يبحبش “ماكرون الثاني” حاليًا عن “نجيب الرابع الفرنسي“، عن “كاستنغ” يشبه دولة الرئيس الحاجّ نجيب ميقاتي، لكي ينقذه حكوميًّا بحكومة لا تغيب عنها الشمس. يبحث عن شخصيّة تكون خبيرة مثله بالزواريب وتفاصيلها وعالمة، بفضل الله، بتدوير الزوايا، والتفشيخ والمهادنة واللعب على الحبال.
ولِمَ لا، وهو الوكيل الحصري للّقب الأولمبي الدستوري “الرئيس المكلّف بالـتأليف والمصرِّف للأعمال”، والمؤهّل لتولّي زمام القيادة التنفيذية للحكومة لوقف نزف فريقه السياسي والحدّ من تأخّره بعد خسارته ثلاثة من أهمّ مقاعده الوزارية في الحكومة العتيدة، ومعها رئاسة الجمعية الوطنية ورئاسة كتلة النهضة؟!
يضع ماكرون رأسه في حضن “بريجيت” سيّدة القصر وكاتمة الأسرار، وينتحب لمجده، ويولول على أكثريّة ذهبية فقدها وصلاحيّات مطلقة طلّقته، لكنّه بجهد يفتّش أيضًا عن “نبيه برّي السابع”، عن خامة تشريعية بمقام “الإستيذ” المطلق الصلاحيّات والسيّد لمجلسه بـ”65″ صوتًا.
فسيّد الإليزيه بحاجة حتمًا إلى مثل أرانبه في هذه الفترة، ليتعلّم منه مثلما تعلّمت النائبة نجاة صليبا مقاليد الإدارة التشريعية، وإلى رئيس برلمان قادر بنجاح على امتصاص الألوان والتغيير والثوّار، وإلى مايسترو في كيفيّة التعامل مع الكتل الرمادية والانقسامات الشعبوية والحركات الصبيانية والأرقام الهزيلة والصغيرة، وإلى ملك للبرلمان له حنكته في تمرير الصفقات المتناقضة تحت قبّة المجلس بعد حديث ماكرون عن نمط تشريعي جديد محوره التسويات وعنوانه “سهّلّي أمري تسهّل أمرك”، وتهديد مارين لوبان بأنّها تريد مركز نياية الجمعية الوطنية، أي مركز دولة نائب رئيس المجلس النيابي. لكنّه لا يريد شخصية مثل الياس بو صعب المتناقض في الانتماءات والقناعات و”الكشتبانجي الحرّيف بالتعابير والعلاقات”. بيد أنّ بحثه عنهم لم يفلح، فهؤلاء ماركة لبنانية مسجّلة، فلماذا لا يأتي ويأخذهم؟
لقد حان وقت الحقيقة في فرنسا، وانقلب سحر ماكرون عليه وعلى سحره، ودارت به الأيام بمعزل عن “الصداقة”، وهُزِم مثلما خسر حزب الله في لبنان أكثريّته (أكثريّة الوليّ الفقيه)، وأُقفلت بيوت الوصاية السورية. لقد تحوّلت الجمعية الوطنية الفرنسية إلى صحن تبّولة البرلمان اللبناني، حيث المستقلّون والتكنوقراط والكتل المتعدّدة والمجموعات الرخوة رقميًّا والمتساوية.
فرملة الجمهورية الخامسة
تفرملت الجمهورية الخامسة بفعل التوافقات والتسويات وسوء الإدارة، وتعطّلت مثلما تعطّل اتفاق الطائف بفعل الديمقراطية التوافقية والأثلاث المعطِّلة وحصص الرئيس وصهره وحاشيته وتغطية الفساد لحماية السلاح، ولقيت نفس مصير وثيقة الوفاق الوطني من حيث عدم التطبيق بعد تحوّلها إلى وثيقة أشخاص جعلت من الحكومة مجلسًا نيابيًا مصغّرًا يختزل الرقابة التشريعية والمحاسبة النيابية.
لقد “طلس” قصر البوربون بـ”الغراء اللبناني”، وطسّه بالعطر المحلّي اللبناني، عوضًا عن العطر الباريسي، وبنكهة الحمّص والفول والفلافل. فقد أصبح لبنانيّ الهوى بكتله وتقسيماته، ولا تنقصه إلا مطرقة الرئيس. وها هو الرئيس ماكرون يبدو الآن مرغمًا على التوجّه نحو حكومة وحدة وطنية بكلّ مصطلحاتها (تعايش وتزاوج ومساكنة وشراكات وطلاق وهجر) كالتي تحدّث عنها في قصر الصنوبر بلبنان في آب الأسود، بعد تفجير مرفأ بيروت. ولو أنّه صرّح بأن ليس من مبرّر لها، وكأنّه كان قاصدًا في حينها فرنسا ونفسه لا لبنان.
يتحسّر ماكرون، ويجد نفسه حاليًا عالقًا بين معارضتين راديكاليّتين، بين اليمين واليسار المتطرّف. والأمر في الحقيقة صفعة سياسية كبيرة لهذه الاستراتيجية السياسية الخاطئة القائمة على الانتقائية والخلط بين المبادئ. فهو بات محصورًا بين يسار يستعيد قوّته ويمين يحقّق اختراقة غير مسبوقة. وهذا كلّه محصّلة تسريع خطواته الماكرونية الهادفة إلى امتصاص وابتلاع اليمين وتشليع اليسار، وهو الأمر الذي ارتدّ عليه سلبيًا من خلال تغذية المعارضات القومية المتشدّدة لعدم اقتناع الأغلبية الشعبية ببرنامج حكمه الرئاسي.
صعوبة أن يحكم وحده
من الصعب على ماكرون، وهو أوّل رئيس يُعاد انتخابه منذ تقليص مدّة الولاية الرئاسية إلى 5 سنوات، مرّتين، بدون تحالف، أن يسيّر شؤون البلاد والعباد بمفرده بعد خسارته للغالبية المطلقة. وسيتعيّن عليه إيجاد حلفاء عابرين للكتل لتطبيق حزمة إصلاحاته. وبات لزامًا عليه البحث عن نموذج حكومة مفيد من أجل تكريس المصلحة الوطنية العليا للأمّة الفرنسية.
لم تشهد فرنسا منذ مدّة طويلة مثل هذه التركيبة النيابية الفرنسية التي تبدو كأنّها “انتداب لبناني تشريعي” لنتيجة الانتخابات الفرنسية التي ستفرض تفصيلاتها التحالفيّة الخاصة. فالائتلافات عديدة والتوافقات قليلة، وفرنسا لا يمكن أن تكون بلدًا غير مؤسّساتي.
لذلك فإن دأب ماكرون على التنقيب عن النفط اللبناني وطائر الفينيق، جنبًا إلى جنب، علّه يجد هذا الأخير فيساعده وينتشله من مأزق انتكاسته وينفض الرماد عنه وعن الجمهورية الخامسة المشلولة، لكي تستعيد من جديد ذاتها وتنهض للعمل بحيويّتها وحركيّتها.