كيف أصبحت العبودية في الماضي نموذجا ملهما لأصحاب الأعمال في الحاضر؟
في عام 1911 تشكلت لجنة من أعضاء الكونجرس الأمريكي لمناقشة كيفية تأثير الممارسات الحديثة في عالم التجارة والأعمال على حياة العمال أنفسهم، وأهم ما ركزت عليه اللجنة خلال عملها هو مفهوم “نظرية الإدارة العلمية” والمعني بآلية تطوير وتحسين حياة العمال وقياس مستوى إنتاجيتهم.
وكان المهندس فريدريك تايلور أحد أهم الأصوات المعنية بهذا الصدد، والذي قدم أعظم مؤلفاته تحت عنوان “مبادئ الإدارة العلمية” ليكون بمثابة الركيزة الأساسية لتطبيق العلم في مجال هندسة العمل والإدارة.
وفي الوقت الذي طلبت فيه اللجنة من تايلور الشهادة لصالح النظام الجديد في عام 1911 ، بدأت تعلو الأصوات المناهضة للفكرة التي تبدو ملهمة ظاهريا، حيث كان الاتجاه السائد بين العمال حينها بأن الإدارة العلمية ما هي إلا نوع جديد من العبودية.
وقد برر أصحاب هذا الاتجاه رؤيتهم بأن النظام الجديد يستند إلى المراقبة الكثيفة من قبل المدراء تجاه الموظفين طيلة الوقت، حتى أنهم كادوا على وشك محاسبتهم على دقائق الراحة التي يحصلون عليها أثناء اليوم، كما أوجد مناخا من الشك بين الزملاء داخل بيئة العمل، فأصبح كل موظف يشك في الآخر ظنا منه بأنه جاسوس يراقبه خفية ليتصيد له الأخطاء.
وفي ختام جلسات الاستماع، وبرغم من أن اللجنة لم تتوصل إلى قرارات حاسمة بشأن النظام الجديد، إلا أنها وافقت في المجمل على أنه يعد بمثابة السوط الذي كان يستخدمه السائق في الماضي ضد العبد الزنجي مما كان يجعله في حالة مستمرة من الهياج.
وهناك من يشبهون ساعة الإيقاف في يد المدير والتي تعتبر من أدوات متابعة وتقييم عمل الموظفين بالسوط الذي كان يستخدمه السادة مع العبيد، بل أحيانا ما كان يتم استخدام كلا الأداتين جنبا إلى جنب في بعض المزارع في الماضي، وقد يبدو هذا التشبيه مقلقا وبخاصة أن مؤيدي نظام الإدارة العلمية أحيانا ما يستخدمون بعض المفردات المرتبطة بالعبودية ليس في إشارتهم وتعبيرهم عن النظام الجديد فحسب بل للثناء عليه أيضا.
وبرغم زعم البعض من أنصار الإدارة العلمية بأن هذا النظام قائم في الأساس على الديمقراطية والتعاون، إلا أن مفهوم الديمقراطية لديهم قد يشوبه بعض اللبس، وبخاصة عندما يحصرون مسار العلاقة بين الموظف ورئيسه في العمل في جانب واحد فقد وهو إصدار الأوامر ووجوب تنفيذها، وهو الركيزة الأساسية لمفهوم العبودية، فالعلاقة بين العبد ومالكه في الماضي كانت تقتصر على ذلك أيضا.
ويمكن الربط بين كل من مفهومي العبودية والإدارة الحديثة من خلال “أداء المهام” والتي يعتبرها تايلور من أهم الجوانب الأساسية في نظام الإدارة العلمية، وهو النظام الذي أسس له هنري جانت سابقا والمعروف حاليا بـ “مخطط جانت” وهو من الأدوات المستخدمة لتوضيح الجدول الزمني للمشروع.
ويقوم “مخطط جانت” على فكرة “المهمة والحافز” بحيث يقوم العامل بأداء مهمة بعينها خلال مدة زمنية محددة مقابل أجر ثابت مع رصد بعض المكافآت في حال تمكن العامل من إنجاز المزيد من العمل خلال نفس المدة الزمنية، وهو النظام الذي اعتبره جانت بمثابة حافزا للعمل والإنتاج.
وقد رأي البعض أن نظام جانت ما هو إلا تكريسا لمفهوم العبودية ولكن على الطراز الحديث، فحينما يتم ربط الحافز بالأداء مع وضع العامل تحت ضغط عامل الوقت، فإن ذلك لا يختلف كثيرا في نظرهم عن تكليف العبيد بالمهم الشاقة في الماضي وإجبارهم على الإنتهاء منها مثلا قبل غروب الشمس وإلا تعرضوا للعقاب، الأمر الذي دفع جانت نفسه إلى الاعتراف بأن تلك الفكرة هي العيب الأساسي في نظام جدولة المشروعات الذي قام بتصميمه.
وفي عام 1913 قال جيمس دودج أحد كبار رجال الأعمال بمدينة فيلادلفيا الأمريكية بأنه لا يمكن أن ننسب فكرة “الإدارة العلمية” إلى شخص بعينه، بل يمكن القول بأنها جاءت وليدة اللحظة عندما بلغت العبودية ذروتها وقرر العبيد الخروج عن صمتهم، وبالتالي فقد رأى دودج أن الأجيال الحالية لازالت تتوارث مفهوم العبودية مما يقتضي أن تكون الإدارة العلمية سبيلا للتخلص من ذلك.
وجاء أحد المؤرخين ليعترف في عام 1918 بالتشابه الكبير بين كل من العبودية والإدارة العلمية، حيث قام ألريتش فيليبس بكتابة سلسلة من المقالات بعنوان “تحليل الموقف والحركة” والتي تناول فيها بالشرح استراتيجيات تطوير مفهوم الإدارة في الجنوب، وقد تسببت نظرته الوردية والمتفائلة على نحو مبالغ فيه إزاء النظام الجديد في اتهامه لاحقا بالتحيز العنصري، حيث وصف نظام العبودية بالمدرسة التي ينشأ ويتعلم فيها العبيد، مما جعله يقارب التوصيف الذي وضعه تايلور من قبل للدلالة على العلاقة بين الموظفين ورئيسهم في العمل تحت مظلة نظام الإدارة العلمية، فقد رأى تايلور أن النظام الجديد يعد بمثابة مؤسسة تعليمية تهدف إلى تنظيم سلوكيات العمال وتدريبهم على القواعد من أجل تحسين الإنتاج.
وبصرف النظر عن تعدد الآراء والأبحاث المعنية بتلك القضية، فإن أوجه التشابه بين كل من العبودية وممارسات الإدارة في العصر الحديث لم يتم التطرق إليها بالحديث خلال كافة المناقشات السائدة عن النظام المؤسسي في أمريكا، حتى أنه في عام 2003 قال بيل كوك أحد أساتذة علم الإدارة، إن فشل علماء الإدارة في وضع تاريخ العبودية في الحسبان يعد بمثابة إنكارا واضحا لإحدى الظواهر المجتمعية، هذا في الوقت الذي كانت فيه جميع المعلومات عن تجارة الرقيق كانت متاحة ومتداولة على نطاق واسع.
ويمكن القول بأن العبودية قد برهنت على حقيقة مؤكدة، وهي أن فرض مجموعة موحدة من القواعد على بعض الأشخاص يحقق نجاحا ملموسا على صعيد الجانب الإداري، ولكن مع الأسف فإن كلفة كفاءة هذا النظام في الأداء قد تبدو قاسية جدا، وفي الوقت الذى يرى البعض أن نجاح النظام الإداري يعتمد في الأساس على مدى قدرة الرئيس على التحكم بمرؤسيه، يؤكد البعض الآخر على أن مفهوم الإدارة العلمية يجب أن يكتسب نجاحه الحقيقي من خلال قدرته على الابتكار من جهة والتخلص من آليات التحكم القديمة التي كانت سائدة في الماضي من جهة أخرى.
وتقدم الروايات الحديثة عن تطور الرأسمالية في العصر الحديث دلالة قوية على أن القرارات الفردية بل والأنانية أحيانا قد تكون المحرك الأساسي لعجلة الإنتاج، ويبرر أصحاب تلك الرؤية قائلين بأن الثروة الهائلة المتركزة في يد بعض الأفراد قد ساعدت على تحسين حياة الكثيرين، ويمكن القول بأنهم قد بنوا رؤيتهم على الأحوال التي كانت سائدة في الماضي، فقد ساعدت العبودية وإحكام أصحاب رأس المال لقبضتهم على العبيد في تسريع وتيرة الإنتاج وازدهار الأسواق.
وختاما فإنه يمكن القول بأنه لابد من مراجعة التاريخ بنظرة أكثر تمعنا والتعرف على كافة الممارسات الغير إنسانية في الماضي والتي ارتبطت بالنمو الاقتصادي، فإن تاريخ العبودية في أمريكا يجب أن يكون بمثابة نقطة مرجعية هامة في عصرنا الحالي، والتي تحذرنا من كيفية تحقيق الأرباح على حساب الأرواح، كما يمكن أن تساعدنا تلك المراجعة التاريخية على رؤية الروابط العميقة بين السيطرة والرأسمالية ، بهدف إيجاد طريق أكثر إنسانية.
رابط المقال الأصلي: اضغط هنا