هناك توجس للخبراء والباحثين المهتمين بقضايا الدراسات الاستراتيجية والأمنية، من أن تتحول منطقة البحر الأحمر والقرن الإفريقي إلى بؤرة جديدة لصراع دولي وليس فقط إقليمي. وهو صراع متعدد الوجوه والدوافع، وسيدخل المنطقة في أزمة معقدة، لها تداعيات جيوسياسية وجيواقتصادية وكذلك أمنية وأيديولوجية.
وبالفعل فإن قرار 2722 الصادر عن مجلس الأمن، والذي أدان الهجمات التي شنها الحوثيون على السفن التجارية وسفن النقل والتي تجاوزت العشرين منذ 19 نوفمبر 2023م، أثار نقاشًا حادًا بين المحللين والدبلوماسيين، فهناك من يعتبر ذلك مجرد عملية “الهاء سياسي” عما يقع في غزة، وهناك من يرى مثل مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة، بأن المقصود من القرار ليس حماية الملاحة في البحر الأحمر، وإنما “محاولة لإضفاء الشرعية على الإجراءات الحالية للتحالف الذي شكلته أمريكا وحلفاؤها وتحقيق مباركة مفتوحة لها في مجلس الأمن الدولي”. وفي حين يتخوف البعض من عسكرة البحر الأحمر وتدويل أمنه، والتخوف من تعطيل مسار الحل السياسي للصراع اليمني واستفحال الأزمة الإنسانية، هناك من يدعو بشدة إلى ضرورة التصدي للتصعيد العسكري الحوثي في البحر الأحمر والذي له علاقة بإيران التي لها مطامع في المنطقة. ولا شك أن اتساع دائرة التحالف العسكري في منطقة البحر، ستشكل أزمة خطيرة، قابلة للتحول إلى صراع دولي مكشوف، في ظل وجود قوى أخرى مثل الصين وروسيا وتركيا ووجود حوالي 23 قاعدة عسكرية في منطقة القرن الإفريقي والبحر الأحمر.
ومما يزيد في تعقد الوضع، هو كذلك طموح إثيوبيا في الحصول على منفذ إلى البحر الأحمر، مما يشكل تهديدًا لدول الجوار ورفضها لتمدد إثيوبيا؛ وهذا من شأنه تصعيد التوتر في المنطقة والزج بالقرن الإفريقي في دوامة جديدة من التزاحم وعدم الاستقرار.
أولاً: السياق الجيواستراتيجي للبحر الأحمر والقرن الإفريقي
إن التنافس حول البحر الأحمر والقرن الإفريقي ليس جديدًا، وإنما يعود إلى مراحل تاريخية متعددة؛ بسبب الموقع الجغرافي المتميز والذي يعد استراتيجيا للإمبراطوريات القديمة والقوى الدولية الجديدة. فالبحر الأحمر شريط مائي بحري مهم، يشكل همزة وصل بين إفريقيا وآسيا وأوروبا، وبين المحيط الهندي وخليج عدن وبحر العرب بالبحر الأبيض المتوسط. ويتضمن ثلاثة مضائق طبيعية وهي مضيق باب المندب ومضيق تيران ومضيق جوبال. كما يضم حوالي 1496 جزيرة، 1150 جزيرة تابعة للسعودية و152 جزيرة لليمن، و26 جزيرة لمصر و36 جزيرة للسودان و126 جزيرة لأريتريا.
وتعتبر جزيرة بريم، الموجودة في مدخل مضيق باب المندب، وجزر تيران وصنافير وجوبال الموجودة على مدخل خليجي العقبة والسويس، وكذلك جزر حنيش ودهلك وحالب، من المواقع الاستراتيجية ولها دور في مراقبة الملاحة التجارية.
أما القرن الإفريقي، فيضم حسب معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام أريتريا وجيبوتي والصومال وإثيوبيا وهناك من يعتبر السودان وجنوب السودان وكينيا وسيشل، ضمن الفضاء الأمني للقرن الإفريقي. ومن المعلوم بأن الاهتمام بالبحر الأحمر وكذلك القرن الإفريقي، يعود في الفترة المعاصرة، إلى مرحلة التنافس بين بريطانيا وفرنسا وإيطاليا؛ فقد استعمرت فرنسا جيبوتي سنة 1850م، كما استعمرت إيطاليا الصومال وأريتريا؛ وكانت لها مواجهات مع بريطانيا في المنطقة .و”يعتبر الخامس عشر من نوفمبر 1884م، تاريخًا مهمًا للقارة الإفريقية التي تضم اليوم فوق خمسين دولة مستقلة، حيث اجتمعت أربعة عشرة دولة هي النمسا والمجر وبلجيكا والدنمارك وإيطاليا وهولندا والبرتغال وروسيا وإسبانيا والسويد والنرويج وتركيا والولايات المتحدة الأمريكية وانجلترا لوضع أسس تقسيم القارة الإفريقية. وأعطى مؤتمر برلين الضوء الأخضر للدول الاستعمارية لتقسيم إفريقيا، وبنهاية القرن التاسع عشر سيطرت الدول الأوروبية على أصقاع إفريقيا وتقسيمها فيما بينها.
وتجدد الاهتمام الدولي بالبحر الأحمر والقرن الإفريقي، بعد اكتشاف النفط والغاز في الجزيرة العربية، حيث أصبحت المنطقة لها قيمة استراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية لارتباط ذلك بأمنها الطاقي وكذلك بالنسبة للدول الصناعية الأخرى، لما يشكله الممر المائي للبحر الأحمر من أهمية قصوى لتجارتها الدولية؛ وظهر الأمر جليًا في أزمة قناة السويس 1956م، والعدوان البريطاني-الفرنسي-الإسرائيلي على مصر، بسبب تأميم قناة السويس والتدخل الأمريكي لإنهاء هذه الحرب، بسبب التهديد السوفياتي بالتدخل.
وعرفت مرحلة الحرب الباردة، صراعًا بين أمريكا والاتحاد السوفياتي على المنطقة، في إطار الحرب بالوكالة. كما شكلت حرب 1973م، واستعمال النفط كأداة ضغط سياسي من طرف العرب، مبررًا للغرب عامة وأمريكا خاصة، لصياغة منظور استراتيجي لحماية مصالحها في البحر الأحمر وضمان نقل النفط والغاز. واستند المنظور الاستراتيجي الأمريكي حول الأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر، على مبدأ نيكسون (1969م) ومبدأ بوش (1990) ومبدأ كارتر (1976) ومبدأ ريجان (1982)؛ وهي مبادئ توخت تحقيق ثلاثة أهداف: منع أي قوة دولية معادية لأمريكا للسيطرة على البحر الأحمر وحماية أمن إسرائيل وبقائها وحماية عمليات نقل النفط عبر البحر الأحمر.
وتجدد الاهتمام الدولي بالمنطقة، بعد إطلاق الولايات المتحدة الأمريكية، حربًا على الإرهاب، كان ذلك سببًا لتكثيف الوجود العسكري في البحر الأحمر والقرن الإفريقي. كما اعتبرت ظاهرة القرصنة، سببًا للقوى الأجنبية في تشكيل قوة بحرية أوروبية لمكافحة القرصنة والتي تأسست عام 2008م، وهذه السنة كانت كذلك أول تحرك عسكري صيني في المنطقة بدافع مواجهة القرصنة؛ حيث حشدت الصين ما بين 2002 – 2018م، حوالي 26 ألف جندي للمشاركة في عمليات مكافحة القرصنة. وهكذا أصبحت القرصنة حصان طروادة الذي استعملته مجموعة من القوى الدولية، لتكثيف وجودها في البحر الأحمر والقرن الإفريقي. وتشير البيانات الصادرة عن بعثة الاتحاد الأوروبي؛ إلى وقوع حوالي 200 حادث قرصنة سنويًا ما بين 2009 و2011م، وذلك قبالة سواحل الصومال.
وبالرغم من الوجود المكثف للصين والولايات المتحدة وفرنسا في المنطقة حاليًا لمواجهة القرصنة، فإن الحضور العسكري الهندي أكبر؛ بحيث قامت القوات الخاصة الهندية، “بالتحقيق مع أكثر من 250 سفينة وزورق صغير في الشهرين الماضيين، واعتقلوا أكثر من40 منها في ظل عودة القرصنة بعد غياب دام ست سنوات”.
وفي ظل أزمة البحر الأحمر الحالية، وانشغال القوى الغربية بالرد على هجمات الحوثيين، فإن الخبراء يعتقدون بأن القرصنة من الصومال، سيكون لهم حضور وعودة من جديد. ويظهر جليًا أن الوضع الجيواستراتيجي في البحر الأحمر والقرن الإفريقي، قد وصل في الآونة الأخيرة إلى مستوى مرتفع من التعقيد، بسبب تضارب مصالح جيوسياسية لقوى دولية وإقليمية، مما ينذر بكارثة مستقبلية.
ثانيًا: مجالات الصراع بين الفاعلين
إن تدخل القوى الكبرى في منطقة البحر الأحمر والقرن الإفريقي، هو استمرار للتنافس الجيوسياسي منذ الحرب الباردة واكتشاف البترول؛ لكن هناك قوى إقليمية وفاعلين جدد في المنطقة، يحاولون الدفاع عن مصالحهم والتعبير عن منظوراتهم الاستراتيجية والتطلع إلى دور ريادي في المنطقة. ويمكن اختزال مجالات الصراع والتنافس وكذلك الحضور القوي في البحر الأحمر والقرن الإفريقي في المجالات التالية:
- تأمين وحماية الملاحة البحرية
أطلقت الولايات المتحدة الأمريكية مع حلفائها، تحالفًا سمي “بحارس الازدهار”، وهو تحالف دولي يتكون من حوالي 22 دولة لتأمين الملاحة البحرية، بعد هجمات الحوثيين على السفن، إثر هجوم إسرائيل على غزة والإصرار على إبادة أهلها. “وقال وزير الدفاع الأمريكي لويد اوستن، “أعلن عن إطلاق عملية “حارس الازدهار” وهي مبادرة أمنية جديدة مهمة متعددة الجنسيات تحت مظلة القوات البحرية المشتركة وقيادة فرقة العمل 153التابعة لها، والتي تركز على الأمن في البحر الأحمر” وقال أيضًا بأن “الدول يجب أن تتحد معا لمواجهة التحدي الذي تمثل في الجهة غير الحكومية التي تطلق الصواريخ الباليستية والمسيرات على السفن التجارية للعديد من الدول التي تعبر المياه الدولية بشكل قانوني”، وأشار إلى كون “التصعيد الأخير في هجمات الحوثيين المتهورة القادمة من اليمن يهدد التدفق الحر للتجارة، ويعرض البحارة الأبرياء للخطر، وينتهك القانون الدولي”..
وفي نفس الوقت الذي يعتقد البعض أن أمريكا استعادت هيمنتها على البحر الأحمر من جديد عن طريق هذا التحالف؛ فإن بعض الخبراء يؤكدون على وجود تصدع داخل هذا التحالف البحري. فهناك ثمانية دول من أصل 20 دولة، ترفض الإعلان عن نفسها داخل التحالف بسبب حساسية الوضع؛ كما ترفض إيطاليا وفرنسا الخضوع للقيادة الأمريكية، وهناك دول لن تشارك بسفن وإنما فقط بخبراء، كما أن ألمانيا تحجم عن المشاركة بسبب مقتضيات دستورها؛ وهي تدرس مدى إمكانية الانضمام.
ويتأكد التصدع أكثر داخل هذا التحالف البحري، حينما أعلن مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، عن مهمة ” أسبيديس” أي الحامي، وهي مهمة تنحصر في حماية السفن التجارية واعتراض الهجمات ولن يكون ضمن التفويض المخول، المشاركة في الحرب ضد الحوثيين. وقال “بوريل” لن تكون جميع الدول الأعضاء مستعدة للمشاركة لكن لن يعرقل أحد (الأمر)… آمل أن يتسنى إطلاق المهمة في 17 من هذا الشهر (فبراير)”؛ وقال أيضًا “علينا أن نقرر أي دولة ستولى القيادة وأين سيكون المقر الرئيسي وماهي الأصول البحرية التي ستقدمها الدول الأعضاء”. (فرانس 24، 31/1/2024). وهناك استعداد من فرنسا وإيطاليا واليونان، لقيادة هذه المهمة التابعة للاتحاد الأوروبي وليس للناتو أو الحلف الأمريكي – البريطاني. ويعكس هذا التصدع أو الاختلاف الحاد بين الدول الغربية، تضاربًا في المصالح الجيوسياسية وكذلك في المقاربة الجيواستراتيجية لهذه الأزمة.
وانتقد مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة أمريكا وقال “ما يسمى بـ”التحالف البحري الدولي” الذي شكلته واشنطن، على الرغم من اسمه المرتفع، “حارس الازدهار” يتكون معظمه في الواقع من سفن حربية تابعة للولايات المتحدة نفسها، وشرعية تصرفاتها من وجهة نظر القانون الدولي تثير شكوك جدية جدًا”، وقال أيضًا “ولذلك فإن مهأمنا اليوم لا تقتصر فقط على تأكيد الإشارة الجماعية المتفق عليها في ديسمبر لجماعة “أنصار الله” حول عدم جواز أفعالهم، بل أيضًا تهدئة الرؤوس الساخنة” في واشنطن، والذي يعتبرون الصراع الآخر في الشرق الأوسط مجرد جزء من لعبتهم الجيوسياسية”.
أما الصين فقد تبنت سياسة حذرة، ففي نفس الوقت الذي دعت فيه جميع الدول الكبرى إلى حماية مسارات الملاحة البحرية، فقد امتنعت عن التصويت على قرار مجلس الأمن رقم: 2722. وفي 12 يناير طالب وزير الخارجية الصيني “وانغ بي”، “بوقف المضايقات والهجمات على السفن المدنية والمحافظة على التدفق السلس للسلاسل الصناعية وسلاسل التوريد العالمية والنظام التجاري الدولي”. وانتقد الولايات المتحدة وبريطانيا، حيث قال “يجب تجنب صب البنزين على نار التوترات في البحر الأحمر ومنع زيادة المخاطر الأمنية الشاملة للمنطقة”
أما الدول العربية فلها تحفظ من المشاركة في هذا التحالف لعدم وضوح أهدافه ولارتباطه بأمن إسرائيل واستمرار هذه الأخيرة في حرب هوجاء ضد أهل غزة؛ وتعتبر البحرين الدولة العربية الوحيدة المشاركة، وفسر مسؤول بحريني ذلك قائلاً: “إن مشاركة البحرين في التحالف تأتى بالنظر لتواجد الأسطول الخامس الأمريكي وقيادة القوات البحرينية المشتركة (CMF) بالإضافة إلى قوة المهام المشتركة 193 في مملكة البحرين. ولهذه الاعتبارات كلها، يبدو أن موضوع حماية التجارة البحرية، قد كشف عن عدم توافق في المنطلقات، بسبب السياق الذي تفجرت فيه الأزمة وهو الحرب على غزة.
- تعزيز النفوذ العسكري والجيوسياسي والجيواقتصادي
إن الأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر والقرن الإفريقي، لا تنحصر فقط في ضمان أمن المسارات البحرية، وإنما كذلك في تعزيز النفوذ الجيوسياسي والجيواقتصادي لعدة قوى دولية ومنها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية. فقد ارتفع عدد القواعد العسكرية في المنطقة بشكل مقلق، وهناك سباق بين القوى الكبرى، لبناء قواعد عسكرية لها. وقد تجاوز عددها نحو 23 قاعدة، حسب بيانات معهد ستوكهولم لأبحاث السلام. وهناك حضور متفاوت لحوالي 16 دولة، وتعتبر الولايات المتحدة الأمريكية، صاحبة أكبر قاعدة عسكرية في إفريقيا، في جيبوتي؛ حيث يوجد بها أكثر من 4 آلاف شخص؛ بين عسكري ومدني؛ ويعود إنشاء القاعدة إلى ما بعد أحداث 11سبتمبر. ولأمريكا قواعد غير معلن عنها في كينيا وإثيوبيا للطائرات المسيرة وغير ذلك.
وهناك قواعد عسكرية ألمانية وإيطالية ويابانية وإسبانية وفرنسية وبريطانية؛ خصوصًا في جيبوتي وفي الصومال، وهناك قاعدة عسكرية إسرائيلية في إيريتريا، كما أسست تركيا قاعدة عسكرية في الصومال، وتعتبر أكبر قاعدة لها في العالم.
ويظهر الصراع بشكل جلي ومقلق بين أمريكا والصين وروسيا، حول التموضع الجيواستراتيجي في المنطقة. ذلك أن أمريكا عبرت عن استيائها من تطوير الصين لقاعدتها العسكرية في جيبوتي، والتي تأسست سنة 2017م، وقد ورد في دراسة عن مركز بروكينز الدوحة، بأن “الصين وصلت إلى جيبوتي مؤخرًا، بادئة باستثمارات اقتصادية ضخمة ثم الحقتها بحضور عسكري دائم. وعلى الأرجح إن قاعدتها البحرية هي باكورة لانخراط استراتيجي أوسع في إفريقيا والبحر الأحمر وفي أرجاء المحيط الهندي. بناء على ذلك، هي أيضًا أرض تجارب، أي مكان يستطيع الضباط والجنود الصينيون فيه كسب خبرة في العمليات في البحار البعيدة وتقييم المنصات البحرية الجديدة والتعلم من الآخرين. وهي مركز تخدم انطلاقًا منه المواطنين وعناصر حفظ السلام الصينيين وتنشر السلطة المترافقة مع تجارة مبادرة الحزام والطريق واستثماراتها وتقييم رد الفعل الدولي إزاء عرض العضلات الصيني خارج غربي المحيط الهادئ. “.
ويرى الخبراء بأن القاعدة الصينية هي” قاعدة دعم لوجيستي”، وتندرج ضمن استراتيجية “سلسلة اللآلئ الصينية” والتي تتوخى من خلالها الصين، إنشاء موانئ عبر ساحل المحيط الهندي، وربطها بالقواعد العسكرية والتجارية، لتمكين الجيش الصيني من مراقبة المنطقة وحماية مشروع طريق الحرير البحري والتصدي للهيمنة الأمريكية. (مركز فاروس). لذلك تتوجس القيادة الأمريكية في إفريقيا، من تحول القاعدة العسكرية الصينية في جيبوتي، إلى قاعدة قادرة على استقبال غواصات وحاملة الطائرات وعتاد عسكري متطور.
ويلاحظ الخبراء كذلك بأن الصين انتقلت من سياسة عدم التدخل، إلى اعتماد استراتيجية وقائية لحماية مصالحها الجيواقتصادية، عبر تأسيس قواعد عسكرية في عدة مناطق من العالم؛ وخصوصًا في القرن الإفريقي وسواحل البحر الأحمر والمحيط الهندي من السودان إلى كينيا. وبالتالي استعمال القوة العسكرية أداة للتدخل الأمني والتأثير على السياسات العامة لدول المنطقة، والقيام بدور هام في حفظ السلم والتنمية. قد طرح وزير الخارجية الصيني وانغ بي، أثناء زيارته لعدة دول في القرن الإفريقي، مشروع “التنمية السلمية للقرن الإفريقي”، كما أعلن المبعوث الصيني الخاص للقرن الإفريقي، عن إرادة بلاده وحرصها على رعاية” أول مؤتمر سلام” وذلك خلال زيارته لإثيوبيا.
لكن هذا لا يعني أن الصين ليست لها مصالح اقتصادية محضة؛ بالعكس فهناك اهتمام صيني بالموارد الطبيعية والمعادن، ومنها النفط والغاز والذهب والحديد والماس واليورانيوم والميكا ثم هناك الأراضي الفلاحية الخصبة والثروة السمكية، “لذلك حرصت الصين على تعزيز نشاطها بالقرن الإفريقي بزيادة منحها للقروض، بالتوازي مع استثماراتها في مجالات التنقيب عن البترول والمعادن في إثيوبيا والسودان وجنوبه”.
ويوجه الغرب التهم إلى الصين، بأنها تحاول الإيقاع بالدول الإفريقية في فخ الديون والاستحواذ عليها. لذلك تراقب الولايات المتحدة الأمريكية الصين عن كثب في المنطقة، حيث يعتبر بعض الخبراء بأن جيبوتي تحولت إلى “وكر لجواسيس العالم”، فالدول الغربية تراقب الصين وروسيا وتسعى للحد من نفوذهم في إفريقيا. فهناك عودة لروسيا في القرن الإفريقي من خلال أريتريا، التي وقعت على اتفاقية تعاون مع روسيا، لتتمكن من إنشاء قاعدة عسكرية بحرية، ومناطق صناعية حرة، وضخ استثمارات مهمة في البنية التحتية ومجال الطاقة.
ولهذا يشكل توقيع أرتيريا في 10 يناير 2023م، مذكرة تفاهم مع روسيا لربط مدينة مصوع الأريترية الساحلية مع قاعدة البحر الأسود سيفاستوبول، استفزاز لأمريكا وحلفائها؛ مما ينذر باحتدام الصراع مستقبلاً.
ويلاحظ “زاك نيرتين” أنه “ليست الولايات المتحدة والصين الجهتين الفاعلتين الوحيدتين اللتين تتسابقان لكسب النفوذ الجيوسياسي. فقد اكتظت المنطقة في السنوات الأخيرة بدول صغيرة (مثل الإمارات وقطر) وقوى متوسطة (السعودية وإيران وتركيا) أخذت تشيد الموانئ التجارية والمراكز العسكرية ومشاريع البنى التحتية على ساحل البحر الأحمر الإفريقي سعيًا منها إلى التحلي بالنفوذ في مناطق تتخطى جوارها. ويؤدي تنافسها على قدرة الوصول والنفوذ والحصة السوقية إلى جعل معالم الحدود القديمة بين الشرق الأوسط وإفريقيا غير واضحة وإلى إنشاء ديناميات عبر إقليمية جديدة”.
ولا شك أن هناك تداخل بين البعد الجيوسياسي والجيواقتصادي والعسكري، لمختلف الفاعلين في المنطقة مما يجعل الصراع معقدًا. كما أن مواجهة الغرب وحلفائها لإيران والحوثيين؛ في سياق الحرب الإسرائيلية على غزة، تتجاوز البعد الاقتصادي والأمني، إلى بعد آخر أكثر تعقيدًا قابلاً لعملية توظيف الدين والخلاف الحضاري والمسألة الإنسانية، مما يجعل دول الجوار أمام معضلة كبرى.
فهناك حاجة إلى تبني حلول سياسية شاملة، ومن ذلك إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية وإدراجها ضمن جدول أعمال إنهاء الأزمة الحالية في البحر الأحمر. إذ “يشعر المراقبون بالقلق من أن قصف إسرائيل المكثف لقطاع غزة سيدفع مزيدًا من خصومها إلى مهاجمتها من جبهات جديدة. وفي المقابل، يرى البعض أن استمرار هجمات الحوثيين يحرض بدوره إسرائيل على الرد على “الحصار البحري” الذي تسعى طهران لفرضه عبر الحوثيين، حتى لم تكن سيطرتها على ميليشياتهم هي نفسها على ميليشياتها الأخرى كـ “حزب الله”، على سبيل المثال. ومع إرسال إسرائيل مدمرات صاروخية إلى البحر الأحمر، باتت الخشية من توسع الصراع على منطقة الشرق الأوسط أكثر ترجيحًا”.
وبالإضافة إلى هذا الصراع حول ترسيخ نفوذ جيوسياسي دولي واقليمي، تساهم إثيوبيا بدورها في تعقيد الوضع.
- طموح إثيوبيا في التمدد.
اعتبر إقدام إثيوبيا على توقيع مذكرة تفاهم مع إقليم أرض الصومال، للحصول على منفذ بحري عبر ميناء بربرة الصومالي؛ بمثابة ليس فقط اعتداء على سيادة ووحدة الصومال؛ وإنما كذلك إطلاق شرارة صراع إقليمي خطير في المنطقة. وجاء في بيان صادر عن مكتب رئيس الوزراء الإثيوبي، بأن الاتفاق “سيفتح الطريق أمام تحقيق تطلعات إثيوبيا إلى تأمين وصولها إلى البحر، وتنويع وصولها إلى الموانئ البحرية، وأن الاتفاق يعزز أيضًا الشراكة الأمنية والاقتصادية والسياسية للطريفين”.
وتبرر إثيوبيا هذا التمدد بأن “وجود إثيوبيا كأمة مرتبط بالبحر الأحمر ونهر النيل”، وأن دول الجوار مطالبة بالاعتراف بمصالح إثيوبيا في الحصول على منفذ بحري.
ومن المعلوم أن الأمين العام للجامعة العربية، قد أدان هذا الاتفاق واعتبره “انقلابًا صارخًا” على الثوابت العربية والإفريقية، كما اعتبرت الخارجية المصرية إثيوبيا مصدرًا لبث الاضطراب في المنطقة؛ واكتفى الاتحاد الإفريقي بالدعوة إلى احترام ميثاق الاتحاد الإفريقي واحترام سيادة جميع الدول الأعضاء ومطالبة الجهات الخارجية بعدم التدخل في شؤون القارة الإفريقية.
وبالرغم من مساندة الولايات المتحدة والاتحاد الإفريقي والجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي ودول الخليج لوحدة الصومال، وكذلك توجس أريتريا من التمدد الإثيوبي، فليس من السهل الضغط على إثيوبيا للتخلي عن طموحها للحصول على منفذ بحري. ومن المحتمل الوصول إلى حل توافقي عبر الوساطة الدولية، ومن المستبعد أن تصعد الصومال موقفها إلى مستوى عسكري، لأنها غير مؤهلة لذلك بسبب هشاشة الدولة ومواجهتها للإرهاب.
ثالثًا: المشاهد المستقبلية
هناك عدة محددات تشكل التفاعل الحاد بين مختلف القوى المهتمة بمنطقة البحر الأحمر والقرن الإفريقي. ومنها التنافس الحاد بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين وسعي الاتحاد الأوروبي للمساهمة في محاصرة مشروع طريق الحرير البحري والتمدد الصيني في القارة الإفريقية وكذلك التوجس من عودة روسيا إلى القرن الإفريقي. هذا إضافة إلى استمرار إسرائيل في إبادة غزة، الذي يمنح إيران والحوثيين مبررًا لمواجهة إسرائيل والغرب؛ وبالتالي تعقد المشهد الجيواستراتيجي للمنطقة.
- سيناريو حرب شاملة في المنطقة
هو سيناريو وارد لكنه مستبعد، لأن تداعياته على الجميع ستكون ضخمة، ويمكن أن يتطور الأمر إلى حرب عالمية ثالثة. ويبدو أن أمريكا بالرغم من حضورها العسكري في المنطقة، تحاول ممارسة نوع من التخويف والردع، وتسعى إلى إقناع إيران والحوثيين إلى عدم التصعيد وبالتالي تجنب مواجهة مباشرة مع إيران.
- سيناريو احتواء الأزمة عبر تغليب توازن المصالح.
يعول في هذا السيناريو على الصين التي لها مصالح جيواقتصادية أكثر من روسيا مع العلم أن الجميع من مصلحته احتواء الأزمة. وكما يشير بعض الخبراء، “ومع أن الصين لا تمتلك نفس التأثير الذي تمتلكه روسيا على الجهاز العسكري في “الحرس الثوري”، إلا أن بكين لديها علاقات مؤثرة مع باقي مؤسسات الدولة العميقة، وتتمتع كذلك بعلاقات واسعة جدًا مع الأذرع الاقتصادية التابعة للحرس الثوري؛ إذ تشتري بيكين نحو 400 ألف برميل من النفط يومي عبر شركات تابعة للحرس، أو عبر “عقود المقايضة” التي ارتفعت خلال العام الأخير، وعززت ارتباط الصين بمؤسسات الحرس الاقتصادية الكبرى ومنها “منظمة خاتم الأنبياء “عبر عقود تتجاوز قيمتها 10 مليارات دولار”. وليس من مصلحة الصين المجازفة بالاستثمارات الهائلة في المنطقة ومشروعها لطريق الحرير. كما أن الشركات العالمية الكبرى، ستمارس ضغطًا كبيًرا لاحتواء الأزمة لما تشكله من تداعيات على الاقتصاد العالمي وارتفاع تكلفة النقل وبالتالي ارتفاع الأسعار وانقطاع سلاسل التوريد وغير ذلك من التداعيات الاقتصادية الخطيرة التي لا يمكن للاقتصاد العالمي تحمل آفاتها وهو يحاول أن يتعافى من آثار وباء كرونا.
خاتمة
ليس من المتوقع انتهاء الأزمة في القرن الإفريقي والبحر الأحمر في المنظور القريب، لأن الصراع الجيوسياسي مستمر بين أمريكا وحلفائها ضد الصين، حيث يسعى الغرب إلى تحجيم النفوذ الصيني وإفشال مشروع مبادرة الحزام والحرير ومراقبة البحر الهندي والممرات البحرية والتصدي لإيران والحوثيين. كما تشكل القضية الفلسطينية سببًا لاستمرار التصدع الجيوسياسي في المنطقة وتهديدًا لمستقبل السلام في الشرق الأوسط وما يحيط به في حالة عدم الوصول إلى حل عادل للقضية. ولذا فإن دول القرن الإفريقي والبحر الأحمر مطالبة بتشكيل تحالف لمواجهة مختلف هذه التحديات وصياغة استراتيجية موحدة، تضمن مراعاة الأمن الإقليمي وتحقيق توافق حول مصالحها بعيدًا عن حسابات القوى الكبرى ومن الممكن أن تساهم دول الخليج برعاية مبادرة سلمية ترسخ منهج الحكمة والتعاون بين مختلف أطراف النزاع في البحر الأحمر والقرن الإفريقي والتفكير في فضاء آمن يضمن الازدهار للجميع.