على الرغم من تعهداته الكثيرة بإنهاء التدخل الأمريكي في الشرق الأوسط، إلا أنه من الواضح أن الرئيس ترامب قد قرر إقحام بلاده في المزيد من المشكلات والتي رأى بعض الخبراء أنها قد تجعل المنطقة على شفا اندلاع حرب بين كل من أمريكا وإيران، وذلك على خلفية العملية الأمريكية التي استهدفت اغتيال الزعيم الإيراني البارز قاسم سليماني، والتي أسفرت بدورها عن رد فعل إيراني فوري وحاسم استدف مقتل بعض الجنود الامريكيين في العراق.
وقد أثارت الأحداث الأخيرة العديد من التساؤلات حول الطبيعة المثيرة للجدل لمنطقة الشرق الأوسط والتي تجعل أمريكا في موقف وسطي حائر ما بين رغبتها في إنهاء الوجود الامريكي في دول الشرق الاوسط، والرغبة في إشعال حرب جديد من أجل مواجهة أعدائها!
ولعل عجز الإدارة الأمريكية السابقة والحالية عن إيجاد حل لتلك المعضلة هو ما دعا إلى التساؤل حول ما إذا كانت المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط على درجة كبيرة من الأهمية بما يخول لها وضع الأرواح والموارد الامريكية على خط المواجهة في حالة السلام وربما أثناء الحرب أيضا.
ولكنه يمكن القول بأن القوات الامريكية المرابطة في كل من العراق وأفغانستان باتت متعبة من الحرب والتوترات الواقعة بسبب ردود الفعل الإيرانية، ورغم ذلك فلازالت واشنطن عاجزة عن ترسيم ملامح سياسة واضحة في الشرق الأوسط، فالتحدي الآن قد أصبح سياسيا ودبلومسيا، حيث أن المصالح الأمريكية المتغلغلة في المنطقة لازالت معرضة للخطر مما يجعل القرار الأمريكي متذبذب وغير واضح، والإدارة الأمريكية عاجزة عن إحداث التوازن المطلوب.
ويجب ألا ننسى الموقف الأمريكي من العملية العسكرية الإيرانية التي استهدفت تدمير بعض المنشآت النفطية السعودية، حيث كانت تلك الواقعة هي السبب المباشر في قيام السعودية بالإعلان عن تخفيض إنتاج النفط بواقع 50% وحرمان دول العام من الزيت الخام. فقد قالها ترامب صراحة آنذاك “لقد كان ذلك هجوما على السعودية وليس هجوما على الولايات المتحدة” معلنا بذلك تخليه عن مساندة المملكة متناسيا أصول السياسة الأمريكية التي أقرت في عام 1954 في عهد الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت والقائمة على الالتزام بتقديم الدعم للسعودية باعتبارها من أبرز حلفائها في الشرق الاوسط.
وعلى النقيض من ذلك، فقد قام ترامب بإرسال ونشر 14 الف جندي في المنطقة منذ ذلك التاريخ بالإضافة إلى مجموعات من حاملات الطائرات، وكان الكونجرس قد أوصى في تلك الأثناء بإرسال تلك القوات بدلا عن ذلك إلى بحر الصين الجنوبي حيث يكمن الخطر الصيني المتنامي في القرن الحالي.
وكانت صعوبة تحقيق الانسحاب التام واضحة خلال شهر أكتوبر الماضي حينما أعلن ترامب عن سحب جميع القوات الأمريكية الموجودة في شمال سوريا، حيث أعربت بعض الأطراف عن قلقها إزاء ذلك القرار وبخاصة إسرائيل التي تساءلت عن كيفية تخلي ترامب عن حلفائه الأمريكيين السوريين والأكراد السوريين. ولكن الواقع أن القوات الامريكية لازالت موجودة حتى هذه اللحظة بزعم تأمين وحماية النفط السوري. الأمر الذي يعكس نوعا من التضارب في الأهداف والمصالح وبالتالي القرارات، وعليه فقد صرح وزير الخارجية مايك بومبيو قائلا إن الهدف الأساسي من بقاء القوات الامريكية في سوريا هو القضاء على أي أثر إيراني في البلاد.
ويعتقد البعض أن سبب تلك الحالة من التخبط والتردد في الإدارة الأمريكية إزاء قرار السحب النهائي للقوات من الشرق الأوسط هو رغبة ترامب الدفينة في استعادة قواته، والتوجهات المتشددة من قبل بعض مستشاريه بمن فيهم مايك بومبيو والسيناتور ليندسي غراهام وجون بولتون مستشار الأمن القومي السابق في عهد ترامب.
والآن لقد بات العالم بصدد مجموعة من المتناقضات في عهد ترامب والتي تتشابه نسبيا مع عهد باراك أوباما والذي كان عازما على إنهاء جميع الحروب الأمريكية في الشرق الأوسط وتجنب خوض حروب جديدة. ومع ذلك ،فإنه خلال فترات ثورات الربيع العربي عام 2011 ، لم يستطع مقاومة الدعوة إلى الإطاحة بالأنظمة في مصر وليبيا وسوريا ، على الرغم من رغبته الضئيلة في مشاركة أمريكا في إسقاطها.
وكنوع من الالتزام بالوعود، قام أوباما بسحب جميع القوات الأمريكية من العراق في عام 2011 وبعد ثلاث سنوات فقط، ارسل 5000 آلاف جندي أمريكي بزعم القضاء على خطط تنظيم الدولة الإسلامية الرامية إلى الاستيلاء على العديد من المساحات الشاسعة في البلاد لتأسيس دولة الخلافة المنشودة.
وفي سوريا، كان أوباما قد اعلن عن رفضه لنظام بشار الدموي الذي يقوم بإبادة شعبه بالأسلحة الكيماوية واصفا القضية بكونها “خط احمر” بالنسبة لواشنطن، إلا أنه في أغسطس 2013 عندما قامت القوات السورية باستخدام غاز السرين السام ضد المدنيين في أحد ضواحي العاصمة دمشق، لم يحرك أوباما ساكنا وأعلن عن رفضه توريط القوات الأمريكية في الصراع السوري، مما جلب عليه الكثير من الانتقادات لفشله في حماية المدنيين السوريين من قهر الأسد.
ويرى البعض أن حالة التخبط الامريكي إنما تعزو لاختلاف حجم وطبيعة المصالح الامريكية في الشرق الاوسط ، وربما لا تدرك واشنطن نفسها ذلك الأمر. وحقيقة فإن الولايات المتحدة كانت واضحة في الماضي بخصوص استراتيجيتها وخططها في الشرق الأوسط، حيث كان التواجد الأمريكي يهدف بالأساس إلى أمرين: أولهما الحفاظ على التدفق النفطي الخليجي ومراقبة اسعار النفط، والثاني هو حماية الكيان الإسرائيلي.
إلا أن أمريكا نجحت مؤخرا في الاستغناء عن الورادات النفطية من الخارج، فقد نجحت شركة Fracking في تحويل الولايات المتحدة إلى بلد مصدر للنفط والغاز وبالتالي فلا حاجة لها مجددا بنفط الخليج. وبالتالي فإن استمرار الحصول على نفط الخليجي لم يعد ضمن اجندة الاهتمامات الامريكية مما يجعلها لا تقاتل ولا تناضل من أجل مالا يحقق مصالحها المباشرة. فهو أمر وفقا للرؤية الأمريكية :”لا يستحق القتال من أجله”.
وبالنسبة لإسرائيل، فإنه يمكن القول بأنها قد أصبحت اخيرا قادرة على الدفاع عن نفسها وربما ليست في حاجة شديدة إلى التأمين الأمريكي، صحيح أن التهديدات الإيرانية بالقضاء على إسرائيل لازالت قائمة إلا أننا أصبحنا الآن بصدد الدولة اليهودية النووية الجديدة القادرة على تدمير إيران وليس العكس.
وعلى مدار العقود الماضية فقد أدركت الولايات المتحدة الأمريكية مدى أهمية إحداث الوفاق بين اسرائيل وجيرانها العرب، ففي حرب أكتوبر 1973 قامت الدول العربية النفطية برفع سعر برميل النفط الواحد إلى أربعة أضعاف مما تسبب في حالة من الركود الاقتصادي في أمريكا. وهنا تنشط العقلية الدبلوماسية الأمريكية من خلال وزير الخارجية هنري كيسنجر والرئيس الامريكي جيمي كارتر لإنتاج معاهدة السلام والتي قوضت مصر ضد إمكانية الانضمام في أي تحالف عربي ضد إسرائيل في المستقبل. مما جعل من المستحيل على جيران إسرائيل العرب الباقين -والأضعف من حيث الإمكانات البشرية والعسكرية بالمقارنة بمصر -التفكير مجددا في خيار الحرب.
وفي عام 1994 توسط الرئيس الأمريكي بيل كلينتون لإتمام معاهدة سلام بين الأردن واسرائيل بزعم الحفاظ على أمن المملكة الأردنية الهاشمية واستقرار منطقة الشرق الأوسط كاملا، ولعل ما تشهده كل من سوريا والعراق مؤخرا من حالة تفكك واضحة قد أكد على استحالة قيام حرب عربية واسعة النطاق مجددا ضد إسرائيل.
واليوم ، تتمتع إسرائيل بعلاقات استراتيجية أقوى مع الدول العربية السنية الرائدة – المملكة العربية السعودية ومصر وغيرها – أكثر من علاقاتها مع بعضها البعض. وهذا على الرغم من عدم وجود أي تقدم في إقامة السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين. فقد وقعت آخر اتفاقية فلسطينية اسرائيلية بوساطة أمريكية (مذكرة واي ريفر) في 1998 مما يجعل القضية تبدو ميئوس منها حتى الآن. ولعل هناك من هم في انتظار خطة ترامب التي طال انتظارها بشأن صفقة القرن بهدف انهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والتي ستقابل بالرفض على الأرجح من قبل الجانب الفلسطيني.
قد يكون خيار إقامة الدولتين لا يخدم مصالح أمريكا في المنطقة بصورة مباشرة، ولكنه على الأرجح يصب في مصلحة إسرائيل إذا أرادت البقاء كدولة يهودية وديمقراطية. ولأن الولايات المتحدة هي الحليف الأول لاسرائيل فلابد من دفعها للسير نحو حل الدولتين والذي يقضي بتجنب بناء المزيد من المستوطنات كي يتثنى إتمام تسوية الأرض مع الجانب الفلسطيني.
والسؤال الآن إذا لم يعد النفط العربي وتحقيق السلام العربي الإسرائيلي من القضايا التي تشغل البال الأمريكي، فماذا عن التصدي لتنظيم الدولة الإسلامية! فمنذ الإعلان عن تدمير تلك العناصر لازالت المخاوف قائمة من الفلول التابعة لهم إلى جانب تنظيم القاعدة، ولعل تلك المهمة يمكن إتمامها من خلال مجموعات محمدودة من القوات الامريكية مصحوبة ببعض الدعم المقدم من شركاء امريكا في المنطقة. وتبقى المصلحة الأكبر التي تسعى الولايات المتحدة من أجل تحقيقها في المنطقة حاليا، التصدي لسباق التسلح النووي، وهي الحالة الحالية التي قد تدفع بأمريكا نحو إشعال الحرب.
وعلى عكس كل من كوريا الشمالية وباكستان، فإن إيران لا تمتلك أسلحة نووية حقيقية، ولكن العقوبات الأمريكية قد تسببت في اختناق الاقتصاد الإيراني مما جعله يواجه معارضة شديدة داخليا وخارجيا. فعلى الرغم من انسحاب اترامب على نحو متهور من الاتفاق النووي المبرم في 2015 إلا أن إيران قد أعلنت عن نيتها للعودة إلى طاولة المفاوضات واستئناف المباحثات النووية مع الجانب الامريكي.
إن كبح تطلعات إيران النووية وطموحاتها للهيمنة الإقليمية سيتطلب دبلوماسية أميركية مضنية ، وليس حرباً. والآن بات يتعين على الرئيس الأمريكي أن يؤكد لطهران بأنع مستعد لتخفيف العقوبات مقابل الالتزام من جانب الدولة الفارسية بتطبيق بنود الاتفاقية النووية، كما لابد من مغازلة حلفاء أمريكا في أوروبا بدلا من الاستخفاف بهم إلى جانب ضرورة توحيد الموقف مع كل من روسيا والصين والذين يتشاركون نفس الهدف (منع إيران من امتلاك الساح النووي).
رابط المقال اضغط هنا
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا