الاحدثدولي

كيف استطاعت كولومبيا قطع علاقتها بالكيان؟ كيف يمكن أن نعود أحرارًا؟ | كتب شادي عمر الشربيني

   وسط حشود شعبية ضخمة في العاصمة بوجوتا، أعلن الرئيس الكولومبي جوستافو بيترو، الأربعاء 1 مايو 2024، أنه سيقطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل بسبب حربها على غزة. وانتقد بيترو رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو بشدة، وطلب الانضمام إلى دعوى جنوب إفريقيا لدى محكمة العدل الدولية، التي تتهم إسرائيل بالإبادة الجماعية للفلسطينيين.

   وقال بيترو أمام الحشود التي خرجت في مسيرة للاحتفال بعيد العمال، “هنا أمامكم، حكومة التغيير وحكومة رئيس الجمهورية، تعلن أننا غدًا سنقطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة إسرائيل، وقد قطعنا العلاقات لأن لديهم حكومة ورئيس إبادي. أعتقد اليوم أن الإنسانية التي نراها في الشوارع بالملايين، تتفق معنا ونتفق معها، لا يمكن لهذه التصرفات في هذا الزمن أن تدعو للإبادة، ولتطهير شعب بأكمله أمام أعيننا وأمام صمتنا، إذا ماتت فلسطين ماتت الإنسانية، ولن ندعها تموت، كما لن ندع الإنسانية تموت”.

   لقد قوبلت كلمات بيترو الصادقة، بحماس شديد من المحتشدين، وهذا مفهوم وطبيعي من جماهير خرجت تحمل العلم الفلسطيني مع العلم الكولومبي، لدعم إصلاحات بيترو الاجتماعية والاقتصادية. كان قرار بيترو متسقًا مع السلوك الكولومبي، منذ بدء عدوان الإبادة والتطهير الإسرائيلي عقب 7أكتوبر/ تشرين الأول الماضي (2023) والمستمر لأشهر ممتدة، باستخدامِ كل الأسلحة والوسائل؛ من حصار وترويع وتجويع لاقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه. كان بيترو علق، عبر “إكس”، الاثنين 9 أكتوبر 2023، عن إعلان إسرائيل فرض “حصار كامل مع عدم وصول الكهرباء أو الغذاء أو الوقود” على غزة، بقوله: “هذا ما قاله النازيون عن اليهود”. وأضاف: “لا يمكن للديمقراطيين أن يسمحوا للنازية بإعادة ترسيخ نفسها في السياسة الدولية، الإسرائيليون والفلسطينيون بشر يخضعون للقانون الدولي، خطاب الكراهية هذا إذا استمر لن يؤدي إلا إلى محرقة”.

    وتبادل بيترو أيضا مع سفير إسرائيل -في كولومبيا-، جالي داجان، التغريدات، بعد أن أدلى بتصريحاته، قال داجان لوسائل الإعلام المحلية إنه “يود دعوة الرئيس إلى معسكر اعتقال النازي أوشفيتز”، ورد بيترو: “لقد كنت بالفعل في معسكر اعتقال أوشفيتز، والآن أرى نسخته في غزة”. وفي محاولة منه لكسر حدة الموقف الكولومبي، طلب نتنياهو من بيترو، في رسالة نشرتها الصحافة الكولومبية – وأكدت إرسالها السفارة الإسرائيلية بحسب ما ذكرته وكالة فرانس برس- بذل “قصارى جهده” في الإفراج عن الرهائن الذين تحتجزهم حركة حماس وفصائل فلسطينية أخرى. اقترح الرئيس الكولومبي التوسط في إطلاق سراح الرهائن المحتجزين في غزة من خلال ما وصف بـ “لجنة السلام”، مستجيبًا لطلب نتانياهو. وأضاف بيترو، في رده على تلك الرسالة الخاصة التي تلقاها من رئيس الوزراء الإسرائيلي في 11 يناير/كانون الثاني: “أقترح أن نمضي قدمًا من خلال إنشاء لجنة سلام تتألف من دول مختلفة لتأمين عمليات الإفراج عن الرهائن، وتحقيق الهدف الأوسع المتمثل في إنهاء العنف بين إسرائيل وفلسطين”.

   لكن إسرائيل، -كما هو واضح ومعروف- تجاهلت استجابة بيترو واقتراحه، لذلك قطع بيترو العلاقات، ردًا على التجاهل الإسرائيلي ومضيها في عدوانها الوحشي وعمليات الحصار والإبادة، هو رد فعل طبيعي ومفهوم. وهكذا تنضم كولومبيا إلى معسكر أحرار العالم، المتضامنين مع الشعب العربي في فلسطين.

   وعلى الرغم من اتساق وطبيعية القرار الكولومبي، إلا أنه شَكَّلَ مفاجأة للكثيرين، بسبب توغل السيطرة الصهيونية العالمية، التي تستخدم فزاعة معادة السامية أمام أي معترض على الهمجية الإسرائيلية، وبسبب الدعم الأمريكي/الغربي لإسرائيل، والذي يرفض أن يمس الكيان الصهيوني مهما حدث. لكن الأغرب من كل ما سبق، أنه من المعروف أن كولومبيا كانت حليفًا رئيسيًا لإسرائيل في أمريكا اللاتينية، وربطتهما علاقات تجارية وعسكرية وثيقة قبل انتخاب الرئيس الحالي بيترو، الذي يعتبر أول رئيس يساري للبلاد.

    لقد بدأت العلاقات بين كولومبيا وإسرائيل في منتصف خمسينيات القرن المنصرم. يرصد الباحث الكولومبي ماركوس بيكيل Marcos Peckel العلاقات الكولومبية– الإسرائيلية، في مقال بمجلة “الجريدة الإسرائيلية للعلاقات الخارجية Israel Journal of Foreign Affairs”، ويقول إنه يمكن النظر إلى تلك العلاقات من زاوية التعاون العسكري، الروابط التجارية، التعليم والثقافة، أخيرًا الاعتراف بفلسطين. عسكريًا، كولومبيا كانت من أوائل الدول التي أعطت إسرائيل أسلحة وعقدت معها صفقات عسكرية، ومنذ ذلك الوقت استمر التعاون العسكري بين الطرفين يتصاعد ويستمر في اتفاقات بين الجانبين. منذ ذلك الوقت، تشاركت إسرائيل وكولومبيا التخابر والعديد من معدات الأجهزة والتقنيات الإسرائيلية. من الزاوية التجارية أيضا تربط البلدان علاقات قوية، وهناك اتفاقية للتجارة الحرة، تنتظر تصديق البلدين، تمكن المضي في تقوية العلاقات بين البلدين من خلال زيادة الصادرات الكولومبية إلى إسرائيل والتوسع في وجود التكنولوجيا الإسرائيلية في كولومبيا. أما مجالات التعليم والثقافة بين كولومبيا وإسرائيل فمتشابكة بشكل عميق، وذلك من خلال المنح الدراسية الإسرائيلية للكولومبيين ووجود وسائل الإعلام الإسرائيلية في كل البلد.

   نحن هنا أمام علاقات قوية ومتينة بين البلدين، فكولومبيا كانت حليفًا رئيسيًا لإسرائيل في أمريكا اللاتينية، وربطتهما علاقات تجارية وثيقة، حيث تطورت علاقتهما بعد توقيع اتفاقيات تجارية مشتركة سنة 1988، وتعاون عسكري وتكنولوجي شمل تبادل معلومات استخبارية، كما أصبحت إسرائيل أهم موردي الأسلحة والطائرات الحربية ومعدات المراقبة لكولومبيا، ورغم اعتراف كولومبيا رسميًا بدولة فلسطين في 2018 في عهد الرئيس السابق خوان مانويل سانتو، ظلت العلاقات مستمرة ووقع الطرفان اتفاقية للتجارة الحرة بينهما، سنة 2020 في بدء عهد الرئيس الحالي بيترو. إذن ما الذي حدث حتى وصلت الأمور إلى طرد كولومبيا السفير الإسرائيلي في بوجوتا واستدعائها للسفير الكولومبي من تل أبيب، الأمر الذي وصفه يسرائيل كاتس، وزير خارجية إسرائيل، بـ “الحاقد والمعاد للسامية” وبأن بيترو “قرر مكافأة القتلة من حماس”؟!

   والسبب بالطبع هو موقف بيترو من عدوان كيان الاحتلال على غزة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، والذي اتخذ مساره التصاعدي بدءًا من قرار بيترو بتعليق صفقات شراء الأسلحة من إسرائيل في 28 فبراير/ شباط 2024، ثم في 5 أبريل/ نيسان 2024 طلب بيترو انضمام بلاده إلى دعوى جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولي، التي تتهم فيها إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في قطاع غزة. إن بيترو يعتبر أول رئيس يساري لكولومبيا، وما اتخذه من مواقف ضد الكيان كان من الطبيعي أن تلقى أوسع تأييد ودعم من الشعب الكولومبي، لأن هذا الشعب، مثله مثل كلِّ سكان أمريكا اللاتينية الأصليين، عانى من الاحتلال الأوروبي لبلاده وما رافقه من تسلط وتوسع في الاضطهاد وإقامة المذابح والتطهير العرقي. لذلك فإن هذا الشعب عندما يرى الفلسطينيين يعانون مما عناه ويتعرضون لنفس ما تعرض له، وربما بشكل أوسع وأكثر قسوة وشراسة، يصبح تأييده لقرارات بيترو متسقًا مع طبائع الحال وسير الأمور.

   ما هو غير طبيعي حقيقة، هو ما كان من علاقات وثيقة، تربط كولومبيا بكيان استعماري عنصري متسلط مثل إسرائيل. والسبيل الأنجح في تقديري لفهم ما كان، هو أن كولومبيا كانت في مجال نفوذ الولايات المتحدة، وأن النخبة الحاكمة الكولومبية كانت خاضعة لسيطرتها، ومن المعروف أن الولايات المتحدة تحرص بشدة، أن يكون كل ما هو خاضع لها، أو حتى وثيق الصلة بها، على أوثق وأمتن ما يمكن من العلاقة مع إسرائيل. من الواضح أن صعود بيترو اليساري إلى الرئاسة، كان خطوة واسعة نحو التحرر الكولومبي من النفوذ والسيطرة الأمريكية، وذلك خلق مساحة من الاستقلال جعلت التعبير عن المواقف والمشاعر الحقيقية للشعب الكولومبي ممكن ومتاح.

    خلال العقود الثلاثة الأخيرة شهدت أمريكا اللاتينية صعود اليسار، أو أشخاص وممثلين له، إلى سدة الحكم في العديد من بلدانها. وقد أدى هذا إلى تغيرات واسعة وعميقة في القارة، خاصة في سياسات وتحالفات تلك الدول التي شهدت صعود هذا اليسار. لم تعد القارة إلى حد كبير فناء خلفي للولايات المتحدة، وتحررت كثيرًا من الأغلال والقيود التي كبلتها ونفضت عنها العديد من إكراهات السياسة الأمريكية وتحكماتها. إننا هنا في العالم العربي يشعرنا الصعود التحرري والتصرفات المنطلقة والمعبرة عن المشاعر الحقيقية للشعوب وتوجهاتها ومصالحها في تلك الدول، بالمزيد من الخزي والعار من حالة عجز تام وخضوع مميت في أرجاء أمتنا. إن هذا العجز العربي الفاضح والخضوع للولايات المتحدة والغرب، هو أساس انطلاق كل قوى العدوان الإسرائيلية الوحشية وتنفيذ مخططات الإبادة والتطهير العرقي واقتلاع الشعب العربي الفلسطيني من أرضه.

  التجربة اللاتينية تكشف أن السبيل الأول للتحرر من هذا العجز الشامل والقاتل، هو إحداث تغيرات بنيوية عميقة في السلطة والحكم واتخاذ القرار في بلدان العالم العربي، وبالأخص في الدول القائدة للنظام العربي. الطريق يبدو مغلقًا ومستحكمًا في انسداده، والجماهير محبطة وفاقدة للبوصلة والسبيل والهدف المشترك، ومن هنا يجب دراسة تجربة التحرر اللاتينية بفهم وبصيرة وعمق. كيف حدث ما حدث هناك؟ كيف استطاعوا أن يتحرروا وينطلقوا؟ كيف استطاع اليسار التحرري الاستقلالي المعبر عن آمال الشعوب ومصالحها، كسر التحالفات السياسية والطبقية المسيطرة والصعود إلى سدة الحكم وإجراء تغييرات واسعة وعميقة؟!

   كل تلك الأسئلة يجب أن تطرحها على نفسها، النخبة والطليعة السياسية والاجتماعية للتغيير والتحرر في العالم العربي. تطرحها وتبحث فيها وتجيب عنها، وتسعى إلى إعادة إنتاج التجربة اللاتينية في الأرض العربية، واضعين في اعتبارهم كل الفروق السياسية والاجتماعية والثقافية وطبيعة الموقع الجغرافي والتاريخي للعالم العربي. كل تطور أو تغيير حقيقي وحاسم هو مسبوق حتمًا بمراحل من درس وفهم عميق واستبطان لتجارب الآخرين، سابقين كانوا أو معاصرين. دائمًا كان هذا ما يميز المسعى الإنساني، فهمًا ودراسةً وتعلمًا مستمرًا، في سبيل الحركة والتغيير والصعود والارتقاء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى