قرع طبول الحرب والانزلاق نحو الفوضى قبل التفاوض | بقلم العميد د. عادل مشموشي
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
مواقف الرئيس الروسي بوتين الأخيرة بنبرتها العالية، وتلميحاتها النووية لا تبشّر بالخير، بل يستدل منها إلى أن العالم قد انزلق بوتيرة متسارعة إلى حرب باردة، ستعيد خلق كل الاوراق، وستنهي حقبة القطب الواحد لتحل مكانها حقبة دولية جديدة ستعرف تعدد الأقطاب على المستوى العالمي.
أما من هم الاقطاب الجدد، فبعضهم في ذاته حكما كقطب دولي، والبعض الآخر يجهد ساعيًا إلى ذلك، ربما ينجح وربما لن يسمح له بذلك.
ستحافظ كل من الولايات المتحدة معها بريطانيا واستراليا (كحلف انغلوسكسوني)، وتليهما روسيا نظرا لقدراتها النووية وأسلحتها الاستراتيجية الفتاكة، وستحل الصين في المرتبة الثالثة، وربما بعد عقد او عقدين ستتفوق على روسيا لتنتزع منها بحكم الواقع المرتبة الثانية بحكم واقعها الجيو- اقتصادي، ومن خلال سعيها إلى تطوير قدراتها العسكرية مستغلة قدراتنا الصناعية والانتاجية في شتى المجالات، بعد أن أضحت العلوم في مجال تقنيات المعلومات شبه متاحة أمام الجميع، ولم يعد من السهل على الغرب احتكار تلك التقنيات وبخاصة البرمجيات التي تعتمد في تطوير ما يعرف بالاسلحة الذكية وتطويرها من حيث سرعة وصولها إلى أهدافها، وتعزيز قدراتها التدميرية ومداها الجغرافي، وطبعا سيحل الاتحاد الاوروبي في المرتبة الرابعة وسيشهد تحولا جذريا في اهتماماته العسكرية بحيث لن يبقى طويلا متكلا على القدرات العسكرية الاميركية المتفوقة عليه، وستلعب ألمانيا دورا رياديا في هذا الاطار، مستغلة قدراتها الاقتصادية، وخبراتها الغنية في مجال الصناعات العالية التقنية في شتى المجالات، كما ستستغل الروح المعنوية المتوارثة للشعب الالماني ونزعته العرقية، وربما ينجح الاتحاد الاوروبي للحلول مكان روسيا، ولكن هذا غير مؤكد، ويعزى ذلك للتطور الفكر باوربي ورقية الديمقراطي القائم على نبذ الحروب، قياسا على نتائج الحروب السابقة إن كان داخل أوروبا أو على المستوى الدولي. هذه الاقطاب الأربعة هي أقطاب فعلية حقيقية، سنضيف إليها دول طامحة ساعية الى حجز مقعد لها في مجموعة الاقطاب الاساسيين، أو ما يتبادر للذهن الهند، التي تسعى رغم ضائقتها الاقتصادية إلى ان تكون قطبا دوليا على المستوى الاستراتيحي الدولي، مستندة بذلك إلى عاملي عدد السكان والمساحة الجغرافية، وموقعها الجغرافي، خاصة أنها أضحت في مصاف الدول الاكثر غنى في الخبراء في مجال البرمجيات الرقمية، والتي تعتبر المرتكز الاساس في تطوير الأسلحة الدقيقة عامة في طليعتها الاسلحة الاستراتيجية، المعوق الوحيد (أقول معوقا وليس مانعا)، هو الوضع الاقتصادي في الهند حيث يعاني معظم شعبها من الفقر والعوز، كما طبيعة بنية الاقتصاد الهندي التي تغلب عليه المشاريع الانتاطية الصغير والذي اعتمد للنهوض بالمناطق الريفية، لذا بقي هذا الاقتصاد يعاني من افتقاره إلى صناعات ثقيلة ومتطورة، ولكن كل ذلك لن يكون مانعا أمام تطوير القدرات العسكرية الهندية، فيما لو عقد الزعماء في الهند لحز مقعد لهم بين الاقطاب الاستراتيجيين الدوليين، أما الطامحين في حجز مكان والذين نرى ان ثمة الكثير من الموانع تحول دون تحقيق تطلعاتهم وأحلامهم، فنذكر كل من تركيا والبرازيل، وتليهما إيران.
تركيا دولة عريقة في تاريخها على مستوى الساحة الدولية، منذ أيام السلطنة العثماني، مرورا بالحربين العالميتين الاولى والثاني، ويضاف الى ذلك أهمية موقعها الجغرافي. ولكني أرى أن أمام تركيا موانع تحول ما بينها وبين طموحاتها في هذا الشأن، أهمها العداء الإيديولوجي مع كل من الغرب والشرق، ويعزى ذلك للاختلاف في العقيدة الدينية، وتفشي ما يعرف بظاهرة الاسلاموفوبيا والعثمانوفوبيا على خلفية الصراعات التي حصلت ما بين السلطنة والدول المحيطة بها شرقا وغربا، والامر الآخر وليس الأخير إلى ان خبراتها العسكرية رغم التقدم الذي أحرزته مؤخرا في مجال الطائرات المسيّرة، لا تزال متأخرة عن ركب تطور الاسلحة الاستراتيجية العابرة للقارات، إن كان في مجال الخبرات النووية، او في إطار الأسلحة البالستية. وما يقال عم تركيا يقال عن البرازيل، باستثناء التفاوت أو التناقض في الفكر الايديولوجي، ولكن يضاف إلى المعوقات امام البرازيل الخلافات الجيوسياسية وربما العرقية داخل دول ما يعرف بأميركا الجنوبية واللاتينية.
وبالعودة إلى مواقف بوتين النارية وما انطوت عليه من تهديدات عسكرية، والردود الاميركية والاوروبية وما انطوت عليه من تهديدات اقتصادية، نرى ان العالم ينزلق إلى حالة لا استقرار إن لم نقل فوضى، ستقوض معها ان لك يكن قد قوضت مقومات الاستقرار التي حكمت العالم منذ انهيار الاتحاد السوفييتي الى يومنا هذا، لان ظاهرة القطب الواحد ومحاولة تنصيب أميركا لتفسها كشرطي لهذا العالم قد فشلت نتيجة العنجهية الأميركية وعدم كفاءة المعايير السياسية التي اعتمدتها السلطات الأميركية تجاه الكثير من الازمات والمشاكل الدولية التالقة، والتي لم يرتاح إليها حتى حلفاؤها الاستراتيجيون وفي طليعتهم الاتحاد الاوروبي.
وعلى الرغم من كل التشنج الظاهر على الساحة الدولية، والذي يؤججه تضارب المصالح وتفاقم الأزمة الاقتصادية الدولية الحالية، ؛ فان التحليل الاستراتيجي للساحة الدولية وتقييم المعطيات في المحيط الدولي كما في البيئة الداخلية لكل جهة من الجهات الدولية المعنية، يوحي بأن الامور قد تشهد المزيد من التأجج والصراعات، إلا أنها لم ولن تصل إلى حد المواجهة النووية، كما يحدد بوتين لأكثر من اعتبار أهمها بأن الحماقات في الإطار النووي ممنوعة وغير مقبولة إنسانيا، وليس بمقدور أي زعيم تحملها ان كان موقعه وشأنه.
وعليه نرى أن رفع وتيرة الخطاب والتهديد بقرع طبول الحرب هي من المسائل الملازمة للتشنجات الدولية وعادة ما تسبق التفاوض، وتكون النتيجة التوصل إلى حلول شبه مرضية للأطراف المعنية.
ونرى بنتيحة تحليلنا للوضع الدولي الراهن أن روسيا تعتبر أن الغرب كان سباقا في الاعتداء عليها وسعى إلى تحجيم دورها في لحظة ضعف خلال الحقبة الممتدة ما بين تفكك الاتحاد السوفييتي وقبل استفاقتها من الصدمة، التي تسبب بها غورباتشيف وفاقمها السكير يلنسن الذي غفل عن كل ما يخطط له الغرب العدو اللدود لروسيا، والشرق عامة. وعليه لم تستطع روسيا هضم تقليب الدول التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفييتي ضد الاتحاد الروسي، وبخاصة انقلاب اوكرانيا التي تعتبر ثاني دولة من دول الاتحاد السوفييتي سابقًا والخاصرة الأضعف لروسيا بحكم موقعها.
الغرب بدوره وبالتحديد أميركا والاتحاد الاوروبي لن يتخلوا عن الواقع الحالي الذي سعوا اليه لعقود وحققوه بشق الانفس في زكزكة روسيا مباشرة بخاصرتها، وبالتالي لن يتهاونوا مع بوتين، او يستجيبوا لإملاءاته، ولن يعطوه ما يريد او يكالب به على طبق من فضة، وبالتالي قد يجد هذا الأخير نفسه مضطرًا للتدخل عسكريًا وبالتالي يكون كلا المعسكربن قد ربح من وجهة نظره، السؤال كيف ولماذا؟
روسيا تكون قد كسرت شوكة اوكرانيا التي تعتبرها قد تآمرت عليها مع الغرب وخانتها، وبالوقت عينه تكون قد حمت حماية خاصرتها التي أضحت مكشوفة، وقد تكتفي روسيا باحتلال جزء من اوكرانيا وخاصة المناطق الحدودية وتلك التي يقطنها جماعات من أصول روسية. ولن تجازف في احتلال كامل أوكرانيا، لتفادي النقمة الشعبية الأوكرانية والتي ربما قد تتطور لمقاومة مسلحة قد تستنزف قدرات الحيش الروسي.
في الطرف الآخر تقف أميركا والغرب، يزينون بميزان حساس الربح والخسارة إذ ارباحهم تتنثل في إثارة نقمة حكومية وشعبية اوكرانية ضد روسيا وربما تكون بدابة عمل مقاوم ضد جيشها كما أشرنا، بالتالي زرع عداء تاريخي قد لا ينتهي في المدى المنظور، بضاف الى ذلك اتاحة المجال امام تبني عقوبات اقتصادية – مالية تستغل للتضييق على روسيا الخسارة التي يخشاها الغرب تتمثل في فقد ثقة الشعب الاوكراني فيما لو تعرضت اوكرانيا لاجتياح وقلب النظام، ووقف الغرب متفرجا عسكريا، هذا بالاضافة إلى التسبب بأزمة طاقة في اوروبا نتيجة وقف ضخ الغاز إلى دولها الغربية، لذا البحث جار عن مصادر بديلة للاستغناء للغاز الروسي، وربما تكون قطر ومصر والعراق وروسيا على المدى الاطول..
ولكن ماذا عن تنبؤات التبعات او الانعكاسات على المستوى الدولي :
أولا: ستجد الصين بحكم عدائها مع أميركا للوقوف جهارة إلى جانب روسيا وسيشكلان محورا سياسيا واقتصاديا وربما عسكريا في وجه الغرب مجتمعا، مع محاولة تحييد او عدم استفزاز أوروبا سياسيا.
ثانيا؛ ستعلن ايران وقوفها كليا الى جانب روسيا لتأمين غطاء وحماية عسكرية لها، ولتفادي ضرب مفاعلها النووي وتقويض قدراتها العسكرية البالستية.
ثالثا: ربما تستغل إيران التهاء أميركا في الأزمة الاميركية- الروسية المستجدة والمحتدمة لتسريع انتاج برنامجها النووي بمساعدة روسية، او صينية.
رابعا: قد تقوم روسيا ان طال احتدام الخلاف مع أميركا بخصوص الوضع في أوكرانيا بتزويد إيران بشبكة صواريخ s 400 كما التهديد بتزويدها بشبكة صواريخ اكثر تطورا أي s 500، كوسيلة ضغط على أميركا.
خامسا : ان اجتاحت روسيا أوكرانيا او دخلت حزءا من أراضيها قد تعمد أميريكا إلى الايعاز لإسرائيل بضرب إيران قد يتشاركان بالعملية بقرار معلن او غير معلن يتخلصون بنتيحته من برنامجها النووي، ويسهم ذاك بالحفاظ على ماء الوجه الاميركي على الساحة الدولية، كي لا تبدو أنها وقفت متفرجة تجاه التعنت الروسي.
سادسا: ستكون إسرائيل في حال القضاء على البرنامج النووي الايراني أكثر الرابحين، وستتفرغ حينها لتصفية الحساب مع إيران.
سابعا: ستعمد أميركا ومن خلفها الغرب إلى محاولة استرضاء تركيا، حفاظا على وجود قاعدة قوية في وجه التمدد العسكري الروسي الذي عزز تواجده على ساحل المتوسط باعتماده قاعدة طرطوس كمدخل للمياه الدافئة، وبالتالي سيسعى الناتو إلى تعزيز قدراته العسكرية في قاعدة انجرليك داخل الاراضي التركية للتضييق على تحركات روسيا في البحر المتوسط ومنه الى المياه الدافئة.
