أَسُوقُ هذه الظاهرة الأَميركية، لا مُشيحًا عن موقف أَميركا الفاقع العهر بانحيازها إِلى كيان العدو الصهيوني الـمُغتصِب الشعبَ والأَرضَ والتاريخ. لكنَّ الظاهرة لَفَتَتْني بتناقُضها الصارخ مع ما يجري عندنا.
الظاهرة، كما قرأْتُ عنها في “نيويورك تايمز” قبل أَيام، هي طَردُ النائب الجمهوري جورج سانتوس (35 سنة) من مجلس النواب عن مقعد الدائرة الثالثة في نيويورك، وكان نجح العام الماضي في انتخابات التجديد النصفي بعد سقوطه في الدورة السابقة (2020).
ومع أَن سانتوس من الحزب الجمهوري، صوَّت ضدَّه 105 نوَّاب جمهوريين من مجموع 311 نائبًا صوَّتوا لطرده. وهو بذلك سادس نائب يتم طرده في تاريخ الكونغرس الأَميركي (الأَول كان النائب الديمقراطي عن ولاية ميسوري جون كلارك سنة 1861).
أَما التُهَم فكثيرة، أَبرزُها أنه كذَّاب.. فهو كَذِبَ في عرض سيرته الذاتية إِذ أَورد فيها لم ما لم يكُن صحيحًا (ادَّعى أَنه كان نجم الكرة الطائرة في كلية جامعية لم يدخلْها أَصلًا، وأَنه يحمل شهادة أَكاديمية من جامعة نيويورك، وليس في سجل الجامعة أَنه درَس فيها).. وأَكثر: استغلَّ موقعه النيابي وحصانته، وقبلهما أَموالَ حملته الانتخابية (2022- مشتريات خاصة، سلع فاخرة) فارتكب معاصيَ مالية شخصية ثبَّتتْها أَخيرًا لجنة الأَخلاقيات المهنية في الكونغرس، وهي ما يعتبرها القانون الأَميركي جرمًا كبيرًا لا يُغْتَفَر.. من هنا أَن الطرد من مجلس النواب بهذه الطريقة الصارمة هو أَقسى ما يواجهه نائب من عقوبات.. لذا يفترض، لإِبرامه، تصويتَ ثلثَي أَعضاء المجلس، وهذا ما تمّ لحزم النواب بغضبٍ أَنَّ سانتوس ارتكب أَفعالًا شنيعة لا تليق بممثِّل الشعب ومستغل أَصوات ناخبيه.
ذكرتُ في مقدمة المقال أَنني أَسوق هذه الظاهرة لأَنها لَفَتَتْني بتناقضها الصارخ مع ما يجري عندنا. والشاهد هنا: دقة المحاسبة وحزمها واتخاذ الإِجراءات العملية الميدانية لتنفيذها.. ذلك أَن عبارات “الحكمة” و”الحوكمة” و”الأَحكام” و”المحاكمة” و”المحكمة” و”الاحتكام” تبقى مُفْرَغَةً من مضمونها إِن لم تقترن بالفعل الذي هو تنفيذُ القرارات والأَحكام.
وأَيًّا يكن رأْينا بالولايات المتحدة ومواقفها الخارجية لمصالحها بنُصرة أَعدائنا، فمواقفها الداخلية حازمة في تطبيق القانون والمحاسبة والمحاكمة وسَوق المتَّهم إِلى العدالة في قوس المحكمة حتى لو كان رئيسًا حاكمًا (بيل كلينتون وفضيحة مونيكا لوينسكي) أَو رئيسًا سابقًا (دونالد ترامب وفضائحه المالية)، ما يشي في حزم وحسم وعزم بأَن العدالة فوق الجميع، وأَن الدولة حامية الجميع بمصالحهم الشخصية والجماعية، ومن هنا تسمية الشعب “دافع الضرائب” في القاموس الأَميركي، وتسمية النواب “خُدَّام الشعب”.
إِذًا: لا رحمة لِمن يستغلُّ الشعب وأَموال الشعب لمصلحته الشخصية والخاصة. فأَين كلُّ هذا مما عندنا؟
هل رأَينا سياسيًّا في الحكْم متَّهمًا داخل قوس محكمة؟ هل سمعنا بحكم قضائي في حق سياسي نفَّذَتْه المراجع المختصة؟ هل السياسيون عندنا فوق الشبُهات فلا تطالهم تهمة ولا “تستضيفهم” محكمة؟ هل سمع الناس قبلنا، على وسع الكرة الأَرضية، بسياسي يستدعيه قاضٍ للاستماع إِليه كشاهد أَو متَّهم، فيطلب تغيير القاضي عوض المثول أَمامه لأَن القرار لم يعجبْه؟ هل علمْنا في تاريخ المجلس النيابي أَنه صَوَّت لطرد نائب من مقاعده بشبهة استغلال مقعده وحصانته النيابية لأُمور شخصية وخاصة غير مشروعة؟ وكيف يمكن ذلك أَن يتمَّ طالما كل نائب عضوٌ في تكتُّل سيدافع عنه وينفي “الإِشاعة الـمُغْرضة” ولو كانت صحيحة؟
العدل أَساس الملْك؟ صحيح.. والعدالة تبدأُ من الشرائع؟ صحيح.. والعدل يقوى بالتشريع؟
صحيح.. والتشريع يسُنُّه مجلس النواب؟ صحيح.. ولكنْ… هل هذا ما يجري عندنا كي نقول إِننا في دولة قانون لا في عشيرةٍ تحكُمها سلْطة “كل مين إِيدو إِلو”؟
إني… أَخجل من الجواب.