لا أُشارِكُ التفسيرَ الذي قَدّمهُ الرئيس الأميركي المُنتَخَب دونالد ترامب حول استيلاء تركيا على أراضٍ في سوريا، بما يتجاوزُ التدخُّل التركي منذ اندلاع الحرب في هذا البلد. فتركيا كما روسيا وإيران والولايات المتحدة، وأخيرًا إسرائيل، تدخّلت لحمايةِ مجموعةٍ من المصالح وتعبئةِ فراغٍ ساهمت مع غيرها في صناعته في ظلِّ تَفكُّكِ نظامٍ عاشَ أكثر مما يجب.
تصريحُ ترامب، الذي أشار فيه إلى أنَّ تركيا “ذكية جدًا” لاستيلائها “الودَي” على أراضٍ في سوريا بدونِ خسارةٍ كبيرة في الأرواح، يُثيرُ العديدَ من التساؤلات الأخلاقية والقانونية والسياسية. هذا التصريحُ يفتحُ البابَ أمامَ نقاشٍ عميقٍ حول معايير الشرعية الدولية وكيفية تقييم الأحداث التي تنطوي على احتلالٍ أو استيلاءٍ لأراضي دولةٍ اخرى.
من وجهةِ نظرٍ أخلاقية وقانونية، لا يُمكنُ أن يُقاسَ الحقُّ بالذكاءِ أو الحيلة. فالقوانينُ الدولية وميثاقُ الأمم المتحدة يَنُصَّان بوضوحٍ على أنَّ السيادة الوطنية ووحدة أراضي الدول يجب أن تُحتَرَم. الاستيلاءُ على أراضي دولةٍ أخرى بالقوة، حتى لو تمَّ بطريقةٍ “ذكية”، يظلُّ انتهاكًا للقانون الدولي. إنَّ وَصفَ ترامب تركيا بالذكاء يُظهِرُ توجُّهًا براغماتيًا بحتًا، يتجاهلُ المبادئ الأساسية للعدالة والسيادة، ويُقدِّمُ صورةً تعكسُ كيفَ يُمكِنُ أن تكونَ الأولوياتُ السياسية مدفوعةً بالنتائج بدلًا من القِيَم.
الاستيلاءُ، بحُكمِ تعريفه، ينطوي على انتهاكِ سيادةِ الدولة المُستَهدَفة، وبالتالي لا يُمكنُ وصفه بالودّي. حتى لو تمَّ بدونِ إراقةِ دماء، فإنَّ هذا لا ينفي حقيقةَ أنه فعلٌ قسري وغير مشروع. إنَّ مُصطَلحَ “الاستيلاء الودّي” يتناقَضُ مع جوهرِ القانون الدولي الذي يسعى إلى حمايةِ حقوق الدول والشعوب، وبالتالي فإنَّ محاولاتَ تلطيفِ هذه الانتهاكات بالاعتمادِ على مُفرداتٍ مثل “الذكاء” أو “الودّية” تعكسُ نزعةً لتبرير السلوك العدائي للدول القوية على حساب الدول الأقل قوة والأضعف.
التركيزُ على خسائر الأرواح كمعيارٍ لتقييم الاستيلاء على أراضي دولة أخرى يُمثّلُ تبسيطًا مُخِلًا للمسألة. الموقفُ من هذه الأحداث يُبنى على أُسُسٍ قانونية وأخلاقية، حيث لا يُمكِنُ تجاهل الأضرار السياسية، الاقتصادية، والاجتماعية طويلة الأمد التي تَلحَقُ بالسكان المحليين. إنَّ تقليلَ الخسائر البشرية لا يُضفي شرعيةً على فِعلٍ غير مشروع، بل قد يكونُ مجرّد محاولةٍ لتخفيف الإدانات الدولية المُحتَملة.
في حالِ تبنّي المجتمع الدولي لمنطق “الاستيلاء الودّي”، فإنَّ ذلك يفتحُ البابَ لتبريرِ المزيد من الانتهاكات، خصوصًا من القوى الكبرى. إذا كانت الدولُ القويّة قادرةً على انتهاكِ السيادة من دونِ عقاب، فإنَّ ذلك يُقوِّضُ النظامَ الدولي القائم على الاحترامِ المُتبادَل للقوانين، مما يُهدّدُ الاستقرارَ العالمي ويُعزّزُ ثقافةَ الهيمنة.
القانون الدولي لا يُبنى على براعةِ أو ذكاءِ الدول، بل على مبادئ العدالة والمساواة. إنَّ تقييمَ الأفعال الدولية بناءً على الذكاء أو الحيلة يُشَوِّهُ الهدفَ الأساس للقانون الدولي، الذي يهدفُ إلى خلقِ نظامٍ عالمي مُستَقر. إذا أصبحَ الذكاءُ مقياسًا للشرعية، فإنَّ ذلك يعني نسف المبادئ الأساسية التي تَحكُمُ العلاقات الدولية، مما يؤدّي إلى نظامٍ أكثر فوضوية.
تصريحُ ترامب ليس مجرّد تعليقٍ عابر؛ بل يكشفُ عن نهجٍ براغماتي يُعيدُ تعريفَ الشرعية الدولية بناءً على القوة والنتائج بدلًا من المبادئ. تَبَنّي هذا المنطق يُهدّدُ بتَقويضِ النظامِ الدولي القائم، ويفتحُ البابَ أمامَ صراعاتٍ جديدة تنبعُ من تجاهُلِ حقوق الدول والشعوب. في هذا السياق، يُمكِنُ النظرُ إلى سياسات إسرائيل كمثالٍ حَيٍّ على هذا النهج. إنَّ الدولة العبرية، التي تبنّت على مدى عقودٍ سياسةَ فَرضِ الأمرِ الواقع من خلال الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية وتوسيع المستوطنات، تُمثّلُ نموذجًا صارخًا لكيفية صناعةِ الثغرات عبر القِيَمِ البديلة في النظام الدولي لتحقيق أهدافها.
الإدارة الأميركية المقبلة قد تتبنّى مزيدًا من التغاضي عن هذه السياسات، لا سيما إذا كانت تستندُ إلى تبريراتٍ تتعلّقُ بالذكاء أو تقليل الخسائر البشرية. مثل هذا الموقف يُعزّزُ شرعنةَ الانتهاكات ويدعمُ تَوَسُّعَ الاستيلاءِ غير المشروع على الأراضي، مما يُشَجِّعُ دولًا أخرى على انتهاكِ السيادة الوطنية لجيرانها. إذا استمرَّ هذا الاتجاه، فإنَّ ذلك سيقودُ إلى نظامٍ عالمي قائمٍ على القوّة بدلًا من القانون، حيث يُصبحُ الضعفاءُ فريسةً سهلةً للأقوياء، مما يُعمّقُ حالةَ الفوضى وعدمَ الاستقرارِ في العالم.
ينشر المقال بالتزامن مع أسواق العرب.