طُرِد جونسون في ليلة ليلاء وبات خارج الحكم. أُشهرت بوجهه البطاقة الحمراء “جونسون – برّا” (Joexit)، وحصل ما لم يتوقّعه هو، وحتى ما لم يخطر على باله، لكنّه كان متوقّعًا. لقد خرج عرّاب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وسقط في فخّ أوهامه وتسمّم بسموم تخيّلاته.
إذًا هي فوضى “البريكست” التي ذرفت بريطانيا الدموع عليها، وضربت عرض الحائط بشعار جونسون الشهير “لا دموع بعد اليوم”، وفشلت في كلّ خططها وإجراءاتها المسكِّنة لحلّ مشاكلها التي تعاني منها منذ خمس سنوات بدءًا من لحظة الاستفتاء، بحيث أصبحت مختلفة عمّا كانت عليه في السابق وباتت ذات نموذج سلطوي للديمقراطية يعاني أزمات مؤسّساتية وتضخّمًا ماليًّا ومشاكل اقتصادية.
فالمملكة المتحدة تعيش مرحلة مضطربة نتيجة خيارات خاطئة، والأسباب كثيرة، ومنها الإدارة المغلوطة لملفّ الخروج من الاتحاد، والأسلوب الشخصي في الإدارة المحلية، بالإضافة إلى التستّر على الفضائح والفساد (عُدّة الشغل).
لقد كان المسار التقني لجونسون ممتلئًا جدًّا بالحجج الواهية غير المبنيّة على الحقائق والوقائع، والتي حتّمت سلفًا على جونسون الوصول إلى هذه النتيجة، ففشل رئيس حزب المحافظين وزعيم أغلبيّته في المحافظة على إرث المحافظين التاريخي في المملكة المتحدة. وهو السبب الذي عرّضه لانقلاب وتطهير ديمقراطيَّين في سابقة تاريخية في الحياة السياسية والدستورية البريطانية، وذلك مباشرة من القاعدة الشعبية الإنكليزية للمحافظين التي ضغطت بدورها على كوادر وقياديّي الحزب فارضة هذه الاستقالات المتواترة التي أدّت إلى عزل رئيس الوزراء.
ساد في خلفيّة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، التي ارتكزت في أغلبها على مجموعة من المغالطات والمبالغات والمعلومات غير الصحيحة، اعتقادٌ بأنّ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيفتح سبيل الازدهار وامتلاك مصير أفضل والاستحواذ على كتلة إنتاجية أكبر، وسيتيح إمكانية الشروع في عقد اتفاقيات تجارية مستقلّة ومتحرّرة من رقابة الشركاء الأوروبيين. وقد كان من أهمّ هذه الوعود التوصّل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة الأميركية، وهو ما لم يحصل. فاعتُبر أنّ هذا الوعد هو خدعة أميركية لحليف واشنطن “الويستمنستر”، بعدما أخذت العلاقة مع أميركا في عهد بايدن المتخبّط، الذي أخذ نحو نصف ولايته، منحى مختلفًا عمّا كانت عليه في عهد ترامب، وفي خضمّ تزايد وارتفاع وتيرة التناحر على مصير “اتفاقية الجمعة العظيمة” أو اتفاقية بلفاست في عام 1998 التي تمّت بين بريطانيا وجمهورية إيرلندا وأحزاب إيرلندا الشمالية، ومع تزايد احتمال أن تكون نتائج هذا الاتفاق غير حميدة وأن تتحوّل الوعود الإنكليزية إلى أحلام يقظة.
لعنة “البريكست”
لقد تحوّل البريكست من نعمة إلى نقمة، فتراجعت الاستثمارات في بريطانيا وانخفض تعامل الاتحاد الأوروبي التجاري معها، وتزايدت مشاكل الطبقة العاملة في القطاعين العامّ والخاص، وأصحاب المهن الحرّة، إضافة إلى أزمة سلاسل التوريد والنقل والشاحنات، وهو ما غيَّر مزاج الشعب الإنكليزي وموقفه من مسألة الخروج من الاتحاد، فانخفضت نسبة القبول بهذا الخروج إلى 37% بعد خمس سنوات عليه.
ظهر ارتياح كبير في بروكسل، فشريك صعب قد غادر المسرح، لكن هل يمكن أن تسوء العلاقات؟
من غير المرجّح أن تؤدّي استقالة بوريس جونسون إلى رأب الصدع بين لندن ومقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل في المدى المنظور، وقد يتعمّق هذا الانقسام، فهناك حاجة إلى مسار مختلف لمسوّدات التعافي والشراكة الأوروبية.
من غير الواضح هل سيكون هذا مقبولًا من قبل حزب المحافظين، مع إعلانه بقاءه رئيسًا لحكومة تصريف الأعمال إلى حين اختيار زعيم جديد، حيث يتعيّن على بروكسل التعامل مع جونسون أو القائم بأعمال تصريف الأعمال في هذه الفترة المشحونة. في حين سيسعى العديد من المرشّحين من حزب المحافظين إلى التسويق لأنفسهم من خلال تصعيد الضغط على ملفّ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وخاصة انتقاد بروتوكول إيرلندا الشمالية. في حين أنّ التشريع الخاص بإلغاء البروتوكول من المرجّح أن يضعف خلال مسابقة القيادة. إلا أنّه سيبقى في الكواليس قضية سيتمّ استئنافها عند استقرار الحكومة الجديدة، حيث يسعى بعض مرشّحي حزب المحافظين إلى جعل الاستعداد للتخلّي عن بروتوكول إيرلندا الشمالية بمنزلة اختبار حقيقي لأيّ زعيم في المستقبل. وهناك مخاوف حقيقية بشأن الخسائر التي ستفرضها خطة التنافس لقيادة حزب المحافظين على ما تبقّى من العلاقات بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي. فهل سيتمكّن زعيم حزب المحافظين الجديد من العمل مع بروكسل بعد خروجه من الصراع؟ أم ستحتاج الدولة أوّلًا إلى انتخابات عامّة أخرى قبل عودة العقل إلى علاقات المملكة المتحدة مع أكبر شركائها؟