الاحدثدولي

فرنسا: لماذا سيَضُرُّ اليسارُ نفسَهُ إذا حَكَمَ ويخدُمُ اليمينَ المُتَطَرِّف؟ | بقلم البروفسور بيار الخوري

تاريخيًا، عانت الأحزابُ اليسارية في فرنسا من تَشَتُّتٍ داخليٍّ وانقساماتٍ إيديولوجية، ما أدّى إلى فقدانِ تأثيرها السياسي وتصاعُدِ نفوذِ اليمين. وفي الوقت الذي توحّدت وحصدت أعلى نسبة من الأصوات في الدورة الثانية من الإنتخابات التي جرت يوم الأحد الفائت، فإنها بالتالي تسعى إلى الوصولِ إلى السلطة، لكن تولّيها الحُكم قد يؤدّي إلى نتائج عكسية يُمكِنُ أن تَخدُمَ اليمين بكافةِ اطيافه.

يُعتَبَرُ تشتُّتُ اليسار الفرنسي أحدَ الأسبابِ الرئيسة التي ساهمت في صعودِ اليمين المُتَطرّف تاريخيًا. ورُغمَ أنّهُ ليسَ السببَ الوحيد بالتأكيد، تُعاني الأحزابُ اليسارية غالبًا من انقساماتٍ داخليةٍ وصراعاتٍ إيديولوجية، مما يُضعِفُ جبهتها المُوَحَّدة ويجعلها غير قادرة على تقديمِ بديلٍ قويٍّ للناخبين. في هذا السياق، يستغلُّ اليمينُ المُتطرّفُ هذا التشتّت ليَظهَرَ كقوةٍ سياسيةٍ مُتماسكة وقادرة على تقديمِ حلولٍ للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية. قوّةُ اليمين تقومُ غالبًا على إظهار العزمِ والتصميمِ والإرادة والجرأة، والتغاضي عن تناقُضاتٍ قد توصِلُ الشعبَ إلى عَكسِ ما يَرتجي أساسًا. في المقابل، يميلُ اليسارُ تاريخيًا إلى الشرحِ والتفصيلِ وتعرية التناقُضات إلى درجةٍ تُناقِضُ المجموعات نفسها.

ضغوطُ رأسمال العابر للقارات

في حالِ تولّي اليسار الحُكم بعد النتائج الحالية للانتخابات التشريعية في فرنسا، قد تُواجِهُ البلادُ ضغوطًا شديدةً من الرأسمال العابر للقارات. الشركات الكبرى والمؤسّسات المالية العالمية قد تُهدّدُ بسحبِ استثماراتها ونقلها إلى دولٍ أكثر استقرارًا وأقل “اشتراكية” في سياساتها الاقتصادية. هذه التهديدات يُمكنُ أن تؤدي إلى زعزعة استقرار الاقتصاد الفرنسي، مما يضع الحكومة اليسارية في موقفٍ ضعيفٍ ويزيدُ من صعوبة تنفيذ برامجها الإصلاحية.

ربما لا يكون مُفيدًا مقارنة النتائج الفرنسية بالنتائج البريطانية، فحزب العمال البريطاني صديقٌ للمال أكثر حتى من زميله الفرنسي، الحزب الاشتراكي، رُغمَ أنَّ الأخير هو طرفٌ ضعيف في تحالف اليسار الفرنسي الناشئ عشية الانتخابات.

تحدّيات تطبيق السياسات الاشتراكية

تطبيقُ السياسات الاشتراكية في اقتصادٍ مُتجذّرٍ في الرأسمالية يُعتَبَرُ تحدّيًا كبيرًا. زيادة الضرائب على الأثرياء والشركات الكبرى، وزيادة الإنفاق الاجتماعي، وتنظيم الأسواق هي سياساتٌ قد تواجهُ مقاومةً شديدةً من قبل النُخبِ الاقتصادية والمؤسّسات المالية. هذه المقاومة يمكن أن تؤدي إلى انخفاضِ الاستثمارِ وزيادة البطالة، مما يُضعِفُ الاقتصادَ ويؤدّي إلى تراجُعِ الدعمَ الشعبي للحكومة اليسارية إذا ما تَشَكّلت.

في ظلِّ حُكمِ يمين الوسط، تمتّعت فرنسا بعلاقاتٍ وثيقةٍ مع النخبة المالية الدولية، ما ساعدها على جذبِ الاستثماراتِ والحفاظ على استقرارٍ اقتصادي رُغم الآثار الاجتماعية لهذا الاستقرار. بالمقابل، يفتقرُ اليسارُ إلى هذه العلاقات وإلى ثقةِ النُخَبِ المالية المذكورة، الأمر الذي يجعلُ من الصعب عليه التعامُلَ مع الأزمات الاقتصادية والحصولَ على التدفُّق الاستثماري اللازم لتنفيذِ سياساته. غيابُ الحلفاء الماليين يمكن أن يعزلَ فرنسا دوليًا ويجعلها أكثر عرضةً للتقلّبات الاقتصادية العالمية.

تعزيز قوة اليمين المُتطرِّف

كُلّما فشلَ اليسارُ في الحُكم بسبب التحدّيات الاقتصادية والسياسية، زادت فُرُصُ اليمين المُتطرّف في تعزيز قوته. الناخبون الذين يشعرون بخيبة الأمل من فشلِ اليسار في تحقيق وعوده قد يتّجهون نحو اليمين المتطرّف الذي يعدُ بتقديمِ حلولٍ سريعةٍ وحاسمة. في هذا السياق، يُصبحُ اليمين المُتطرّف البديل المُمكن، مما يزيدُ من شعبيته ويُعزّزُ فُرَصهُ في الوصول إلى السلطة. يُراهن اليمين على ذلك بقوله: لقد تأجّلَ إمساكُنا بالسلطة!

إنَّ تولّي اليسار الحكم في فرنسا قد يؤدّي إلى نتائج عكسية تخدُمُ اليمين المتطرّف. التحدياتُ الاقتصادية والسياسية، وضغوطُ رأسمال العابر للقارات، وصعوبةُ تطبيقِ السياسات الاشتراكية، ووجودُ مُقارباتٍ مُتضاربة حول ماهية السياسات الاشتراكية بين اليساريين أنفسهم، ناهيكَ عن غيابِ الحلفاء الماليين، جميعها عوامل تجعلُ من حُكمِ اليسار مهمّةً صعبة ومليئة بالتحدّيات. في نهاية المطاف، يُمكنُ أن يؤدّي فشلُ اليسار في الحُكمِ إلى تعزيزِ قوّة اليمين المتطرّف وزيادة نفوذه، ما يجعلُ من الصعب على اليسار استعادة الثقة والدعم الشعبيين في المستقبل تمامًا كما حصل بعد الحقبة الميترانية.

ليس تحذيرُ، وربما تهديدُ، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبيل الانتخابات بأنَّ على الفرنسيين أن يتوقّعوا ضياعَ ودائعهم في حالِ نجاح اليمين المتطرّف أو اليسار، تهديدًا عالم ثالثيًا، بل يُعبّرُ عن حقيقة قوة النخبة المالية الدولية (التي أوصلت ماكرون مرّتين إلى رأس الهرم).

لا يُمكِنُ لليسار الفرنسي أن يُخرِجَ فرنسا من موقعها في النظام العالمي إلّا إذا امتلك قوة الخروج على الغرب، أي أن يكونَ اليسارُ “شيوعيًا” لا “يساريًا” ولا “اشتراكيًا”، وهذا ما لا تريده غالبية الجمهور التي صوّتت لليسار.

إذا ما أظهرَ اليسارُ الحكمة والاستفادة من تجارب انخراطه في السلطة، فعليه أن يتمسّكَ بموقعه المُعارض لا أن يستعجلَ السلطة. أمام اليسار الفرنسي ثلاثةُ حلول:

* تشكيلُ حكومةٍ يسارية تُرضي ناخبيه ولكن تفتح أمامه جهنّمًا اقتصاديًا.

* تشكيلُ ائتلافٍ مع يمين الوسط ولكن بأجندةٍ مُتناقضة وسياساتٍ مُعرقِلة تبعًا لتموضع الطرفين العقائدي، ما سيؤدّي في النهاية إلى مكاسب إضافية لليمين المتطرّف.

* البقاء خارج لعبة الكراسي… ليبقى حيًّا.

فرنسا دخلت في أزمة سلطة طويلة الأمد، والكل مأزوم فلماذا يستعجل اليسار؟

د. بيار بولس الخوري ناشر الموقع

الدكتور بيار بولس الخوري أكاديمي وباحث ومتحدث بارز يتمتع بامكانات واسعة في مجالات الاقتصاد والاقتصاد السياسي، مع تركيز خاص على سياسات الاقتصاد الكلي وإدارة التعليم العالي. يشغل حاليًا منصب عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا وأمين سر الجمعية الاقتصادية اللبنانية. عمل خبيرًا اقتصاديًا في عدد من البنوك المركزية العربية. تخصص في صناعة السياسات الاقتصادية والمالية في معهد صندوق النقد الدولي بواشنطن العاصمة، في برامج لصانعي السياسات في الدول الاعضاء. يشغل ايضا" مركز أستاذ زائر في تكنولوجيا البلوك تشين بجامعة داياناندا ساغار في الهند ومستشار أكاديمي في الأكاديمية البحرية الدولية. ألّف أربعة كتب نُشرت في الولايات المتحدة وألمانيا ولبنان، تناولت تحولات اقتصاد التعليم العالي وتحديات إدارته، منها كتاب "التعليم الإلكتروني في العالم العربي" و"التعليم الجامعي بموذج الشركنة". نشر أكثر من 40 بحثًا علميًا في دوريات محكمة دوليًا،. يُعد مرجعًا في قضايا مبادرة الحزام والطريق والشؤون الآسيوية، مع تركيز على تداعياتها الجيوسياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط. أسس موقع الملف الاستراتيجي المهتم بالتحليل الاقتصادي والسياسي وموقع بيروت يا بيروت المخصص للأدب والثقافة. أطلق بودكاست "حقيقة بكم دقيقة" على منصة "بوديو"، ليناقش قضايا اجتماعية واقتصادية بطريقة مبسطة. شارك في تأليف سلسلتين بارزتين: "الأزرق الملتهب: الصراع على حوض المتوسط"، الذي يحلل التنافسات الجيوسياسية حول موارد البحر المتوسط، و"17 تشرين: اللحظة التي أنهت الصفقة مع الشيطان"، وهي مجموعة دراسات ومقالات عميقة حول انتفاضة لبنان عام 2019، والمتوفرتان على منصة أمازون كيندل. لديه مئات المقابلات في وسائل إعلام محلية عربية وعالمية مقروءة ومتلفزة، حيث يناقش قضايا الاقتصاد اللبناني والأزمات الإقليمية والشؤون الدولية. يكتب مقالات رأي في منصات إلكترونية رائدة مثل اسواق العرب اللندنية كما في صحف النهار والجمهورية ونداء الوطن في لبنان. يُعتبر الخوري صوتًا مؤثرًا في النقاشات حول مسيرة اصلاح السياسات الكلية وسياسات محاربة الفساد والجريمة المنظمة في لبنان كما مسيرة النهوض بالتعليم والتعليم العالي وربطه باحتياجات سوق العمل. لديه خبرة واسعة في دمج تطبيقات تكنولوجيا البلوكتشين في عالم الاعمال ومن اوائل المدافعين عن الصلاحية الاخلاقية والاقتصادية لمفهوم العملات المشفرة ومستقبلها، حيث قدم سلسلة من ورش العمل والتدريبات في هذا المجال، بما في ذلك تدريب لوزارة الخارجية النيجيرية حول استخدام البلوك تشين في المساعدات الإنسانية وتدريب الشركات الرائدة في بانغالور عبر جامعة ساغار. كما يمتلك أكثر من 30 عامًا من الخبرة في التدريب وإدارة البرامج التدريبية لشركات ومؤسسات مرموقة مثل شركة نفط الكويت والمنظمة العربية لانتاج وتصدير النفط OAPEC. يجمع الخوري بين العمق الأكاديمي، فهم البنى الاجتماعية-الاقتصادية والاستشراف العملي، مما يجعله خبيرا" اقتصاديا" موثوقا" في العالم العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى