على غرار سلفه دونالد ترامب الذي نظّم للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 2018 أوّل زيارة دولة في عهده، ارتأى الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن أن يخصّ ماكرون نفسه بأوّل زيارة دولة في عهده. وهذه أوّل زيارة دولة تنظّمها الولايات المتحدة في عهد بايدن بعدما حالت القيود التي فُرضت لمكافحة جائحة فيروس كورونا دون القيام بزيارات مماثلة في السابق. الزيارة هي في حدّ ذاتها سابقة، فماكرون هو أوّل رئيس فرنسي يزور واشنطن مرّتين خلال أربع سنوات وفي عهد إدارتين مختلفتين. الهدف هو معالجة الشراكة الفرنسية والصمود الأوروبي، وقانون الحدّ من التضخّم، والمنافسة مع الصين، والحرب الروسية، والخطأ الأميركي والغضب الفرنسي والأوروبي.
إذاً هي زيارة الحليف الاستراتيجي في خضمّ الخلافات، وأهمّ ملفّاتها:
الشراكة الفرنسية والصمود الأوروبي
يستغلّ بايدن هذه الزيارة للاحتفال بعمق العلاقة الاستراتيجية مع أقرب حلفائه الأوروبيين. فبريطانيا ولو كانت أقرب إلى أميركا استراتيجياً، وألمانيا وإن كانت الأكمل اقتصادياً بالنسبة إلى واشنطن، فإنّ مرحلة ما بعد البريكسيت وما بعد المستشارة أنجيلا ميركل مختلفة، وكلّ هذا يجعل من فرنسا مركز الثقل في الاتحاد الأوروبي.
تحاول الإدارة الديمقراطية التقرّب من فرنسا لشعورها بضعف داخلي وبفقدانها السيطرة على البرلمان، وخوفها من تقييد الجمهوريين لها، خصوصاً لجهة تقديم المساعدات لأوكرانيا. لذلك تأمل واشنطن أن ترى أوروبا بقيادة فرنسا قادرة على تكثيف دورها الداعم لكييف، إذ يعتبر الرئيس الأميركي أنّ الاتحاد الأوروبي عموماً لا يبذل جهوداً داعمة لأوكرانيا بشكل كاف.
تمكّن ماكرون خلال الزيارة من التوصّل إلى تعاون مشترك، سهّل الوصول إليه التناغم الفكري بين الإدارتين حالياً، وانعكس على عدّة محطّات، أهمّها طيّ قضية بيع الغواصات إلى أستراليا. ما حصل في هذه الزيارة كان استثنائياً بكلّ معنى الكلمة ويختلف عن الزيارة في زمن ترامب الذي كان يسخر من الرئيس الفرنسي نفسه ومن أوروبا “القارّة العجوز”.
بدا واضحاً أنّ الولايات المتحدة تريد إشراك فرنسا في أجندتها السياسية، بهدف إصلاح وتحسين العلاقات مع أوروبا عموماً من خلالها على قاعدة ضرورة ترميم العلاقة التي أُصيبت بندوب في العام الماضي. وهذا تظهير واضح لنهج الإدارة الأميركية الحالية في السياسة الخارجية.
قانون الحدّ من التضخّم
تعلّق البند الثاني، الذي استحوذ على جزء مهمّ من النقاش، بقانون خفض التضخّم الأميركي الذي شرّعه الكونغرس بأكثرية أصوات الديمقراطيين والمعروف بخطّة بايدن للصحّة والمناخ. شكّل هذا القانون صدمة كبيرة لماكرون الذي انتقده بشدّة، معتبراً أنّه “محاولة من الولايات المتحدة الأميركية لمعالجة مشاكل التضخّم لديها عبر خلق تضخّم في دول أوروبية”.
قام القانون الذي يوفّر حزمة مساعدات بقيمة 430 مليار دولار على ما يمكن وصفه بالسياسة “المركنتيلية”، إذ استندت الولايات المتحدة الأميركية إلى مكانتها الصناعية ومنتوجاتها في شتّى المجالات فخفضت الضرائب على سلعها في مقابل رفع الضرائب على كلّ منتج غير أميركي. وهذا ما اعتبره ماكرون استهدافاً لمبدأ المنافسة الذي يُضعف المصنوعات والمنتجات الأوروبية ويحول دون تدفّقها إلى الأسواق الأميركية.
وعلى الرغم من الانتقاد الفرنسي لهذا القانون الذي سيدخل حيّز التنفيذ في الأوّل من شهر كانون الثاني المقبل، إلا أنّه لا يُتوقَّع من بايدن أن يقدّم تنازلات في هذا السياق في ظلّ ما يعانيه الاقتصاد الأميركي حالياً، خصوصاً أنّ المبدأ الذي يحكم التشريعات الاقتصادية في بلاد العمّ سام وعند الإدارتين الجمهورية والديمقراطية هو “أميركا أوّلاً”.
الاحتواء الصينيّ
تمثّل الصين مصدر قلق للولايات المتحدة الأميركية في شتّى المجالات، وهذا التنافس المحموم والمضبوط بين البلدين يشكّل لفرنسا فرصة للتطلّع إلى شراكة عالمية تصنع لها موقعاً استراتيجياً وإلى استعادة موقعها المؤثّر في العلاقات الدولية. فأميركا تقاتل لأجل سلعها، وكذلك الصين. كلتاهما تريد السيطرة على الأسواق العالمية، وهذا ما استدعى استنفار فرنسا لحماية منتجاتها والمنتجات الأوروبية وفتح الأسواق أمامها وضمن مبدأ المنافسة.
شكّل النقاش بين واشنطن وباريس في أمر الصين وأدوارها المتعاظمة فرصة لفرنسا تستعيد من خلالها ثقلها الدولي لدى الولايات المتحدة القلقة من التنّين الصيني، وخصوصاً بعد “الضربة التي وُجّهت إليها من واشنطن. إقصائها بعد تشكيل الحلف الأمني الثلاثي الذي يضمّ أميركا وبريطانيا وأستراليا.
هذا بالتحديد ما أعاد إلى فرنسا دورها الاستراتيجي على خريطة العالم في ضوء الحاجة الأميركية إلى أوروبا عموماً، ومركز الثقل فيها حالياً باريس خصوصاً. ذلك أنّ واشنطن ترى بكين المنافس الأوّل والخطر الأكثر وضوحاً، وبالتالي لا يمكنها خوض أيّ مواجهة مع غريمتها من دون ضمان مساندة الاتحاد الأوروبي، وهذا ما يمكن لفرنسا أن تضمنه وتعتبره من أوراقها الرابحة. حصل هذا بما يتناسب مع سياستَيْ واشنطن وباريس. فالأولى تريد تحالفاً، والثانية ومعها الاتحاد الأوروبي لا يفكّران في مكافحة الهيمنة الأميركية التجارية. يريد الاثنان التوازن في حرّية الأسواق والتجارة على طريق الحدّ من الانتفاخ الصيني العالمي. فعين بايدن على الحوار ويده على زرّ المعركة في ما خصّ الصين. وفي ظلّ هذه المعادلة حصل ماكرون على نقطة التوازن الديناميكي، مع إظهار “التهديدات” المشتركة للبلدين.
المواجهة الروسيّة والخطأ الأميركيّ والغضب الفرنسيّ والأوروبيّ
ظهرت الطبيعة الدبلوماسية العميقة للقاء بايدن ـ ماكرون في إصرارهما على محاسبة روسيا على قرارها شنّ الحرب على أوكرانيا، لكنّهما توافقا على عدم إلحاق الهزيمة الكاملة بالجيش الروسي كي لا يدفعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى اللجوء إلى السلاح النووي الذي سبق أن ألمح إليه. ولهذا السبب يتفهّم بايدن اتصالات ماكرون ببوتين كلّ فترة، على الرغم من القلق الأميركي الكبير من “دبلوماسية ماكرون المفرطة”، بدعوى أنّها قد تحبط تكوين إجماع أوروبي مطلق ضدّ موسكو.
هذا في السياسة، أمّا في الاقتصاد فقد كانت المقاربة مختلفة. فإذا كان الفرنسيون والأميركيون ومعهما الاتحاد الأوروبي خفضوا أسعار السلع المنافسة لتلك الروسية بغرض توجيه ضربة للاقتصاد الروسي جرّاء الحرب على أوكرانيا، إلا أنّ المشكلة ـ المعضلة كانت في الاستجابة للطلب الأميركي بالتخلّي عن الغاز الروسي لحرمان موسكو من السيولة المالية التي تعينها على مواصلة الحرب ضدّ كييف. فقد كانت النتيجة غلاءً صافياً على الأوروبيين عندما استبدلوا الغاز الروسي بذلك الأميركي الذي كان سعره مرتفعاً بشكل باهظ وخلّف آثاراً واضحة على اقتصاد الاتحاد الأوروبي كلّه، ومن ضمنه فرنسا. لقد كان مُستغرباً جدّاً السعر الذي وضعته الولايات المتحدة في لحظة يجب أن يتشارك فيها الجميع التصدّي لروسيا في حربها ضدّ أوكرانيا.
لدى الرئيس ماكرون فرصةً لتحسين العلاقات مع أميركا ومساعدة أوروبا. وسيحاول رفع مستوى التعاون مع بايدن، ذلك أنّ الحليفين يتقاسمان مروحة من العلاقات الشائكة، ولا بدّ لهما من ضبطها في لحظة يتعرّض فيها العالم لمتغيّرات جيوسياسية واسعة.
هذا الكمّ من الملفّات التي تمّت معالجتها لا يلغي أنّ بين الدولتين الأميركية والفرنسية قضايا شائكة تتعلّق بالأولويات في الشرق الأوسط، ومنها لبنان. وللحديث تتمّة.