سابعا: قد يعمد الغرب الى إعادة تاليب الشعب السوري ضد النظام، ودعمه بغرض التضييق على الوجود الروسي في سوريا ومحاصرة قاعدة طرطوس السورية أو انكشافها، ولكن روسيا ستستغل المحيط العلوي لحماية القاعدة، وهذا قد يؤدي الى تقسيم سوريا دولة علوية واخرى سنية.
ثامنا: الكارثة الكبرى ستكون اقتصادية وقد يشهد العالم أزمة قمح حقيقية، وربما ازمة غذائية باعتبار أوكرانيا ثاني دولة او ثالث دولة في انتاج القمح عالميا.
تاسعا: لقاء التضييق المالي والاقتصادي على روسيا، والتهديد باستغناء اوروبا عن الغاز الروسي وافتعال أزمة مالية لروسيا، قد تعمد روسيا الى قطع الغاز بصورة مفاجئة وتعيق محاولات إيجاد مصادر جديدة او بديلة، ما قد يتسبب بأزمة طاقة حقيقية على المستوى العالمي عامة والأوروبي خاصة، وستؤدي ذلك حكما إلى ارتفاع في سعر النفط عالميًا.
عاشرا: على مستوى الدول العربية لن يكون لها تأثير على الساحة الدولية، إنما قد تتعرض بعد الدول الخليجية إلى ضربات عسكرية إيرانية لتقليب شعوبها عليها وإثارة النعرات المذهبية لخلخلة أنظمتها من الداخل، ما سيضطرها إلى دخول الحرب مع إيران طوعا أو تحت الضغوط الأميركية.
وسيصار الى قلب المعادلة في اليمن من خلال تقويض الحوثيين، بالحيلولة ما بينها وما بين الدعم العسكري واللوجستي الايراني. والمستغرب سيكون موقف مصر التي ستقف متفرجة على كل ما يحصل، او تكون تدخلاتها محدودة، بحيث لا تنخرط فعليا بالصراعات والحروب التي قد تحصل.
الحادي عشر: على المستوى اللبناني، سيعاني لبنان إن تحققت هذه التوقعات المستخلصة من دراسة الواقع، من وطأتها الأمرين، اقتصاديا وأمنيا، وربما قد تستغل اسرائيل الوضع لتقويض قدرات “حزب الله” في مجال الأسلحة الذكية، وتجعل منه حارسًا لحدودنا البرية الشمالية، ولكن ذلك سيكون بعد معركة قاسية ما بين إسرائيل وحشود عسكرية ومقاتلين تابعين لمختلف أجنحة إيران العسكرية في كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن، وقد توكل عملية إدارة رمي الصواريخ على إسرائيل لبعض الجنرالات المتقاعدين في الجيش الايراني، وإدارة المعركة شعبويا وعقائديا للسيد حسن نصر الله والسيستاني في العراق وطبعا لخامنئي في الامور السياسية الاستراتيحية.
الثاني عشر : ستسعى أميركا إلى تقليب الرأي العام اللبناني ضد “حزب الله” وقد ينفرط التعاقد ما بين “حزب الله” والتيار الوطني الحر.
الثالث عشر: سيقع لبنان في أزمة اقتصادية غير مسبوقة، وبالتالي سيكون لها انعكاس حاد على المستوى المعيشي، ربما قريبة من مجاعة ١٩١٤.
الرابع عشر: سيستمر الضغط الغربي على لبنان، ولكن ستسعى أميركا جاهدة لاخراج لبنان من هيمنة محور الممانعة بعد إضعاف هذا المحور.
الخامس عشر: ستعتمد سفارة أميركا في لبنان مركزا استراتيجيا لادارة شؤون منطقة الشرق الاوسط، هذا إن لم يصر إلى ضربها بالصواريخ من قوى الممانعة.
السادس عشر: ستسعى أميركا إلى إعادة رسم خريطة الشرق الاوسط وبخاصة الدول العربية على نحو توفير فرص الحياة للكيان الاسرائيلي، من خلال تكريس التطبيع تحت عنوان مصالحات انسانية وفق مصطلحات جديدة ابراهيمية وغير ابراهيمية، وستكرّس بعض الدول على اسس دينية وعرقية ومذهبية، وسيصار الى ارساء واقع جديد تحكمه هذه الاسس او المقومات المستحدثة.