الاحدثدولي

مستقبلُ العالَمُ بأسره بَينَ يديه | بقلم غابي طبراني

أسألُ أحيانًا بعضَ الزملاء: مَن هو الشخص الأكثر نفوذًا في العالم؟ بَعدَ منحهم الوقت لمُناقَشة الخيارات، فإنهم عادةً ما يُجيبون بأنه جو بايدن أو شي جين بينغ. لكن بعد ذلك أقول لهم أن يُفكّروا في إمكانية ألّا يكون هذا الشخص رئيس دولة، بل قد يكون مُوَظَّفًا تكنوقراطيًا… رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي (حاكم البنك المركزي الأميركي).

لفَهمِ السبب، ينبغي العودة إلى الأسبوع الفائت عندما كان المُحَلِّلون الماليون، ومعهم السياسيون ورجال الأعمال، داخل وخارج الولايات المتحدة ينتظرون بفارغ الصبر خطابًا ألقاه رئيس الاحتياطي الفيدرالي الحالي جيروم باول. من تلك الملاحظات، التي ألقاها في ندوةِ الاحتياطي الفيدرالي السنوية في “جاكسون هول”، ولاية “وايومنغ”، قال: “لقد حانَ الوقتُ لتعديلِ السياسة”.

بـ”التعديل”، كان باول يُشيرُ إلى خَفضِ لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية التابعة لبنك الاحتياطي الفيدرالي لسعرِ الفائدة المُستَهدَف. يهدف بنك الاحتياطي الفيدرالي حاليًا إلى الإبقاء على سعرِ الفائدة المُستَهدَف، وهو سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية، عند أعلى مستوى له في 23 عامًا عند 5.25% إلى 5.5%.

إنَّ بنكَ الاحتياطي الفيدرالي لا يُحقّقُ هذا المُعدَّل المُستَهدَف بمرسوم، بل من خلالِ شراءِ وبَيعِ الديون الأميركية القصيرة الأجل بانتظام. وعلى النقيضِ من المُستَهلكين والشركات، بل وحتى البنوك الاستثمارية، يتمتّعُ بنك الاحتياطي الفيدرالي بقدرةٍ غير محدودةٍ على الانخراط في مثل هذه المعاملات. نعم، يُمكنهُ حقًا توليدَ المال من الهواء. ولأنَّ سعرَ الفائدة على الأموال الفيدرالية يُحَدِّدُ تكلفةَ الاقتراض من بنك إلى بنك في الولايات المتحدة بين عشيةٍ وضحاها، فإنَّ هذا المُعدّل يؤثر لاحقًا في أسعار الفائدة الأخرى، سواء أسعار الرهن العقاري لمُشتَرِي المساكن أو الأسعار المفروضة على الشركات على القروض للاستثمارات الرأسمالية. في جَوهَرِ الأمر، إذا خفّضَ بنك الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة المُستَهدَف، فإنه بذلك يضخُّ المالَ في الاقتصاد الأميركي.

لا شكَّ أنَّ ضَخَّ المال في الاقتصاد الأميركي هو أمرٌ جيدٌ. فالمستهلكون الأميركيون والشركات، التي تَتَّخِذُ من الولايات المتحدة مقرًّا لها، يرغَبُون في الحصول على تكاليف اقتراضٍ أقل، وهو ما يعني في الأساس وضع المزيد من المال في جيوبهم. ونظرًا لمركزية الدولار الأميركي في تشغيلِ الاقتصاد العالمي، فإنَّ الأفرادَ في مختلف أنحاء العالم لا بُدَّ وأن يستفيدوا جيدًا من تَوَفُّرِ المزيد من الدولارات أيضًا. الواقع أنَّ التغيُّرات في أسعارِ الفائدة في الولايات المتحدة من المُمكِن أن تؤدّي إلى تغييرِ تَدفُّق رأس المال المالي على مستوى العالم، الأمرُ الذي يُؤثّرُ في الاقتصادات المُتقدّمة والنامية، بل وحتى تغيير أسعار الغذاء العالمية.

وهناكَ مُناسبةٌ أخرى قد يلجأُ فيها بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى تعديل سياسته وذلك عندما يبدو أن التضخُّمَ أصبح تحت السيطرة. كانَ السببُ الرئيس وراء زيادة بنك الاحتياطي الفيدرالي لأسعار الفائدة على مدى السنوات القليلة الماضية هو ترويض التضخُّم، أو الزيادة الإجمالية في تكاليف المعيشة. ويبدو أنه نجح في تحقيق هذا الهدف على وجه التحديد، حيث استقرَّت الزيادات المستمرّة في الأسعار عند مستوى قريب من هدف بنك الاحتياطي الفيدرالي البالغ 2% سنويًا.

لكن ليس كلُّ شيءٍ ورديًا. إنَّ السيطرة على التضخّم ليست السبب الوحيد، أو حتى السبب الرئيس، وراء خطط بنك الاحتياطي الفيدرالي لخفض تكاليف الاقتراض. تشيرُ سلسلةٌ من بياناتِ سوقِ العمل الضعيفة الأخيرة إلى أنَّ الاقتصادَ الأميركي يتباطأ، وربما يَتَّجه نحو الركود. وكما قال باول في خطابه الأخير: “إنَّ التباطُؤَ في ظروفِ سوق العمل لا لُبسَ فيه. ما زالت مكاسب الوظائف قوية ولكنها تباطأت هذا العام … نحنُ لا نسعى إلى المزيد من التباطؤ في ظروف سوق العمل ولا نُرَحِّبُ به”. وبالتالي، فإنَّ خفضَ أسعار الفائدة ليس مجرّد مسألة تراجُعٍ عن التدابير الرامية إلى وقف التضخّم، بل يُنظَرُ إليه أيضًا على أنه خطوةٌ نشطة ضرورية لتحفيز الاقتصاد المُتعثّر.

هناكَ مخاوف من أنَّ بنك الاحتياطي الفيدرالي قد فشلَ في “تخييط الإبرة”، إذا جاز التعبير: إبطاءُ النشاط الاقتصادي بما يكفي لوقف التضخّم، ولكن ليس كثيرًا لإحداثِ الركود. إنه يُشبهُ إلى حَدٍّ ما هبوطَ طائرةٍ في عاصفةٍ عاتية، ولهذا السبب يُشيرُ المحلّلون الاقتصاديون غالبًا إلى ذلك باعتباره “هبوطًا ناعمًا” (Soft Landing).

إنَّ الفشلَ في تحقيقِ “هبوطٍ ناعم” لا يَهُمُّ أولئك الذين هم في أميركا فحسب، بل وعلى مستوى العالم. عندما يَعطُسُ الاقتصادُ الأميركي، يُصابُ الاقتصادُ العالمي بالزُكام. وبين مركزية الدولار كعُملةِ إحتياطٍ عالمية وأهمّية الولايات المتحدة باعتبارها السوق العالمية الأولى للاستثمار، يظلُّ الاقتصاد الأميركي قلب الاقتصاد العالمي. والواقع أنَّ الاقتصادات الأخرى ليست في وَضعٍ جيد يَسمَحُ لها العمل كمُحَرِّكاتٍ للتعويض عن التباطؤ في الاقتصاد الأميركي. يواجه الاقتصاد الصيني مشاكله الخاصة المُتمثِّلة في تباطؤ النمو وعدم القدرة على اتخاذِ الخطوات اللازمة للإصلاح. وفي أوروبا، تواجه بلدان منطقة اليورو ومصرفها المركزي، البنك المركزي الأوروبي، أيضًا رياحًا اقتصاديةً مُعاكِسةً وتباطؤًا في النمو.

إنَّ تعثُّرَ الاقتصاد الأميركي وانتقالَ تقلُّباته إلى الاقتصاد العالمي لا يُمكِنُ أن يأتي في وقتٍ أسوَإٍ من هذا. إنَّ التباطؤَ الاقتصادي العالمي يعني أنَّ الحياةَ اليومية ستُصبِحُ أكثر صعوبةً بالنسبة إلى كثيرين. ولكن هذا سيكون مُثيرًا للقلق بشكلٍ خاص في عالمٍ غارقٍ في الصراعات.

إذا شهدت أكبر الاقتصادات في العالم تباطؤًا كبيرًا، فإنَّ قدرتها على معالجة مشاكل العالم، وخصوصًا الأزمات الإنسانية التي تتطلَّبُ موارد مالية، سوف تتعطَّلُ بشكلٍ أكبر. ولن يعني تقليصُ الموارد الاقتصادية أنَّ القوى العالمية الكبرى سوفَ تكون أقل قدرةً على لعبِ دورٍ بنّاءٍ في مواجهة التحدّيات العالمية فحسب، بل إنها سوف تكون أيضًا أقل استعدادًا للقيام بذلك. إنَّ تدهورَ التوقّعات الاقتصادية من شأنه أن يُبرِزَ أسوَأ ما في الدول: القومية، والحمائية، وحتى الانعزالية. والاستسلامُ لهذه الأمور لن يؤدّي سوى إلى تفاقُمِ الوَضعِ السياسي العالمي الحالي. وينبغي أن يكون هذا الاحتمالُ مُثيرًا للقلق بشكلٍ خاص لطُلّاب التاريخ. فليس من الصعب رسم صلةٍ بين الظروف الاقتصادية العالمية الرهيبة في ثلاثينيات القرن العشرين وبداية الحرب العالمية الثانية في نهاية المطاف. في أربعينيات القرن الفائت، لاحظ وزير الخارجية الأميركي خلال أغلب فترة الحرب العالمية الثانية، كورديل هال (Cordell Hull)، أنَّ “القضاءَ على الاستياءِ الاقتصادي الذي يُولِّد ويُغذّي الحرب” هو السبيل الوحيد للحصول على “فرصةٍ معقولةٍ للسلام الدائم”.

لكن ما زالَ من المُمكنِ تجنُّب أسوأ النتائج وتحقيق “الهبوط الناعم” الاقتصادي. في نهايةِ المطاف، يُخفّضُ بنك الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة في كثيرٍ من الأحيان لهذا السبب. وبصرفِ النظرِ عن الكيفية التي ستنتهي بها الحال الاقتصادية في النهاية، فإنَّ الظروف الحالية تُثبِتُ بوضوح النفوذَ الكبير الذي يتمتّعُ به بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي على تشغيل الاقتصاد العالمي، وبالتالي النظام السياسي الدولي. وفي حين أنَّ مسؤولية سياسةَ بنك الاحتياطي الفيدرالي تقعُ من الناحية التقنية في أيدي لجنة، وليس فردًا واحدًا، فإنَّ رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي يلعب دورًا رئيسًا في تحديدِ الاتجاه السياسي الذي تَتَّخذه هذه اللجنة. وهذه هي القوة الحقيقية، والقوة التي لا يستطيع العديد من زعماء العالم إلّا أن يحلموا بها وبممارستها.

غابريال طبراني، كاتب وصحافي لبناني مقيم في لندن

غبريال طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب”. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه: gabrielgtabarani.com أو عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى