برزت دولة الإمارات العربية المتحدة باعتبارها واحدة من أهم الشركاء الرئيسيين للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، حيث لقّبها وزير الدفاع الأميركي السابق جيمس ماتيس بـ”إسبرطة الصغيرة” بسبب قدراتها العسكرية غير المتناسبة مع حجمها الجغرافي الصغير وعمرها القصير كدولة. وبناءً على هذا المنظور، تُعتبر أبوظبي بالنسبة لواشنطن حليفًا حيويًا لردع إيران والتعاون مع أجندة البيت الأبيض في المنطقة.
وأصبحت دولة الإمارات في الآونة الأخيرة أحد العناصر الأساسية في رغبة واشنطن الرامية إلى إسناد أعبائها الإقليمية في الشرق الأوسط إلى دول أخرى في المنطقة لأنها باتت تتجه نحو آسيا، كما تقول مجلة فورين بوليسي الأميركية. على الرغم من أنَّ الإمارات قد تنخرط أحيانًا في تدخلات إقليمية أو ترتكب انتهاكات لحقوق الإنسان، يجادل مؤيدو هذا المنظور بأنَّ مثل هذه الإجراءات لا تضر بمصالح الولايات المتحدة وتبقى الإمارات رمزًا للاستقرار والتقدّم في منطقة تعج بالاضطرابات.
كما يبدو أنَّ إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، تتبنى هذا المنظور، إذ وافقت على بيع أسلحة بقيمة 23 مليار دولار (تشمل طائرات طراز “F-35”) إلى أبوظبي وأشادت بدولة الإمارات باعتبارها “شريكًا أمنيًا رئيسيًا” للولايات المتحدة الأميركية.
التفويض الأميركي المطلق للإمارات
لكن يقول جون هوفمان الأكاديمي بجامعة جورج ميسون والمتخصص بالجغرافيا السياسية للشرق الأوسط والإسلام السياسي، في تحليل بمجلة Foreign Policy الأميركية، إن هذا النهج معيب للغاية. على الرغم من التفاؤل الذي أبداه أنصار مثل هذا المنظور، فإنَّ التغاضي عن السلوك المارق لدولة الإمارات أضر بمصالح الولايات المتحدة ليس داخل منطقة الشرق الأوسط فحسب، بل في الداخل الأميركي أيضًا.
ويقول هوفمان إن دولة الإمارات دأبت على اتباع سياسات مزعزعة للاستقرار بطبيعتها في منطقة الشرق الأوسط، فتسبّبت في تفاقم العديد من الحروب الأهلية الجارية في المنطقة وانتهكت القوانين الدولية وسعت بنشاط إلى تخريب محاولات التغيير الديمقراطي في الشرق الأوسط، ناهيك عن محاولاتها المتكررة للتدخل في السياسات الداخلية للولايات المتحدة الأميركية على أعلى المستويات ومراقبة الدبلوماسيين والمسؤولين الحكوميين في جميع أنحاء العالم.
يتعيَّن على الولايات المتحدة إعادة تقييم مثل هؤلاء “الحلفاء” الذين تسعى إلى إسناد مصالحها إليهم في منطقة الشرق الأوسط قبل أن تتحول إلى مسارح أخرى، ويجب عليها أيضًا محاسبة أولئك الذين يسعون للتدخل غير القانوني في السياسات المحلية للولايات المتحدة. لفعل ذلك، يجب إنهاء التفويض المطلق أو “الشيك على البياض” الممنوح من جانب الولايات المتحدة لدولة الإمارات.
أسطورة الاستقرار الاستبدادي
على مدار عقود، سيطر على السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط ما يُسمّى “أسطورة الاستقرار الاستبدادي”، وهو اعتقاد خاطئ مفاده أنَّ الحكام المستبدين في الشرق الأوسط “يستطيعون حماية المصالح الأميركية من خلال فرض نظام سياسي واجتماعي على مواطنين مستضعفين”. لكن العكس هو الصحيح، كما يقول نادر هاشمي، مدير مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة “دنفر” الأميركية. باتت هذه الأنظمة الاستبدادية مصادر رئيسية لعدم الاستقرار الإقليمي، سواء من حيث طبيعة حكمها أو السياسات التي تتبعها.
تُعد أبوظبي أحد الأمثلة على هيمنة هذه الأسطورة على السياسة الأميركية في المنطقة. برزت دولة الإمارات، المُدجّجة بالأسلحة الأميركية المُتقدّمة، باعتبارها واحدة من أكثر الدول تدخلًا في شؤون بلدان المنطقة، فاتّبعت سياسات أطالت أمد الحروب الأهلية وخلقت أزمات إنسانية وسحقت التطلعات الديمقراطية وغذت المظالم الكامنة، الأمر الذي أثار العديد من الاضطرابات.
في مصر، أدت دولة الإمارات دورًا أساسيًا في دعم الإطاحة بالرئيس المصري الراحل المنتخب ديمقراطيًا آنذاك، محمد مرسي. وفي سوريا، أظهرت دولة الإمارات دعمها للرئيس السوري، بشار الأسد، من خلال الإعراب عن دعمها للتدخل العسكري الروسي في عام 2015 والمشاركة مع موسكو في “عمليات مكافحة الإرهاب” وإعادة فتح سفارتها في دمشق في عام 2018 وحث جامعة الدول العربية والمجتمع الدولي الأوسع لإعادة قبول بشار الأسد.
في ليبيا، قدّمت أبوظبي دعمًا اقتصاديًا وعسكريًا كبيرًا لميليشيات خليفة حفتر. واتُّهم الإماراتيون أيضًا بتمويل مرتزقة سودانيين وروس لدعم قوات حفتر والتورط في ارتكاب جرائم حرب في ليبيا.
تورطت أبوظبي أيضًا في جرائم حرب وتعذيب واغتيالات في اليمن وكانت طرفًا مباشرًا في خلق واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية بالعالم راح ضحيتها أكثر من 230 ألف شخص. ووفقًا للتقارير، نُقلت أسلحة أميركية تمتلكها الإمارات إلى مقاتلين مرتبطين بتنظيم القاعدة وعدد من الميليشيات السلفية المتشددة الأخرى. وعلى الرغم من ادعاء الإمارات أنها انسحبت في عام 2019، لا تزال أبوظبي تقدم الأسلحة والدعم لهذه الميليشيات المحلية المتطرفة وتواصل احتلال أجزاء من اليمن على نحو غير قانوني.
وقد أعربت دولة الإمارات مؤخرًا عن دعمها لما يحدث في تونس، ويُعتقد أنَّها راضية عن الانقلاب الذي شهدته السودان نظرًا لعلاقاتها القوية مع العسكريين هناك.
الإمارات تضر بسمعة الولايات المتحدة العالمية
ويقول هوفمان إن السياسات الإقليمية والدولية لدولة الإمارات تضر بسمعة الولايات المتحدة العالمية، وتجعل وعد الرئيس الأميركي جو بايدن بتبني سياسة خارجية أميركية تركز على حقوق الإنسان يبدو أقرب إلى النفاق.
بالإضافة إلى سجلها السيئ في مجال حقوق الإنسان داخليًا ودورها في إثارة اضطرابات وخلق أزمات إنسانية إقليميًا، دعمت دولة الإمارات حملة اضطهاد الصين لأقلية الإيغور المسلمة على الرغم من إدانة إدراة الرئيس جو بايدن لهذه الحملة الصينية الممنهجة بوصفها “إبادة جماعية”. وقد أوردت تقارير في شهر أغسطس/آب أنَّ دولة الإمارات تستضيف مرفق احتجاز سري تديره الصين في دبي لاستهداف الإيغور واحتجازهم وترحيلهم.
لكن لم يقتصر الأمر على الإضرار بالمصالح الأميركية في الخارج وتقويضها، بل سعت أبوظبي إلى التدخل المباشر في السياسة الداخلية للولايات المتحدة، فيما ينبغي اعتباره اعتداءً مباشرًا على الديمقراطية الأميركية.
في وقت سابق من هذا العام، اتُّهم توماس باراك، صديق الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ومدير حملة تنصيبه للرئاسة، بممارسة ضغوط غير قانونية ومحاولة التأثير على مواقف السياسة الخارجية لإدارة ترامب لصالح جهات أجنبية. يزعم مدعون أميركيون أنَّ توماس باراك كان يعمل بتوجيه من مسؤولين إماراتيين على أعلى المستويات -من بينهم ولي عهد أبوظبي، الشيخ محمد بن زايد آل نهيان- ودفع بأسماء المرشحين المفضلين لدى دولة لإمارات لشغل مناصب وزارية في الإدارة الأميركية الجديدة، من بينها منصب وزير الخارجية ووزير الدفاع ومدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية.
التدخل الروسي في انتخابات الرئاسة الأميركية
بالإضافة إلى ذلك، في شهر سبتمبر/أيلول، اعترف ثلاثة عملاء سابقين في الاستخبارات الأميركية بتنفيذ عمليات قرصنة إلكترونية داخل الولايات المتحدة لصالح دولة الإمارات.
ورد أيضًا أسماء مسؤولين مرتبطين بدولة الإمارات في تقرير روبرت مولر، وهو التقرير الرسمي الذي يحقق في التدخل الروسي في انتخابات الرئاسة الأميركية عام 2016. كان جورج نادر، مبعوث ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، أحد هؤلاء المسؤولين الوارد ذكرهم في هذا التحقيق الخاص بمحاولات التأثير على نتائج الانتخابات لصالح المرشح الجمهوري آنذاك، دونالد ترامب.
ثمة واقعة واحدة تحديدًا أوردتها صحيفة “New York Times” الأميركية تسلط الضوء على مدى سعي نادر للتسلل إلى الدائرة المقربة لدونالد ترامب. وفقًا للصحيفة، اجتمع ثلاثة أفراد في برج ترامب قبل انتخابات عام 2016 بفترة وجيزة للقاء الابن الأكبر لترامب، دونالد ترامب جونيور. هؤلاء الثلاثة هم جورج نادر وجويل زامل، وهو رجل أعمال أسترالي المولد-إسرائيلي الجنسية متخصص في التلاعب بوسائل التواصل الاجتماعي، وإريك برنس، الرئيس السابق لشركة “بلاك ووتر” الأمنية الخاصة.
وبحسب ما ورد في تقرير “New York Times”، أخبر جورج نادر نجل دونالد ترامب بأنَّ ولي العهد السعودي وولي عهد أبوظبي حريصان على مساعدة والده في الفوز بانتخابات الرئاسة.
وعرض جويل زامل خدمات شركته “المتخصصة في جمع المعلومات وتشكيل الرأي العام من خلال استخدام الآلاف من الحسابات الوهمية على شبكات التواصل الاجتماعي للترويج لترشيح ترامب على منصات مثل فيسبوك.
وعلى الرغم من أنَّه لم يعرف ما إذا كانت هذه الخطة قد نُفّذت بالفعل، فقد اتهم فيسبوك وتويتر دولة الإمارات عدة مرات بالتورط في حملات تضليل معقدة عبر منصاتهما.
حان الوقت لواشنطن لإنهاء تفويضها المطلق الممنوح لـ”إسبرطة الصغيرة”
في النهاية، يقول هوفمان إنه حان الوقت لواشنطن لإنهاء تفويضها المطلق الممنوح لـ”إسبرطة الصغيرة” والاعتراف رسميًا بدورها في المساعدة على زعزعة استقرار الشرق الأوسط وتقويض التقدم الديمقراطي في المنطقة، فضلًا عن جهودها للتدخل غير القانوني في السياسة الداخلية للولايات المتحدة. ولعل أسرع السبل لفعل ذلك هو وقف مبيعات الأسلحة الأميركية التي تستخدمها دولة الإمارات لإطالة أمد الصراعات الإقليمية وارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان وتعزيز السياسات الضارة بمصلحة الولايات المتحدة.
على الرغم من أنَّ مثل هذه الإجراءات قد تُعرّض مستقبل وجود قاعدة “الظفرة” الجوية الأميركية للخطر، ينبغي اغتنام هذه الفرصة لإعادة النظر في الوجود العسكري الأميركي في المنطقة ككل، والذي كان في حد ذاته عاملًا مزعزعًا للاستقرار. ينبغي أن يُشكّل إعادة تقييم علاقة الولايات المتحدة مع دولة الإمارات حافزًا لإعادة النظر في استراتيجية واشنطن الأوسع نطاقًا في الشرق الأوسط المرتكزة على أسطورة “الاستقرار الاستبدادي” المعيبة.
مصدر المقال : اضغط هنا