هل يُرَكِّزُ الرئيس الأميركي جو بايدن بشكلٍ كبير حقًّا على الدفاع عن الديموقراطية؟ كتب ستيفن فيرثيم من مؤسسة كارنيغي أخيرًا في مجلة “أتلانتيك”، أنَّ بايدن، من خلال جعله الدفاع عن الديموقراطية “المبدأ الأوّل” الذي يُوَجِّهُ سياسته الخارجية، قد أدّى إلى تفاقمِ مجموعةٍ من التحدّيات التي تواجه الولايات المتحدة. وبدلًا من البحث عن حلولٍ وَسَط حكيمة لتحقيق الاستقرار في أوضاع الأزمات، يعمل بايدن على تعزيز “السياسات المُتَطرّفة الأحادية الجانب التي تعمل على تكثيف الصراعات من دون حلّها، في حين تؤدّي إلى توريط الولايات المتحدة فيها”. وتعكس وجهة نظر فيرثيم وجهة نظر الأكاديمي الأميركي والتر راسِل ميد، الذي كتب في العام الفائت أنَّ تأطيرَ بايدن لـ”السياسة العالمية على أنّها مُنافَسَةٌ بين الديموقراطية الليبرالية والاستبداد” هو أمرٌ “مؤسف” لأنه “يُعيقُ الديبلوماسية الأميركية في الخارج ويزيد من تآكل الإجماع الضعيف في الداخل وراء سياسة خارجية أميركية قوية حول العالم”.
يُمكِنُ للمرءِ أن يُجادِلَ بأنَّ إدارة بايدن مُتَطَرِّفة للغاية في أهدافها، حتى إلى حدِّ محاولة القيام بالكثير. ولكن هل يرجع ذلك حقًا إلى التركيز المُفرِط على الدفاع عن الديموقراطية، سواء في الداخل أو الخارج؟
لقد أعربت إدارة بايدن بالفعل عن الحاجة إلى دعم الديموقراطية في جميع أنحاء العالم. ومُقارنةً بسلفه، الرئيس السابق دونالد ترامب، يؤكّدُ بايدن في كثيرٍ من الأحيان على فضائل الديموقراطية وضرورةِ الدفاعِ عنها. خلال عامه الأول في منصبه، أعلن بايدن: “في مواجهةِ التحدّيات المُستَمِرّة والمُثيرة للقلق… في جميع أنحاء العالم، تحتاج الديموقراطية إلى أبطال”. وفي العام الفائت، احتفل بشيءٍ من النصر قائلًا: “تظل الديموقراطية الوسيلة الأكثر ديمومة للإنسانية لتعزيز الرخاء والأمن والكرامة للجميع. وعلى مدى العامين ونصف العام الماضيين، أثبتنا ذلك”. وحتى عند التركيز على الديموقراطية الأميركية، فإنَّ بايدن يتطلّعُ إلى الخارج. في خطابه في العام 2022 في فيلادِلفيا، أكّد بايدن على أنَّ الدفاعَ عن الديموقراطية في الداخل كان ضروريًا للولايات المتحدة لمواصلة العمل ك”منارةٍ للعالم، ومَثَلٍ أعلى يجب تحقيقه، ووَعدٍ ينبغي الوفاء به”.
لكن رُغمَ هذا الخطاب، لا يبدو أنَّ حمايةَ الديموقراطية هي التي تقود سياسة بايدن الخارجية في المُمارسةِ العملية. قبل أسبوعين فقط، زار وفدٌ من إدارة بايدن جمهورية الكونغو الديموقراطية لحضورِ حفلِ تنصيبِ الرئيس فيليكس تشيسيكيدي، على الرُغم من أنَّ المراقبين الدوليين أثاروا مخاوف موثوقة بشأن انتخابه الأولي في العام 2019 وإعادة انتخابه اللاحقة في العام الماضي. وعلى نحوٍ مُماثل، شابت الانتخابات النيجيرية في العام الفائت أعمالَ عُنفٍ ومخاوفَ كبيرة بشأنِ كيفية إجرائها. ومع ذلك، قام بايدن بتهنئة الرئيس بولا تينوبو على فوزه.
أو لنتأمّل هنا أوّل مؤتمرَي “قمة من أجل الديموقراطية” استضافهما بايدن افتراضيًا. كان الهدفُ المُعلَن لهذَين المؤتمرَين هو تعزيز الحوار والعمل على “التجديد الديموقراطي العالمي”. ولكن يبدو أنَّ المبادرة كانت تدور حول توليد الدعم لمُواجَهةِ الصين بدلًا من تعزيز الديموقراطية، كما يتَّضح من حضور العديد من البلدان التي تتمتّع بمؤهّلات ديموقراطية مشكوك فيها إلى حدٍّ كبير في كلا المؤتمرَين.
في الواقع، تُواصِلُ إدارة بايدن التقليد الأميركي الطويل المُتَمَثِّل في البقاء دافئة، عندما يكون ذلك مناسبًا، مع الحكومات التي لديها ميولٌ استبدادية، وإن لم تكن أنظمة استبدادية كاملة. إنها قريبة تمامًا من المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى مثل أيّ إدارة رئاسية أميركية أخرى. لقد تبنّت بالكامل اتفاقيات أبراهام، وهي مبادرة أساسية في السياسة الخارجية لإدارة ترامب تسعى إلى تطبيع العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل. والواقع أن وجود حكومات استبدادية في مختلف أنحاء الشرق الأوسط يَتَّسِقُ مع مصالح الولايات المتحدة، طالما أنها تساعد على ضمان الاستقرار في منطقة الخليج العربي ومواجهة النفوذ الإيراني.
حتى مع إسرائيل نفسها، حيث تم تأطير الدعم الأميركي تاريخيًا على أنه دفاعٌ عن دولةٍ ديموقراطية (يهودية) زميلة!!، فإنَّ الأمرَ ليس بهذه البساطة. قبل هجوم “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، أثارت إدارة بايدن مخاوف بشأن تجاهل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو للقَيَم الديموقراطية، وخصوصًا إجراءات الإصلاح القضائي المُثيرة للجدل.
ولنتأمل هنا أيضًا دَعمَ إدارة بايدن لأوكرانيا وتايوان. في حين يمكن صياغة الدفاع عن أوكرانيا في إطار الدفاع عن المُثُلِ الديموقراطية التي تتعرّضُ للهجوم من قِبَلِ نظامٍ استبدادي، فإنه يتمُّ تسويقه أيضًا في الداخل كاستثمارٍ في مواجهة روسيا. وحتى مع تايوان، التي أجرت أخيرًا أول انتخابات في هذا العام، فإنَّ التزامَ الولايات المتحدة يعتمد بقدرٍ كبير على الحاجة إلى مواجهة الصين، وتعزيز الاستقرار الإقليمي، والاستفادة من المزايا الاقتصادية لوضع تايوان كمُنتِجٍ رئيس لأشباه الموصلات بقدر ما يعتمد على التزامها بالمعايير الديموقراطية.
في كل هذه الأمثلة، يبدو أن طموحات الولايات المتحدة في إحباطِ القوى المتنافسة الكبرى ودعم حلفاء الولايات المتحدة الرئيسيين في أوروبا وآسيا لها الأسبقية على اعتباراتِ خصائصِ النظام الخاصة بالبلدان المَعنِية. في الواقع، فإنَّ مواجهةَ روسيا في أوروبا والصين في آسيا أمرٌ مُهِمٌّ للغاية لدرجةِ أنه يُمكِنُ القول إنَّ إدارة بايدن تتجاهل احتياجات الحكومات الديموقراطية الأقرب إلى الوطن. وكان هذا أحد الأسباب الرئيسة التي جعلت “قمة الأميركتين” التي عقدها بايدن تُشكّل إحراجًا ديبلوماسيًا، حيث اختار العديد من الحكومات الديموقراطية المهمّة في المنطقة عدم الحضور والبقاء بعيدًا.
بعبارةٍ صريحة، إنَّ نهجَ إدارة بايدن في التعامل مع السياسة الخارجية هو سياسة واقعية من الأعلى إلى الأسفل. هذا ليس سيّئًا بالضرورة. إنَّ النهجَ الواقعي في السياسة الخارجية يُمَكّن بايدن من فِعلِ ما في وسعه في مواجهة القدرات الأميركية المُقَيَّدة. إنَّ الهيمنة الليبرالية تكون سهلة عندما يكونُ من السَهلِ أن تكونَ مُهَيمِنة. ولكن عندما لا يكونُ الأمرُ كذلك، غالبًا ما يتم التضحية بالنقاء الإيديولوجي من أجل المصالح الوطنية.
وهذا لا يعني أنَّ الولايات المتحدة لا ينبغي لها أن تسعى إلى أن تكونَ نموذجًا ديموقراطيًا للآخرين. إنَّ اتخاذَ تدابيرٍ لتعزيزِ القوة الناعمة قد يسمح للولايات المتحدة بالاحتفاظ بنفوذها مع استمرار تراجع قدرات قوّتها الصلبة. لكن تصرّفات إدارة بايدن تتفق مع التوتّر الأكبر الذي عصف بالسياسة الخارجية الأميركية لفترةٍ طويلة: لم يكن دعم الديموقراطية في الخارج مُطلقًا حصريًا أو غير مشروط. وأفضل ما تستطيع الولايات المتحدة أن تفعله هو أن تكون مثالًا للديموقراطية العاملة في الداخل. ولكن حتى في هذا الصدد، فإنَّ الولايات المتحدة لديها تاريخٌ طويلٌ من الفشل، من العبودية إلى انتهاكات الحقوق المدنية إلى تمرّد الكابيتول في السادس من كانون الثاني (يناير).
ليس هناكَ شكٌّ في أنَّ بايدن دوليٌّ في ميوله وليس انعزاليًا. لكن التعامل مع العالم يعني التعامل مع العالم كما هو، وليس كما ينبغي أن يكون. وفي أغلب الأحيان، يعني هذا العمل مع حكومات لا تشارك بايدن شغفه بالديموقراطية، وهو أمرٌ أظهرَ استعداده للقيامِ به.