دولي

كورونا ينهي قيادة اميركا للعالم

للأشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

هل يشكل وباء كورونا نقطة تحول في تاريخ البشرية
هناك من يقولون بأن تلك الجائحة العالمية سوف تؤدي إلى قلب موازين العالم وتغيير شكل الحياة البشرية بأكملها، ولكن فريق آخر يزعم بأنه ليست بالضرورة أن تشكل جميع الأزمات العالمية نقطة فارقة في تاريخ الإنسانية، صحيح أنها تؤدي إلى تغييرات جمة ولكن على الأرجح أن ازمة وباء كوفيد 19 الراهنة سوف تؤدي إلى تسارع وتيرة الأحداث التاريخية.
لقد اختلف المحللون فيما بينهم في تحديد شكل العواقب التي سوف يخلفها هذا الوباء العالمي الجديد، لكن ما أجمعوا عليه حقيقة هو أن العالم على أعتاب حياة جديدة لم يشهدها من قبل. ويتوقع البعض منهم بأن يؤدي الوباء إلى نظام عالمي جديد بقيادة الصين، وهناك من يتوقع تراجع الزعامة الصينية من الأساس. ويزعم البعض الآخر بأن العالم سوف يشهد نهاية العولمة، وهناك من يأمل ببزوع فجر جديد من التعاون الدولي. ولا يزال فريق يتوقع بأن الفترة القادمة سوف تتعدى حدود القومية وتقوض التجارة الدولية وتحدث تغييرات جوهرية في الأنظمة الحاكمة في جميع بلدان العالم. هذا في الوقت الذي يتوقع فيه البعض حدوث جميع ما سبق.
وعلى الأرجح، فإن العالم ما بعد وباء كورونا لن يختلف كثيرا عن سابقه، فالمرحلة القادمة ستكون امتدادا للفترة الراهنة ليس أكثر، فالتحولات لن تكون جذرية ومغايرة تماما للوضع الذي نعايشه حاليا بمعنى أن تلك الازمة الصحية لن تشكل نقطة تحول محورية بقدر كونها استكمالا للنهج العالمي السائد حاليا، ولعل هذا الوباء قد كشف عن حقيقة الوضع الجيوسياسي للعالم حاليا بل وساعد على تعزيزه أيضا.
وقد يكون من السابق لأوانه التنبؤ بموعد انتهاء الأزمة نفسها. حيث سيعتمد التوقيت على درجة اتباع الأشخاص للتعليمات الوقائية من حيث التباعد الاجتماعي والالتزام بالنظافة الشخصية، بالإضافة إلى توافر اختبارات سريعة ودقيقة ومعقولة التكلفة وعقاقير ولقاحات مضادة للفيروسات، والحرص على تقديم الإعانات الاقتصادية اللازمة للأفراد والشركات المتضررين من هذه الأزمة.
ومع ذلك فإن السيناريو بعد تلك الأزمة قد يكون معروفا مسبقا، من حيث تراجع القيادة الأمريكية وتعثر التعاون الدولي، كل هذه السمات قد تحققت بالفعل في المناخ الدولي قبل ظهور فيروس الكورونا، وسوف تشهد المرحلة المقبلة استكمالا وتكريسا للسمات نفسها على نحو أكثر قوة.
العالم ما بعد أمريكا
من السمات الواضحة عالميا خلال الأزمة الراهنة، هي التقلص الواضح للدور الأمريكي. فلم نرى واشنطن تحشد العالم لشن حرب جماعية ضد الفيروس. ولم نجدها تتقلد دور القائد الذي يطلب من الجميع أن يحذو حذوه. بل نرى بعض دول العالم تحاول أن تلجأ إلى النماذج الناجحة في مجال التصدي للفيروس القاتل مثل الصين للحصول على المساعدة. وهنا قد يبدو الحديث عن عالم “أحادي القطب” أمرا غير معقول ولكنه ليس اتجاه جديد بل قد ذاع صيته فعليا منذ عقد على الأقل من الزمن.
ولعل هذا ما وُصف بـ “صعود الباقين” وخاصة الصين في الوقت الذي تراجع فيه الدور الأمريكي نسبيا على الرغم من استمرار نمو قوتها الاقتصادية والعسكرية المطلقة. وربما يرجع ذلك في الأساس إلى تعثر الإدارة الأمريكية وليس تراجع القدرات الأمريكية. فقد سعى الرئيس الأمريكي باراك أوباما لاتمام عمليات سحب القوات الأمريكية من افغانستان والشرق الأوسط بوجه عام. بينما ركز ترامب جهوده على استخدام الاقتصاد كسلاح في مواجهة الخصوم، كما أنهى بشكل التام الوجود الأمريكي في سوريا ويسعى للقيام بالشئ نفسه في أفغانستان. وربما النقطة الأكثر أهمية هي عدم إيلاء ترامب اهتماما كبيرا للقضايا الدولية، أو الحرص على مصلحة التحالفات، أو الحفاظ على تقلد الدور التقليدي للولايات المتحدة في تبني الشئون الدولية بوجه عام والإشراف عليها.
لقد كان التغير الملحوظ في الاستراتيجية الامريكية جزءا من الرسالة التي قدمها ترامب للعالم “أمريكا أولا” والتي وعدت بأمريكا أكثر قوة وازدهارا وتركيزا على الشئون الداخلية وأقل التفاتا للشئون الدولية. وعلى الأرجح سوف تؤدي الأزمة الراهنة إلى تكريس هذا الاتجاه على نحو أكبر. فالولايات المتحدة بحاجة اكبر إلى توجيه مواردها وتخصيص إمكاناتها لخدمة الشأن الداخلي أكثر من الخارجي في تلك الظروف العصيبة.
ومن ناحية أخرى، فقد أصبح النموذج الأمريكي قبل بداية أزمة فيروس كورونا غير جذاب للآخرين وذلك منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية في عام 2008 الناجمة عن سوء الإدارة. كما ان الاستجابة البطيئة والغير فعالة حاليا من قبل الإدارة الفيدرالية ستعزز الرأي العام السائد بأن الولايات المتحدة الأمريكية قد ضلت طريقها بالفعل.
لقد تمكن هذا الوباء العالمي الذي ظهر في بادئ الأمر في دولة واحدة بعينها من أن يغزو العالم في غضون شهور قليلة، لقد استطاع أن يتسلل إلى البلدان المنغلقة والمنفتحة شرقا وغربا دون أي رادع. ولعل ذلك دليل قوي على أن العولمة هي أمر واقع وحقيقة لا ريب فيها وليست خيارا. واللافت للنظر هنا هو الأداء المتواضع الذي أبدته منظمة الصحة العالمية حيال الأزمة الراهنة والذي يكشف عن تردي أحوال الحوكمة العالمية.
ورغم كون هذا الوباء يشكل أزمة متفاقمة في عديد من الدول، إلا أنه لا يعد التحدي الأول الذي يواجهه العالم، فقد كان مسبوقا بتحديات أخرى تعجز أي دولة عن التصدي لها بمفردها، هذا بالإضافة إلى فشل المنظمات العالمية في مواكبة تلك التحديات أيضا. ولعل ذلك ما يفسر أن استخدام عبارة “المجتمع الدولي” التي تتردد كثيرا ما هو إلا نوع من الطموح المبالغ فيه المتعلق بالنواحي الجيوسياسية والتي لا يُتوقع أن تتغير قريبا. فالتركيز بعد مرور تلك الأزمة سينصب بالكامل على المصالح الوطنية وليست العالمية، ومن المحتمل أن ينطبق الأمر أيضا على قضية تغير المناخ والتي لم يتم وضعها في إطارها الصحيح عالميا حتى الآن.
ولعل أحد أسباب تلك النظرة الغير متفائلة على الإطلاق هو أن التعاون بين أقوى دولتين في العالم هو أمر ضروري لمواجهة الوباء، ولكن مع الأسف فقد تدهورت العلاقات الصينية الأمريكية خلال السنوات الأخيرة على نحو ملحوظ. وتُفاقم الأزمة الوبائية العالمية من حدة الشقاق بين البلدين. ففي واشنطن، يحمل الكثيرون الحكومة الصينية مسئولية تفشي الوباء في جميع انحاء العالم بسبب أسابيع من التستر على الأمر، أو ربما بسبب الفشل في الإغلاق التام لمدينة ووهان-البؤرة الأولى لتفشي الوباء- ومنع المواطنين المصابين من الانتقال ونشر العدوى في مناطق وبلدان أخرى.
وينظر إلى محاولة الصين لتصوير نفسها باعتبارها نموذج مثالي وقدوة يحتذى بها في احتواء الأزمة على أنها فرصة عظيمة للدولة الآسيوية لتوسيع نفوذها عالميا، ومن ثم رفع درجة العداء مع الولايات المتحدة بالطبع. هذا بالإضافة إلى أن الأزمة الصحية الراهنة لن تغير من اتجاه بكين نحو واشنطن ولن تقلل من استيائها من السياسات الامريكية وبخاصة تلك المتعلقة ببعض القضايا، كالوجود الأمريكي في قارة آسيا، وحقوق الإنسان، ومشكلة تايوان.
لقد كان الاتجاه نحو تحقيق الفصل التام بين الاقتصادين الأقوى في العالم قويا قبل ظهور الوباء، مدفوعا بالمخاوف الأمريكية من محاولات الصين للتجسس على أمريكا وتهديد الأمن القومي وسرقة الملكية الفكرية، هذا بالإضافة إلى ثقة واشنطن التامة في كونها أصبحت مستقلة بما يكفي للاستغناء عن السلع وسلاسل التوريد الصينية. مما يؤكد على تعاظم الاتجاه نحو التركيز على الإنتاج المحلي بصورة أكبر بعد انتهاء الوباء. وهذا سيدفع التجارة العالمية نحو التعافي جزئيا ولكن الحكومات سوف تدير القسم الأكبر منها في المرحلة المقبلة.
ومن الاتجاهات السائدة منذ سنوات والتي من المتوقع أن تتنامى في مرحلة ما بعد الوباء أيضا؛ رفض الدول المتقدمة لاستقبال أعداد إضافية من المهاجرين واللاجئين، وذلك خشية ازدياد حدة انتشار العدوى، بالإضافة إلى أن زيادة عدد السكان في دولة ما يؤدي بلا شك إلى تفاقم أزمة البطالة وارتفاع حجم الدين نظرا لتكلفة الرعاية الصحية ومحاولة الحكومات توفير سبل العيش وتوفير فرص العمل للمواطنين، الأمر الذي تعجز كافة اقتصادات العالم عن تحمله وبخاصة خلال تلك الظروف العصيبة والمرحلة التالية لها.
أوروبا الجديدة
لقد سلط الوباء المستجد الضوء على مدى تهاوي المشروع الأوروبي والذي بدأ في فقدان زخمه المعهود منذ قرار بريطانيا بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي Brexit. لقد استجابت الدول الأوروبية بصورة فردية للوباء. مما يطرح تساؤلا هاما، فهل ستفكر تلك البلدان في التحكم في حدودها مستقبلا للسيطرة على انتشار الوباء!
ومن المرجح أن يعزز الوباء الركود الديمقراطي الذي كان واضحا منذ 15 عاما. ستكون هناك دعوات لتدخل حكومي أكبر في المجتمع ، سواء كان ذلك بهدف تقييد حركة السكان أو تقديم المساعدة الاقتصادية. سيتعامل الكثيرون مع الحريات المدنية على أنها رفاهية لا يمكن تقبلها في الأزمات. وفي الوقت نفسه ، ستظل التهديدات التي تشكلها الدول غير الليبرالية مثل روسيا وكوريا الشمالية وإيران موجودة بمجرد عدم انتشار الوباء.
العالم والفوضى
لا يخفى على أحد حجم الفوضى التي يعيشها العالم منذ سنوات، من حيث التنافس بين القوى العظمى وسباق التسلح النووي وأزمة اللاجئين وتنامي النزعات القومية، إلى جانب التراجع الملحوظ لدور الولايات المتحدة عالميا. كل تلك السمات التي تسيطر على المشهد العالمي يجعلنا نقول بأن العالم سيتغير حقا بفعل الفوضى وليس بسبب الوباء نفسه. ولعل ذلك ما يفرض ضرورة إعادة ترتيب الأوراق بعد نهاية الأزمة الصحية العالمية لبناء نظام دولي أكثر قوة وأكثر تعاونا لرصد ومراقبة الأوبئة والعمل على التصدي لها. بالإضافة إلى مزيد من الاستعداد للتصدي لتغير المناخ ، ووضع قواعد للفضاء السيبراني ، ومساعدة المهاجرين القسريين ، ومعالجة قضايا الإرهاب.
رابط المقال من المصدر اضغط هنا

للأشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى