أكثر في الاتّحاد الأوروبي والحلف الأطلسي. يطمح إلى تحقيق علاقة متناغمة تامّة مع فرنسا. ويبتغي تحصينها بشكل أفضل مع بولندا. يتوجّه بكلّ حزم، خاصّة بعد تشكيل الحكومة، إلى إعلان مواقف وإجراءات شديدة اللهجة تجاه الصين.

يقبض “ترامب ألمانيا” فريدريش ميرتس على أزمة الحكم الألماني الملتهبة، فيما اليمين المتطرّف يتقدّم بشكل قياسي وخطير على المستوى الأوروبي في الدول والاتّحاد. تعاكسه انقسامات سياسية عمودية، وضيق أفق في الخيارات السياسية الشديدة المحدوديّة.

قائد أوروبا الجديد

تنشأ العقبات أمام ميرتس منذ بداية ولايته، التي لن تكون مسهّلة أبداً، بعدما تحوّل البرلمان الاتّحادي إلى مجموعة من المجالس التشريعية. وتعتبر كلّ كتلة نفسها مجلساً خالصاً. يحتاج ميرتس إلى بناء تحالف نافع وغير مفخّخ. يُلزمه القانون توفير 316 مقعداً، ولذا لا بديل عن التحالف من أجل تشكيل حكومة، قد تطول فترة ولادتها.

تتمثّل إحدى أهمّ الصعوبات أمام ميرتس وحكومته العتيدة بقدراته على تذليل كلّ المخاوف من الهجرة ومعالجة أغلبيّة المعضلات الاقتصادية، وإلى تجفيف العراقيل من أمام خطوات النموّ المستدام التشابكي، علاوة على تعبيد الطريق أمام الفكر الوسطي المحافظ، الذي يوازن بين فكرة ألمانيا الوطنية والاتحادية، إضافة إلى العلاقات الواضحة مع الأطلسي، خاصة لجهة الإنفاق العسكري والتحالف الأمنيّ مع أميركا، وبين الاستقلال الاستراتيجي الاتحادي، وإلّا فسوف يُطبِق البديل اليميني المتطرّف على الحكم الألماني.

يعتبر ميرتس نقيضاً لميركل على الرغم من أنّه كان نائبها في السابق. يختلفان في رؤى وقراءة العديد من الملفّات والمسوّدات التنفيذية. أخذ على عاتقه تنفيذ الانحراف الألماني الوجودي في الكثير من القضايا الأساسية، لا سيما إجراءات مكابح الديون، واسترجاع نمطيّة المواجهة المباشرة، وليس من الخلف. يصرّ على أنّ أوروبا القويّة هي في مصلحة الولايات المتحدة. فهل يستطيع ميرتس إنقاذ ألمانيا؟ وهل يكون هو القائد الأوروبي الجديد؟

د. محي الدين الشحيمي، استاذ في كلية باريس للأعمال والدراسات العليا

الدكتور محي الدين محمود الشحيمي، دكتوراه في القانون جامعة باريس اساس في فرنسا. عضو لجنة التحكيم في مدرسة البوليتكنيك في باريس. محاضر في كلية باريس للاعمال والدراسات العليا واستاذ زائر في جامعات ( باريس 2 _ اسطنبول _ فيينا ). خبير دستوري في المنظمة العربية للقانون الدستوري مستشار قانوني واستراتيجي للعديد من الشركات الاستشارية الكبرى والمؤسسات الحكومية الفرنسية كاتب معتمد في مجلة اسواق العرب ومجلة البيان والاقتصاد والاعمال ومجلة الامن وموقع الكلمة اونلاين . رئيس الهيئة التحكيمية للدراسات في منصة الملف الاستراتيجي وخبير معتمد في القانون لدى فرانس 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى