مع تفاقم المشهد السياسي الامريكي الداخلي والخارجي، المتزامن مع بدء دخول الحزبين الكبيرين نفق الانتخابات التمهدية، وصولا الى يوم 5 نوفمبر 2024 حيث المنافسة على مقعد ساكن البيت الابيض الجديد. ومع تأكيد الحزب الجمهوري على وضع مرشحه الوحيد دونالد ترامب على قائمة مرشحي الحزب لخوض سباق المنافسة الرئاسية بعد انسحاب نيكي هيلي. يسعى الرئيس الامريكي جو بايدن لصد الرياح غير المواتية والظهور بمظهر القائد المسؤول، عبر سد الفجوة القائمة في صفوف حزبه الديموقراطي وحالة الانقسام التي اظهرتها نتائج الانتخابات التمهيدية في عدة ولايات امريكية ابرزها ولاية ميشيجان حول عدة قضايا وفي مقدمتها حركة “ممتنعون” الساخطة من استمرار المحرقة في قطاع غزة والعدوان الاسرائيلي الشامل على عموم اراضي دولة فلسطين الى جانب الانحياز الكامل للادارة الديموقراطية الحالية لاسرائيل. بالاضافة الى العملية العسكرية الروسية المستمرة في اوكرانيا وانعكاساتها على الوضع الداخلي لامريكا وحلفائها عبر العالم، وسط انخفاض حاد في شعبية الرئيس وصلت الى اقل من 31%.
في هذا المناخ المتوتر وحالة اللايقين، القى الرئيس بايدن خطاب حالة الاتحاد الامريكي لعام 2024، مُظهراً باشد العبارات الحالة الاستثنائية التي تمر فيها الانتخابات الرئاسية الامريكية خلال هذا العام 2024. وافتتح خطابه مستحضراً عبارة سبق وان استخدمها الرئيس روزفلت في خطاب حالة الاتحاد في يناير من العام 1941 حيث الحرب العالمية الثانية مُستعرة. نقل بايدن عن روزفلت قوله “أخاطبكم في لحظة غير مسبوقة في تاريخ الاتحاد”. في محاولة منه لايقاظ الكونجرس وتحذير الامة الامريكية من الخطر الناجم عن الاعتداء اليومي الداخلي والخارجي على الحرية والديموقراطية، قائلا “الآن، نحن من نواجه لحظة غير مسبوقة في تاريخ الاتحاد”.
لم يكتفِ الرئيس بايدن في خطابه باستحضار تحذيرات سلفه روزفلت، بل حاول الايحاء الى عقيدة جورج دبليو بوش الاستعلائية بعد احداث 11 سبتمبر، التي قسمت العالم الى محورين “محور الخير ومحور الشر”. من ناحية، في محاولة منه لوضع ترامب في مكانة هتلر وحزبه MAGA “لنجعل امريكا عظيمة مرة اخرى” في دور النازيين الجدد الذين يهددون الديموقراطية الامريكية المزعومة وينشرون الخطاب السام، سلط بايدن في خطابه الضوء على الخطر الكامن في عودة ترامب الى المنافسة الرئاسية من جديد مذكرا باحداث 6 يناير2020. الى جانب مخاطر خسارة واشنطن لحلفائها من دول الناتو حال فوز ترامب بمقعد البيت الابيض، يقول بايدن ” الآن، سلفي، الرئيس الجمهوري السابق، يقول لبوتين، «افعل ما تريد بحق الجحيم».
وفي سياق الصراع الذي تخوضه واشنطن منذ بدء العملية العسكرية الروسية في اوكرانيا 24 فبراير2022، للحفاظ على هيمنتها كدولة احادية القيادة العالمية دون منافس. تحت غطاء نشر الديموقراطية والليبرالية وحقوق الانسان، جدد الرئيس بايدن تحذيراته “للعالم الحر” من مخاطر فوضى مزعومة يزرعها الرئيس الروسي بوتين عبر العالم وفي اوروبا على وجه الخصوص. يقول بايدن “… في الخارج، يسير بوتين الروسي في مسيرة … ويزرع الفوضى في جميع أنحاء أوروبا وخارجها”. ويزعم ان بوتين سوف يواصل حربه ضد حلفائه في اوروبا بعد الانتهاء من اوكرانيا، يقول بايدن “إذا اعتقد أي شخص في هذه الغرفة أن بوتين سيتوقف عند أوكرانيا، أؤكد لكم أنه لن يفعل”.
ينشد الرئيس بايدن عبر هذه المقارنة بين مخاطر عودة ترامب الى البيت الابيض واستمرار محاولات بوتين للاطاحة بالهيمنة الامريكية و”نشر الفوضى عبر العالم الحر”، الى اظهار الارتفاع الحاد في مستوى الخطر الوجودي الذي يهدد الامريكيين، وهو بذلك يوجه الناخب الامريكي الى مسار بعيدا عن رفاهية النقاش الدائر حول سن الرئيس البالغ 81 عاماً ومدى قدراته العقلية والبدنية للترشح لولاية ثانية، والتي اظهرت استطلاعات الرأي العديدة عدم تحمس الناخب الامريكي بمن فيهم بعض الديموقراطيين لهذا الخيار المحصور. بعبارة اخرى، يحاول الرئيس بايدن القول للامريكيين ان لا خيارات امامكم فإما انا او الطوفان والفوضى وعليكم اختيار “اهون الشرين”، وان تشخيص الاصابة بالانفلونزا اسهل بكثير من الاصابة بالسرطان عندما تنحصر الخيارات.
وفي إطار محاولاته اصلاح الصدع الكبير داخل صفوف الحزب الديموقراطي والقضاء على ظاهرة التمرد الذي يقوده التقدميون الليبراليون من داخل حزبه بسبب سياساته المنحازة لاسرائيل، سار الرئيس على خيط مشدود. من ناحية، حاول ارضاء لوبيات اسرائيل واختزل الصراع الاسرائيلي الفلسطيني بدءًا من تاريخ 7 اكتوبر، واصفا الحدث بانه اكبر مذبحة يتعرض لها الشعب اليهودي بعد الهولوكوست، وذهب بعيدا عن معالجة جذور الصراع وتشخيص اسبابه. مؤكدا من جديد وقوف بلاده الى جانب اسرائيل ودعمها في الدفاع عن نفسها. وأعلن شروطاً ثلاث لانهاء العدوان على قطاع غزة: (1) إطلاق سراح المحتجزين الاسرائيليين في القطاع (2) القاء السلاح و(3) تسليم المسؤولين عن أحداث 7 اكتوبر. وهو بذلك يضع خطوطه في مسار خطوط حكومة نتنياهو المتطرفه ويقترب اكثر من تبني مواقفها.
على الجانب الاخر، وفي محاولة منه لتهدأة حالة الغضب في قاعدته الحزبية والناجمة عن سياساته الموالية لاسرائيل، حاول التنصل من المسؤولية المباشرة عن معاناة اكثر من 2 مليون فلسطيني داخل قطاع غزة، والدمار الشامل الذي لحق بالمساكن والبنية التحتية الاساسية في القطاع الى جانب آلاف الشهداء والجرحى بسبب العدوان المستمر، سارع بايدن الى الإعلان عن نيته إنشاء رصيف قبالة ساحل غزة من شأنه تمكين زيادة هائلة في حجم المساعدة الإنسانية إلى المواطنين الفلسطينيين المحاصرين. يقول بايدن “الليلة، أوجه الجيش الأمريكي لقيادة مهمة طارئة لإنشاء رصيف مؤقت في البحر الأبيض المتوسط على ساحل غزة يمكنه استقبال سفن كبيرة تحمل الطعام والماء والأدوية والملاجئ المؤقتة”.
بين الواقع القاتم والتصور المأمول اللامنتهي، كرر بايدن تصريحاته اسلافه النظرية حول حق الشعب الفلسطيني في اقامة دولته المستقله، ولكن كالعادة دون ان يقرن الاقوال بالافعال ودون صياغة خارطة طريق تشرح آليات ومرجعيات تنفيذ هذا الاعلان. يقول بايدن “بينما نتطلع إلى المستقبل، فإن الحل الحقيقي الوحيد هو حل الدولتين. أقول هذا كمؤيد مدى الحياة لإسرائيل والرئيس الأمريكي الوحيد الذي يزور إسرائيل في زمن الحرب”. وحتى لا تثور ثائرة اللوبي الاسرائيلي ويستدعي ذكريات الهجمات الحادة على زميله السابق باراك اوباما بسبب هذا النوع من التصريحات التي تضغط على عصب العين، سارع بايدن للاشارة الى ضرورة استكمال مخطط “صفقة القرن” داعياً الى سرعة تطبيع العلاقة بين اسرائيل وجيرانها العرب وفي المقدمة منهم العربية السعودية. وهي اشارة واضحة لمغازلة الايباك AIPAC الذي رصد 100 مليون دولار في متناول اليد لتعزيز مقاعد المشرعين المؤيدين لاسرائيل داخل الكونجرس واغراق مقاعد المنافسين من اعضاء “الفرقة” المناهضة لاسرائيل.
لم يكد الرئيس بايدن ان ينهي خطاب حالة الاتحاد المُبشر بالسلام والاستقرار والازدهار وحماية الديموقراطية المُهددة في العالم من “المستبدين والنازيين” وفق زعمه، والتعبير عن تطلعاته وآماله في إقامة دولة فلسطينية مستقلة، حتى صدر عنه تصريحا ليس بالمفاجئاً، محوره استحالة تنفيذ هدنة في قطاع غزة قبل شهر رمضان. ولسان حاله يقول، ان الحسابات البنكية المتدفقة من جيوب المتبرعين اليهود وانصار اسرائيل في الولايات المتحدة مع صندوق الانتخابات الممتلئ بالاصوات على بطاقة الاقتراع الديمقراطي، اكثر اهمية من غضب الليبراليين الديموقراطيين ومستقبل الشعب الفلسطيني وحقه في تقرير مصيره. يقول بايدن “ان التوصل الى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة بحلول شهر رمضان «يبدو صعبا».