الاحدثدولي

ما زلنا نَعيشُ في العَالَمِ الذي صَنَعَهُ إنزالُ النورماندي | بقلم غابي طبراني

صادفت يوم الخميس الفائت الذكرى الثمانون لحدثٍ حاسمٍ في تاريخِ العالم: غزو “يوم النصر” أو “The D-Day”. العملية التي قامت بها القوات الأميركية والبريطانية والكندية لعبور القناة الإنكليزية والهبوط على شواطئ النورماندي في فرنسا في 6 حزيران (يونيو) 1944، أَطلَقَت المرحلةَ الأخيرة من الحرب العالمية الثانية على المسرح الأوروبي. كانَ الهَدَفُ هو فَتحَ جبهةٍ ثانيةٍ ضدّ الجيش الألماني النازي الذي كانَ يتكبّدُ خسائرَ فادحة في الشرق ضدّ القوات السوفياتية المُتقَدِّمة.

لا تزالُ هذه العملية حتى يومنا هذا تُعتَبَرُ أكبرَ عمليةٍ عسكريةٍ جوية وبرية وبحرية مُشتَرَكة في التاريخ. لقد شملت 7,000 سفينة وأكثر من 300,000 جندي اجتازوا أكثر من 19 كيلومترًا من المياه للهجوم على شاطئ يبلغ طوله حوالي 80 كيلومترًا، وكانت العملية بمثابةِ أعجوبةٍ عسكريةٍ ولوجستية. إنَّ حجمَ العملية والسباق اللاحق إلى برلين يجعلُ من غزو النورماندي حدثًا ضخمًا ومهمًّا في حدِّ ذاته.

لكن غزو النورماندي كان مهمًا أيضًا في كيفية تشكيل السياسة الدولية لاحقًا، لبقية القرن العشرين وحتى اليوم. ويمكن رؤية ذلك بثلاث طرق.

أوّلًا، شكّلت هذه العملية السياسة الخارجية الأميركية منذ ذلك الوقت. في حين أن الولايات المتحدة إنضمّت متأخّرة إلى الحرب العالمية الأولى، مع قوّةٍ استكشافية جلبت الإغاثة التي كانت القوات البريطانية والفرنسية في أمس الحاجة إليها، كانت في النورماندي القوة الرئيسة للحلفاء وقادت الهجوم اللاحق على ألمانيا. ومع الضُعفِ الشديد لجميع القوى الأوروبية بعد الحرب وتَمَركُزِ القوات الأميركية في قلب أوروبا، كانت واشنطن مُستَعِدةً لتشكيلِ النظام العالمي بعد الحربِ بطريقةٍ تَخدُمُ مصالحها الاقتصادية والأمنية.

ثانيًا ومُتّصِلًا، شكّلت هذه العملية مُستقبلَ النظامِ الدولي. وُصِفَت هزيمة فرنسا أمام ألمانيا النازية في العام 1940 بأنها “نقطة ارتكاز للتاريخ”. كانَ من المفترض أن تتمكّنَ فرنسا، بجيشها الضخم وخطّها الواسع من التحصينات الحدودية، من الصمود في وجه العدوان النازي. لقد أدّت هزيمتها الصادمة والمفاجئة إلى إطلاق أحداث لم تُدخِل الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في الحرب فحسب، بل وضعت كلتا القوّتين في وَضعٍ يسمح لهما بتشكيل النتيجة اللاحقة للحرب وعالم ما بعد الحرب.

لكن من دون غزو النورماندي، كان من الممكن أن تسير العملية التي بدأت بهزيمة فرنسا بشكلٍ مختلف تمامًا. على سبيل المثال، بالنظر إلى التقدّمِ الذي أحرزته القوات السوفياتية ضد القوات الألمانية في الشرق بحلول حزيران (يونيو) 1944، ربما كان جوزيف ستالين قد أمرهم بمواصلة هجومهم على طول الطريق عبر ألمانيا وفرنسا نفسها. ففي نهاية المطاف، في مؤتمر بوتسدام في العام 1945، عندما هنّأ الرئيس الأميركي آنذاك هاري ترومان ستالين على وصوله إلى برلين، يُزعم أن ستالين أجاب أن “القيصر ألكسندر وصل إلى باريس”. وكانت الإشارة إلى هزيمة جيش نابليون بونابرت الكبير في العام 1814 على أيدي تحالفٍ ضم القوات الإمبراطورية الروسية.

لعلَّ الأمرَ الأكثر ترجيحًا هو أنَّ ستالين ربما سعى إلى التوصّلِ إلى سلامٍ مُنفصل مع ألمانيا بسبب الخسائر الفادحة التي سبّبها التقدّم في الشرق للقوات السوفياتية. ويتجلّى ذلك في عدم توقيع ستالين على خطة الحلفاء لمتابعة استسلام ألمانيا غير المشروط إلّا بعد فتح الجبهة الثانية في الغرب. كان من شأن السلام السوفياتي النازي المُنفَصِل أن يتركَ ألمانيا سليمةً وهتلر في السلطة. ونظرًا لانعدام الثقة الذي كان قائمًا بين الطرفين، مع انتهاك برلين لاتفاقية عدم الاعتداء مع موسكو عندما شنّت هجومها الأوّلي على الاتحاد السوفياتي في العام 1941، فإنَّ التسوية كانت ستؤدّي إلى سلامٍ متوتّرٍ ومليءٍ باحتمالِ تجدُّدِ القتال.

من الجدير بالذكر أيضًا أنه على الرُغمِ من جرأته، فإنَّ غزوِ النورماندي كان بعيدًا من النجاح. في الواقع، قام القائد الأعلى لقوات الحلفاء، الجنرال دوايت أيزنهاور، بإعدادِ تصريحات لإلقائها في حالة فشل العملية. لو فشلت المحاولة الأولى، لم يكن هناك ما يضمن قيام الحلفاء بمحاولةٍ ثانية. في الواقع، ربما كان مثل هذا الفشل قد حفّزَ ستالين على تقليص خسائره والسعي لاحقًا إلى إبرام الصفقة المذكورة أعلاه مع أدولف هتلر.

نظرًا لأنَّ الغزو وتقدّمَ الحلفاء في الغرب كانا ناجحَين، فقد تمكّنَ الحلفاء من تنفيذ الخطة الموضوعة في مؤتمر يالطا في العام 1945 لتقسيم مناطق السيطرة بالتساوي في ألمانيا المهزومة، إلى جانب المناطق التي كانت لا تزال تحت سيطرة الإمبراطورية اليابانية في ذلك الوقت في شبه الجزيرة الكورية. لكن ذلك ترك الحلفاء والسوفيات حَبيسَي ترتيباتٍ حَذِرةٍ تحوّلت في نهاية المطاف إلى الحرب الباردة. في بعض النواحي، ليس من المبالغة القول إن المواجهة التي دامت 45 عامًا كانت مدفوعةً إلى حدٍّ كبير بعدم ثقة الحلفاء السابقين في بعضهم البعض للانسحاب من مواقعهم في ألمانيا وكوريا.

ثالثًا، من المهم جدًا أن يكون هذا العام الذكرى الثمانين وليس الذكرى الحادية والثمانين أو الثانية والثمانين ليوم الإنزال، كما كان سيحدث لو أنَّ الحلفاء الغربيين فتحوا الجبهة الثانية في وقت سابق، على سبيل المثال في العام 1942 أو 1943، كما ناشدهم ستالين مرارًا وتكرارًا أن يفعلوا. كان أحد أسباب تأخير واشنطن ولندن هو التركيز على تنفيذ العمليات في شمال أفريقيا ثم إيطاليا، والتي كان يُنظر إليها على أنها “البطن الناعم” لقوى المحور في أوروبا. كان هذا النهج مُفَضَّلًا بشكلٍ خاص من قبل البريطانيين، الذين كان دعمهم ضروريًا لعملية غزو النورماندي عبر القناة والذين كانوا قلقين من أن يؤدي الغزو المُبكِر عبر فرنسا إلى تكرار الخسائر الفادحة التي تكبدتها بريطانيا خلال الحرب العالمية الأولى.

وبغض النظر عن الأسباب، فإنَّ التأخيرَ في فتحِ جبهةٍ ثانية يعني أنَّ السوفيات استمروا في تحمّلِ معظم التكاليف المباشرة، بما في ذلك الخسائر البشرية، لمحاربة قوات هتلر. في حين لم يكن بمقدور السوفيات هزيمة ألمانيا النازية بمفردهم، حيث كانوا مُجَهَّزين بشكلٍ كبيرٍ بأسلحةٍ أميركية حصلوا عليها من خلال برنامج “إقراض-إيجار” (Lend-Lease)، إلّا أنهم مع ذلك كانوا يُعانون من ارتفاع عدد القتلى في القتال في الشرق. هناك بالفعل حقيقة في القول المأثور بأنَّ النازيين هُزِموا بواسطة “العقول البريطانية والعضلات الأميركية والدماء الروسية”.

ورُغمَ أنه من المبالغة القول بأنَّ التأخير في فتحِ جبهةٍ ثانية كان سببًا في اندلاع الحرب الباردة، إلّا أنه أدّى إلى تعزيز انعدام الثقة بين الحلفاء والسوفيات. ويستمر عدم الثقة هذا حتى يومنا هذا. على الرُغمِ من أنه معروفٌ بمواقفه الغريبة تجاه التاريخ، فقد استخدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الخسائر الفادحة التي دفعها الاتحاد السوفياتي في قتال ألمانيا النازية لدعم شكاواه ضد الغرب، ولكن أيضًا كمثالٍ على المرونة التي أظهرتها روسيا في الوقوف في وجهِ عالمٍ لا ينظر إليها بعين المساواة.

ووفقًا للفيلسوف الإسباني خورخي سانتايانا، فإنَّ أولئك الذين يفشلون في التعلّم من التاريخ محكومٌ عليهم بتكراره. قد لا يكون هذا هو الحال دائمًا أو في كثير من الأحيان، لكن الصحيح هو أنَّ أولئك الذين يفشلون في التعلّم من التاريخ يفتقرون إلى فَهمِ العوامل الأساسية التي تُشكِّلُ العالمَ اليوم. وهذا هو السبب الرئيس وراء أهمّية فَهمِ تأثيرِ غزو النورماندي، في ذكراه الثمانين، أكثر من أيِّ وقتٍ مضى.

غابريال طبراني، كاتب وصحافي لبناني مقيم في لندن

غبريال طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب”. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه: gabrielgtabarani.com أو عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى