توفي الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر يوم الأحد الفائت عن عُمرٍ يناهزُ ال100 عام. بعدَ أن أمضى فترةً واحدة في البيت الأبيض من العام 1977 إلى العام 1981، واصل كارتر مسيرته المهنية بعد انتهاءِ ولايته الرئاسية، حيث عمل كاتبًا للقصص الخيالية ووسيطًا في حلِّ النزاعات. الواقع أنَّ الجهودَ الأخيرة، سواء على المستوى الشخصي أو من خلال مركز كارتر في أتلانتا، قد حظيت بالتقدير في العام 2002 بمنحه جائزة نوبل للسلام.
ويُذكَرُ كارتر إلى حدٍّ كبير باعتباره “رئيسًا صانعًا للسلام” بسببِ جهوده في التوسّط في معاهدة السلام التي وُقِّعَت في “كامب دايفيد” بين مصر وإسرائيل في العام 1979. لكن يُمكِنُ النظرُ إلى رئاسته باعتبارها تجسيدًا أكثر عمومية لنهجٍ قائمٍ على القِيَمِ في التعامُل مع السياسة الخارجية، للأفضلِ وللأسوَإِ.
كان يُنظَرُ إلى كارتر باعتباره نقيضًا للرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون، الذي استقال من الرئاسة في العام 1974 بسبب فضيحة “ووترغيت”. ونظرًا لهذا، فربما لا يكونُ من المُستَغرَب أن يكونَ نهجه في السياسة الخارجية مُتناقِضًا بشكلٍ صارخٍ مع نهج وزير خارجية نيكسون، هنري كيسنجر، الذي توفي عن عمرِ يناهز ال100 عام في أواخر العام 2023. كان كيسنجر -الذي خدم أيضًا في عهد خليفة نيكسون وسلف كارتر، الرئيس جيرالد فورد – يُعتَبَرُ النموذج الحديث لفكرِ السياسة الواقعية، أي السياسة الخارجية التي تسترشدُ بالسعي الجاد إلى تحقيق المصالح الوطنية. وعلى النقيض من ذلك، جَسّدَ نهجُ كارتر تفكيرَ السياسة المثالية، أي السياسة الخارجية التي تسترشِدُ بالقِيَم والاعتبارات الأخلاقية، حتى عندما تتعارَضُ مُمارستها مع المصالح الوطنية.
لقد نشأت جاذبية هذا النهج لدى كارتر من خلفيته المسيحية الإنجيلية وخبرته الواسعة كمُدَرِّسٍ في “مدرسة الأحد” الدينية قبل وأثناء وبعد رئاسته. إنَّ السياسة المثالية في السياسة الخارجية تتجاوزُ مجرّد التوسُّط في محادثات السلام. فحتى كيسنجر حصل على جائزة نوبل للسلام لتوسُّطه في التوصُّلِ إلى اتفاقِ سلامٍ أنهى تورُّط الولايات المتحدة في حرب فيتنام. بدلًا من ذلك، فإنَّ النهجَ القائم على القِيَمِ يتجذّرُ في جعل حماية حقوق الإنسان، وليس السعي إلى سياسات القوة، محورية للسياسة الخارجية. وكما ذكر كارتر في خطاب تنصيبه: “يجب أن يكونَ التزامُنا بحقوق الإنسان مُطلَقًا، وقوانيننا عادلة… ولا ينبغي للأقوياء أن يضطهدوا الضعفاء، ولا بُدَّ من تعزيز الكرامة الإنسانية”.
ولعلَّ التناقُضَ بين نهجَي كيسنجر وكارتر في السياسة الخارجية يتجلّى على أفضلِ صوره في الجدل الدائر حول جوائز نوبل للسلام التي حصلا عليها. فعندما حصل كيسنجر على الجائزة، أثار ذلك ردودَ فعلٍ عنيفة، لأنه كان يُعتَبَرُ مهندسَ الحملات الجوية الأميركية الضخمة على كمبوديا ولاوس أثناء حرب فيتنام. وكانت ردود الفعل على حصول كارتر على جائزة نوبل مثيرة للجدل أيضًا، ويرجع هذا جُزئيًا إلى أنَّ اللجنة ذاتها اعتبرت أن الجائزة جاءت مُتأخّرة للغاية، ولكن أيضًا لأنها اعتبرتها رسالة واضحة من لجنة نوبل إلى الرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش (الإبن)، الذي كانت إدارته تستعد لغزو العراق. وكما ذكرت لجنة نوبل في بيانها الصحافي الذي أعلنت فيه عن جائزة كارتر: “في ظلِّ الوضعِ الحالي الذي يتّسم بالتهديد باستخدام القوة، ظلّ كارتر مُتمسّكًا بالمبادئ التي تؤكّد على ضرورة حلّ النزاعات قدر الإمكان من خلال الوساطة والتعاون الدولي القائم على القانون الدولي واحترام حقوق الإنسان والتنمية الاقتصادية”.
وقد يكون أفضلُ مثالٍ على نهج كارتر القائم على القِيَمِ في التعامل مع السياسة الخارجية يتمثّلُ في جهوده كرئيسٍ لتسليم السيطرة على قناة بنما إلى دولة بنما، وهو الموضوع الذي عاد إلى الظهور في الأخبار أخيرًا بشكلٍ مفاجئ بفضل تصريحٍ أدلى به الرئيس المُنتخَب دونالد ترامب. فقد عملت الولايات المتحدة ومارست السيادة على هذا الممرّ المائي الحيوي للتجارة الدولية بموجب عقد إيجار إلى الأبد منذ إنشائه في أوائل القرن العشرين. وفي العقود التي تلت ذلك، أصبح هذا الممر رمزًا لعقلية واشنطن الاستعمارية ونهجها المُتسلّط تجاه أميركا اللاتينية. وسعى كارتر، الذي استند إلى عملِ كيسنجر نفسه وأوضح كيف يُمكِن للسياسة الواقعية والسياسة المثالية أن تتداخلا في بعض الأحيان، إلى تغيير هذا التصوُّر من خلال تسريع المفاوضات بشأن مستقبل قناة بنما، التي تمَّ على أثرها توقيع معاهدتَين في أيلول (سبتمبر) 1977، بعد ثمانية أشهر فقط على تولّيه منصبه. واتفقت المعاهدتان على إعادة السيطرة الكاملة على القناة إلى بنما اعتبارًا من كانون الأول (ديسمبر) 1999 مع ضمان الحياد في تشغيلها.
وكما أعلن كارتر في حفل التوقيع، فإنَّ المعاهدتين “أعادت الحياة إلى المبادئ القديمة ــ مبادئ السلام، وعدم التدخّل، والاحترام المتبادل والتعاون”. والأمر الأكثر أهمية، بدلًا من مجرّد التعبير عن الدعم “لهذه المبادئ من الناحية النظرية”، كما فعل الاتفاق الذي تفاوض عليه كيسنجر مع بنما، فإنَّ المعاهدتين تُمثّلان العمل الشاق المتمثّل في جعل هذه المبادئ “أساسًا للعمل”.
علاوةً على ذلك، واجه التزامُ كارتر بوضعِ هذه المبادئ موضع التنفيذ مُعارضةً شديدة. على سبيل المثال، في عبارةٍ رددها ترامب اليوم، أعلن السيناتور ستروم ثورموند آنذاك، “القناة لنا، اشتريناها ودفعنا ثمنها ويجب أن نحتفظَ بها”. وفي حين أن التخلّي عن السيطرة على قناة بنما ربما كان الشيء الصحيح الذي يجب القيام به حتى لو كان ذلك يقوّضُ المصالح الأميركية، فإنَّ الكفاحَ من أجل تصديق مجلس الشيوخ على المعاهدتين استنفدَ رأس المال السياسي الذي كان يُمكن أن يكون قَيِّمًا في وقت لاحق من رئاسة كارتر.
وللتوضيح، لم يكن كارتر ضعيفًا في السياسة الخارجية. كان صقرَ حقوقِ الإنسان الماهر، حيث اتَّخذَ خطواتٍ لتعزيزِ الإنفاق الدفاعي الأميركي، والذي يتلقّى خليفته الرئيس السابق رونالد ريغان الفضل فيه في كثيرٍ من الأحيان. في أعقاب الغزو السوفياتي لأفغانستان، اختار كارتر مقاطعة أولمبياد موسكو في العام 1980. كما عزّزَ إرثًا رئيسًا لكيسنجر ونيكسون من خلال الانتهاء من تطبيع العلاقات مع الصين والتوسُّط في معاهدة الحد من الأسلحة “سالت-2” (SALT II) مع الاتحاد السوفياتي.
غالبًا ما ترتبطُ المثالية في السياسة الخارجية برئيسٍ أميركي آخر، وودرو ويلسون. لكن جهود ويلسون لإنشاء عصبة الأمم في أعقاب الحرب العالمية الأولى يُمكنُ أن تُعزى إلى رغبةٍ شبه مسيحية في جعل الولايات المتحدة، وربما حتى ويلسون نفسه، تلعب دورَ مُنقذة العالم الأوروبي، مع منع أوروبا أيضًا من الانفجار في حربٍ أخرى من شأنها أن تُعرّضَ المصالح التجارية الأميركية للخطر مرة أخرى. بدت سياسة كارتر الخارجية القائمة على القِيَم أكثر نكرانًا للذات، وربما حتى ساذجة بعض الشيء. لم يكن عليه سحب الدعم الأميركي للديكتاتوريين، أو التخلّي عن السيطرة على قناة بنما أو مساعدة إسرائيل ومصر في التوسُّط في اتفاق سلام. لكنه اعتقدَ أنَّ هذه أشياء مهمّة يجب القيام بها، حتى لو لم يخدم بعضها بالضرورة المصالح الأميركية بل وحتى تعقيدها.
ربما كانت سياسته الخارجية القائمة على القِيَم هي ما احتاجته الولايات المتحدة في وقتِ انتخابه، لكنها لم تكن كافية له لتأمين فترة ولاية ثانية. فقد هُزِمَ بشكلٍ ساحق من قبل ريغان في انتخابات العام 1980. وفي حين يمكن للمرء أن يُشيرَ إلى جاذبية ريغان وإخفاقات كارتر أثناء الحملة الانتخابية، فإنَّ خسارته كانت في النهاية بسبب ظروفٍ كانت خارجة عن إرادته، وخصوصًا الثورة الإيرانية في العام 1979، والتي أدت إلى احتجاز رهائن أميركيين في السفارة الأميركية في طهران.
لكن في حين أضرّت محاولات كارتر الفاشلة لتحرير الرهائن به سياسيًا، فإنَّ العاملَ الأكبر في هزيمته كان الوضع الاقتصادي السيّئ، وهو محرّكٌ أساس لنتائج أي انتخابات ديموقراطية بشكل عام، والانتخابات الرئاسية الأميركية بشكلٍ خاص. أدّت الثورة الإيرانية، جنبًا إلى جنب مع الغزو السوفياتي لأفغانستان، إلى نقصٍ في إمدادات النفط، ما أثار الذعر في أسواق الطاقة العالمية تمامًا مع دخول الولايات المتحدة عام الانتخابات. لقد أدى ارتفاع أسعار النفط ــالصدمة الثانية من نوعها في سبعينيات القرن العشرين ــ إلى نقصٍ في البنزين وارتفاع الأسعار في محطات الوقود في مختلف أنحاء الولايات المتحدة، في وقتٍ كانت السيارات التي تستهلك كميات كبيرة من الوقود هي القاعدة في البلاد. وهذا مزيجٌ يجد كل شاغلي المناصب العليا تقريبًا صعوبة في التغلُّب عليه، ولم يكن كارتر استثناءً.
بشكلٍ عام، يتعيّن رفضُ الادعاءات بأنَّ رئاسة كارتر كانت فاشلة أو مُخَيِّبة للآمال لأنه خدم فترة واحدة فقط. بدلًا من ذلك، ينبغي النظر إلى كارتر باعتباره شخصية مهمّة سلّطت الضوء على المخاطر والمكافآت المترتبة على السعي بجرأة إلى إعلاء القِيَم على المصالح، سواء على المستوى الشخصي أو بالنسبة إلى أمّته والعالم ككل.