على الرُغم من أنَّ الحربَ في غزة لم تَكُن قادرة أبدًا على تغييرِ النظام العالمي، فإنّها قَوَّضَت بالكامل مفاهيم “النظام القائم على القواعد”. اتّخَذَت المحكمة الجنائية الدولية الشهر الفائت خطوةً جريئة بإعلانها أنها تسعى إلى الحصول على أوامر اعتقال من قُضاةِ المحكمة بحقِّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت بتُهمةِ التجويع وتوجيه الهجمات عَمدًا ضدّ السكان المدنيين في غزة. وفي الوقت نفسه، أعلنت أنها تسعى أيضًا إلى الحصول على أوامر اعتقال بحقِّ قادة “حماس” يحيى السنوار ومحمد دياب إبراهيم المصري وإسماعيل هنية لأعمالٍ تتراوَح بين أخذ رهائن إلى التعذيب.
وفي إعلانهِ عن الاتِّهامات، أشارَ المُدَّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، إلى أنه في حين أنَّ إسرائيل لديها “كل الحق، بل إنها مُلزَمة بالفعل، باستعادة الرهائن”، إلّا أنَّها مُطالَبة “بالقيام بذلك من خلال الامتثال للقانون”. وفي تقديره أنها فشلت في القيام بذلك.
للوَهلةِ الأولى، قد يبدو هذا بمثابة انتصارٍ للنظام العالمي القائم على القواعد. وبالفعل، أشادَ بعضُ المراقبين بهذه الاتّهامات، واعتبرها انتصارًا للقانون الإنساني الدولي و”خطوةً تاريخية للضحايا”. وأعربت مجموعة من الحكومات الأوروبية في وَقتٍ لاحقٍ عن دعمها للمحكمة الجنائية الدولية، كما رَحّبت جنوب أفريقيا، التي اتَّهَمَت إسرائيل بارتكابِ جرائم إبادة جماعية في محكمة العدل الدولية، بهذه الاتهامات.
لكن كانت هناك أيضًا انتقاداتٌ للقرار، وهنا لم يكن النظام القائم على القواعد يفغلُ جيدًا. وبينما عارضَ المسؤولون الإسرائيليون و”حماس”، بشكلٍ غير مُفاجئ، هذه الاتهامات، فإنَّ الانتقاداتَ لم تقتصر عليهم. لقد اتَّهَمَ البعضُ المحكمة الجنائية الدولية بأنّها تتأثّرُ بالسياسة والمشاعر الشعبية، بدلًا من التوجيه القانوني المبدئي. واتّهَمَ آخرون المحكمة باستخدامِ القانون الإنساني الدولي كسلاحٍ وشَنِّ حملة “حرب قانونية” ضدّ إسرائيل.
لكنَّ الأبرزَ كانَ ردُّ فِعلِ الولايات المتحدة. في حين أنَّ إدارةَ الرئيس الأميركي جو بايدن مُؤيِّدةٌ قويّة لإسرائيل، فقد أعربت أيضًا عن مخاوف جدّية بشأن كيفية قيام إسرائيل بتنفيذ حملتها العسكرية في غزة. حتى أنَّ هذه الهواجس دفعت الإدارة إلى وَقفِ شحناتِ الأسلحة إلى إسرائيل بسبب أفعالٍ “تتعارضُ مع القانون الإنساني” والامتناعِ عن التصويتِ على قرارٍ لمجلس الأمن الدولي يدعو إلى وقف إطلاق النار، بعد أن استخدمت حق النقض (الفيتو) في السابق على قراراتٍ مُماثلة عدّة.
بالنظر إلى هذه المخاوف والإجراءات، كانَ من المُتَوَقَّعِ أن تُقدِّمَ إدارةُ بايدن على الأقل بيانًا مدروسًا يُعبّرُ عن “المخاوف الجسيمة” بشأنِ الحُكم، ويدعو جميع الجهاتِ الفاعلة إلى ضمانِ أن سلوكها يتماشى مع القانون الإنساني، ثم ربما يقول إن الحلَّ الأسرع للأزمة ليس من خلال المحاكم بل من خلال توصّلِ الأطراف إلى وَقفٍ لإطلاق النار.
هذا لم يحدث. بدلًا من ذلك، أصدر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بيانًا وَصَفَ فيه تصرّفات المحكمة الجنائية الدولية بأنها “مُخزية”. وردّدَ بايدن رَدَّ فعلِ بلينكن القاسي، واصفًا مذكّرات الاعتقال بأنها “شائنة”. ومضى يقول إنه “مهما كان ما قد يعنيه هذا المدَّعي العام، فلا يوجد تكافؤ -لا شيء- بين إسرائيل و”حماس””. وتذهب الإدارة الأميركية إلى حدِّ النظر في فَرضِ عقوباتٍ على مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية.
قد يكونُ الردُّ القاسي من جانب بايدن وبلينكن مُخَيِّبًا لآمالِ أولئك الذين يدعمون قرار المحكمة الجنائية الدولية. لكن ردودهما تنطوي على إشكاليةٍ لسببٍ أكثر جوهرية: فهي تُقَوِّضُ ركيزةً أساسية في أجندة السياسة الخارجية لبايدن-بلينكن، وهي أنَّ الولايات المتحدة هي الوصي على النظام القائم على القواعد. وكلاهما يستشهدان عادةً بهذه العبارة لمُقارَنة سلوكِ الولايات المتحدة مع سلوكِ روسيا والصين، ويُصَوِّران هاتين الدولتين كقوَّتَين رجعِيتَين غير راغبتَين في العمل ضمن ترتيبِ المؤسّسات الدولية والقواعد القانونية التي تمَّ تأسيسها وتعزيزها منذ الحرب العالمية الثانية.
في حين أنَّ المحكمة الجنائية الدولية هي عنصرٌ حديث في هذا النظام، حيث أُنشِئت في العام 1998 بموجب نظام روما الأساسي، فإنَّ العديدَ من الدول ينظُرُ إليها باعتبارها عُنصرًا أساسيًا من القواعد التي تُشكّلُ النظام العالمي القائم على القواعد. وعلى الرُغمِ من أنَّ الولايات المتحدة ليست من الدولِ المُوَقِّعة على نظام روما الأساسي، فقد أعربت إدارة بايدن عن دَعمِها لأحكامِ المحكمة الجنائية الدولية في مُناسباتٍ أخرى. وعلى وجه الخصوص، عندما وَجَّهَت المحكمةُ اتهاماتٍ ضدّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في العام الفائت، قال بلينكن: “أعتقد أنَّ أيَّ شخصٍ طَرَفٍ في المحكمة ولديه التزامات يجب أن يفي بالتزاماته”. ووصفَ بايدن نفسه اتهامات المحكمة الجنائية الدولية ضد بوتين بأنها “مُبرَّرة”، في حين أمر وكالات الاستخبارات الأميركية بتقديمِ أدلّة على جرائمِ الحرب التي ارتكبها بوتين إلى المحكمة. ومن هنا، فمن وجهة نظر إدارة بايدن، ومن خلال تسليطِ الضوءِ على الجرائم التي ارتكبتها حكومة بوتين، أظهرت المحكمة الجنائية الدولية أنَّ القانون الدولي والأعراف الدولية مُهمّان ولهما معنى.
الآن، من خلالِ الرَفضِ الصريح لاتهامات المحكمة الجنائية الدولية ضد القيادة الإسرائيلية، كشفَ بايدن وبلينكن عن النفاقِ الناشئ عن سياسات القوة: إنَّ أحكامَ المحكمة الجنائية الدولية عظيمة لكي تُطَبَّقَ على الخصوم، ولكن ليس على الحلفاء. إنها قواعدٌ تُطبَّقُ عليك، ولكن ليس عَلَيّ.
الحقيقة هي أنَّ الولايات المتحدة لديها تاريخٌ مُتَقَلِّبٌ عندما يتعلّقُ الأمرُ بالالتزامِ بقواعد النظام القائم على القواعد. لكن حتى الآن، سعت إدارة بايدن على الأقل إلى إعطاءِ مَظهرِ العَمَلِ ضمن هذا النظام وكثيرًا ما تُمَجِّدُ فضائله. إنَّ الطريقةَ الرافضة والمُستَخِفّة التي رَفَضَ بها بايدن وبلينكن اتهامات المحكمة الجنائية الدولية قد قوَّضت فعليًا جهودهما التي بذلاها على مدى السنوات الثلاث الماضية لإعادةِ بناءِ القوّة الملموسة للمؤسّسات الدولية بعد سنواتٍ من الإهمالِ والازدراءِ من قبل إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
بعبارةٍ أخرى، لقد أخطأت إدارة بايدن في لُعبتِها العالمية للشطرنج ثُلاثيِّ الأبعاد، حيث أدّى دعمها لإسرائيل إلى تعزيز مُنافستَيها، روسيا والصين. ورُغمَ أنَّ إدارةَ بايدن لم تكن في حاجةٍ إلى تأييدِ قرار المحكمة الجنائية الدولية بصوتٍ عالٍ، فإنهُ كانَ بوسعِها أن تحذو حذو مالطا، مُشيرةً إلى أنه “ينبغي السماح للمحكمة الجنائية الدولية بالقيام بعملها بشكلٍ مُستَقل من دون أيِّ تهديدات. دَع أولئك الذين يحتاجون إلى الدفاع عن أنفسهم يُدافعون عن أنفسهم في المحكمة. أو كانَ من المُمكِن أن يقول بايدن ببساطة إنَّهُ يرى أحكامَ المحكمة الجنائية الدولية “غير مُفيدة”. ولم يكن هذا ليتعارَض إلى هذا الحدّ مع تصريحاته السابقة بشأنِ مُحاكمة بوتين في المحكمة الجنائية الدولية، وبالتالي ما كان ليُعَرِّضهُ لاتهاماتٍ بالنفاق.
بالنسبة إلى شخصٍ ماهرٍ جدًا في أساليب السياسة الواقعية مثل بايدن، فإنَّ ردَّ فعله كان مُفاجِئًا بشكلٍ خاص. فعندما يُعلِنُ أقوى مؤيِّدي النظام العالمي القائم على القواعد نفاقه العلني بشأنِ تطبيقِ قواعد ذلك النظام، فإنّهُ يتخلّى عن اللعبة. حتى لو لم نُعطِ أيَّ وَزنٍ لاحترامِ الأعرافِ والقانون في حدِّ ذاته، فإنَّ ردَّ فعلِ بايدن غير المحسوب على حُكمِ المحكمة الجنائية الدولية ضد نتنياهو، وهو الشخص الذي استخفَّ به بايدن نفسه، يُقوِّضُ الأهدافَ الاستراتيجية الأوسع لإدارته. يُمكِنُ أن يكونَ القانون الدولي أداةً للأقوياء بقدرِ ما يكون حمايةً للضُعفاء، وقد أساء بايدن التعامل مع هذه الأداة.