
إعداد :د. عوض سليمية و د.أماني القرم
المقدمة
تمكن الرئيس دونالد ترامب من الفوز بكرسي الحكم في الولايات المتحدة مرة أخرى بعد حملة انتخابية شرسة استطاع فيها هزيمة منافسته الديمقراطية كامالا هاريس/ نائبة الرئيس جو بايدن، مدعوماً بجمهور عريض يشمل: القاعدة الحزبية للجمهوريين ونواته تجمع Make America Great Again/ MAGA” “ مع تكتل رجال الأعمال والاثرياء، والمجتمع المسيحي الصهيوني في الولايات المتحدة. تزامن هذا الانتصار الساحق لترامب مع فوز للجمهوريين بمقاعد مجلسي النواب والشيوخ، ليحقق الحزب الجمهوري اكتساحه للسلطة ويسيطر على الحكومة الأمريكية.
في سياق هذا المشهد، تعددت التنبؤات حول ماهية سياسة ترامب الخارجية تجاه القضية الفلسطينية في ظل الحرب الإسرائيلية على غزة والتغيرات الدراماتيكية التي تعصف بالمنطقة، خاصة مع اطلاقه عددا من التصريحات المثيرة للجدل والغير متوقعة – كعادته، حول توجهاته إزاء المنطقة بشكل عام والصراع بشكل خاص، إضافة إلى جملة من التعيينات لأركان إدارته تعكس رؤية متطرفة تشير إلى مزيد من التماهي مع السياسة الإسرائيلية اليمينية، بعد ولايته الاولى في الحكم ( 2016-2020) والتي شهدت انعطافة تاريخية للسياسة الامريكية التقليدية تجاه القضية الفلسطينية.
يحاول الباحثان في هذه الورقة من خلال المفهوم العام لنظرية الرجل المجنون Madman Theory والاستفادة من السجالات التي أحاطت بهذه النظرية إلى، استكشاف مدى موائمتها لمواقف دونالد ترامب من مسألة الحرب على غزة بعد إطلاقه سيل من التصريحات النارية واكتشاف هل نجحت في التأثير على مسار الحرب؟ ومن ثمّ استشراف ماهية سياسته القادمة تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وذلك في إطار المحاور التالية:
أولاً: نظرية الرجل المجنون
ثانياً: النصر الكبير وتداعياته
ثالثاً: ترامب والحرب على غزة
رابعاً: ملامح سياسة ترامب المقبلة تجاه إسرائيل.
أولاً: نظرية الرجل المجنون/ Madman Theory
هي إحدى النظريات التي تتعلق بالسياسة الخارجية الامريكية وتندرج تحت إطار نظريات اللعبة، صاغها اثنان من استراتيجيي حقبة الحرب الباردة دانييل إلسبيرج في العام (1959) ، وتوماس شيلينج بين عامي 1960 و1966 . ارتبطت النظرية بالرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون (1969- 1974) ابان اشتداد الحرب الباردة والمفاوضات حول حرب فيتنام. تقوم النظرية على فرضية مفادها: النظر إلى المرء على أنه غير عقلاني، مما يمنحه ميزة في المساومة القسرية الدولية والمفاوضات، بمعنى اضطرار خصوم الولايات المتّحدة إلى الرضوخ للمطالب الامريكية عند التعامل حول قضية ما لاعتقادهم بأنّ الرئيس الأمريكي شخص ” متهور وخطير ولا يمكن توقّع تصرفاته”. استخدمها الرئيس نيكسون لاجبار الفيتناميين الشماليين على قبول التفاوض لانهاء حرب فيتنام (1955-1975) .
سعى نيكسون من خلال “استراتيجية المجنون” إلى إقناع القادة السوفييت والفيتناميين الشماليين بأنه إذا غضب يصل إلى النقطة التي قد يتخذ فيها أي اجراء لوقف الحرب بما فيه الاجراء النووي. وبدعم من مستشار الأمن القومي آنذاك هنري كيسنجر، وافق الرئيس ريتشارد نيكسون على عملية “الرمح العملاق” في العاشر من أكتوبر 1969 لتبدأ الاستعدادات لإرسال 18 قاذفة قنابل( B52 ) مجهزة بقنابل نووية نحو الأراضي السوفيتية. انطلقت هذه الطائرات في 27 من أكتوبر 1969 للقيام بجولات في ميحط مناطق القمم الجليدية القطبية على مقربة من الأراضي السوفيتية لتزيد بذلك من درجة الإنذار النووي لدى المسؤولين الروس .
يجادل العديد من علماء السياسة الامريكيين في مدى ملائمة النظرية لواقعية العلاقات الدولية، من ناحية، تجد هذه النظرية من يؤيدها بإعتبارها سياسة ناجعة، ويرى فريق آخر أنها محدودة التأثير ولايمكن استخدامها في كل الظروف. على سبيل المثال، ترى “روزان دبليو ماكمينوس” أستاذة العلوم السياسية والشؤون الدولية/ جامعة بنسلفانيا في مقالتها بعنوان ” إعادة النظر في نظرية الرجل المجنون” أن النظرية بينما تبتعد عن تشخيص الصحة العقلية للقائد، تشتمل على أربعة مستويات من الجنون المتصور للقائد والمرتبط بالمساومة القسرية في إطار بعدين رئيسيين: البعد الأول، هو ما إذا كان ينظر إلى القائد: على أنه يقوم بحسابات عقلانية، لكنه يعتمد على تفضيلات متطرفة، أو ينظر إليه على أنه ينحرف فعليا عن صنع القرار العقلاني القائم على العواقب.
والبعد الثاني، هو ما إذا كان ينظر إلى جنون القائد على أنه: ظرفي: أي يقتصر على ظروف معينة، أو تصرف: ينطبق على جميع الظروف والقضايا. طبقت “ماكمينوس” النظرية على عدد من سياسات القادة السياسيين في العالم من بينهم “صدام حسين” و”محمود احمد نجاد” و”كيم جون اونج” وغيرهم، حيث استعرضت كيف استطاعت سمعة كل منهم وتصوراته في التأثير على خيارات السياسة الامريكية تجاههم. بالنسبة للرئيس دونالد ترامب وتصريحاته المثيرة للجدل، وجدت ماكمينوس – التحليل كان في الولايه الاولى للرئيس ترامب، أن ترامب أثار موجة من التكهنات حول ما إذا كان قادرا على استخدام تصوره بأنه “غير عقلاني” لكسب النفوذ في المواجهات مع خصوم الولايات المتحدة، وتوصلت في دراستها الى أن الرئيس ترامب عليه الايحاء بأن جنونه “له حدود” أمام الدول المستعدة لتقديم تنازلات لأن استخدامات “استراتيجية المجنون” محددة بمعايير ظرفية حيث لا يمكن تطبيقها في جميع الحالات. بعبارة اخرى، ان التصور المعتمد لدى الرئيس ترامب لا يمكن ان يكون الوصفة السحرية في كل الظروف والقضايا الدولية.
فيما يعتقد مايكل رينولدز في مقاله “دونالد ترامب ونظرية الرجل المجنون للسياسة الخارجية” ، أن ترامب تبنى نظرية الرجل المجنون، وأن مؤيديه مقتنعين بأن طبيعته غير المتوقعة والمحفوفة بالمخاطر هي التي أدت إلى بعض أكبر نجاحاته في السياسة الخارجية، بينما يجادل منتقديه بأنه خطير ولا يمكن التنبؤ بأفعاله. لكن مع ذلك فالظهور بمظهر المجنون يوفر مزايا محدودة في المفاوضات، بل إنه في الواقع يؤدي إلى تآكل مصداقية الزعيم وتقويض مصالح السياسة الخارجية لبلاده في الأمد البعيد. حيث لم تنجح هذه الاستراتيجية مع ايران ولم تردع طموحاتها النووية. ويمكن القول ان سياساته الخارجية كانت متهورة، وان نظرية الرجل المجنون ليست استراتيجية بل مجرد نظرية حمقاء.
توافق إليزابيث سوندرز على أن ترامب يعتنق نظرية الرجل المجنون حيث يناسبه أسلوب عدم اليقين والقيام بالامور بطريقة مختلفة في سياسته الخارجية، حيث يعتقد أن التصرف بشكل غير متوقع هو وسيلة جيدة لإطلاق تهديدات ذات مصداقية وإجبار الخصوم على التراجع في المواجهات. وحسب سوندرز فإنه خلال الاربع سنوات المقبلة سيستمر ترامب بمتابعة أهداف السياسة الخارجية بما يتماشى مع معتقداته الراسخة، لكن هذا الرجل الذي أحب فكرة ابقاء الدول الأخرى في حيرة أصبح يمكن توقع تصرفاته ولو قليلا هذه المرة .
ثانياً: النصر الكبير وتداعياته
شكلت نتائج الانتخابات الامريكية التي جرت يوم 5 نوفمبر 2024، صدمة كبيرة في أوساط المراقبين السياسيين وقادة الحزب الديموقراطي، وذلك للفوز الساحق الذي حقّقه الرئيس السابق والمرشح الجمهوري دونالد ترامب على منافسته الديمقراطية نائبة الرئيس جوبايدن/ كامالا هاريس، فقد حصل على اصوات 312 مندوباً في المجمع الانتخابي ((Electoral College البالغ عدده 538 مندوباً، مقابل 226 لهاريس، الامر الذي منحه تذكرة عبور لتسلم مفاتيح البيت الأبيض يوم 20 يناير 2025 بكل سلاسة. بالتوازي، حصل الحزب الجمهوري على اغلبية في مجلس الشيوخ (53 مقعداً من مجموع المائة مقعد في المجلس، كما استطاعوا انتزاع 220 مقعداً من مقاعد مجلس النواب البالغ عددها 435 مقعداً. بالإضافة إلى ذلك، افرزت صناديق الانتخابات مفاجأة رابعة لصالح الجمهوريين بعد فوز مرشحي الحزب أيضاً بــ 27 منصباً لحكام الولايات مقابل 23 لمرشحي الحزب الديموقراطي .
هذا النصر الكبير للحزب الجمهوري ومرشحيه مكنهم من السيطرة على أركان الحكم والتحكم بشكل كامل على المؤسسات التشريعية والتنفيذية في الولايات المتحدة. يقول ترامب في خطاب النصر: ” لقد منحتنا أمريكا تفويضًا قويًا غير مسبوق» . في الواقع، كانت النتائج المذهلة التي حققها الحزب الجمهوري قد منحت ترامب شبكة امان متينة للشروع في بناء إدارته الجديدة وفق معاييره، وسن السياسات التي وعد بها لخلق العصر الذهبي الجديد للولايات المتحدة من وجهة نظر، كما أن عودة مجلس الشيوخ بعد اربع سنوات من سيطرة الديمقراطيين من المؤكد أنها ستتيح له تمرير أجندته بشكل فعال دون الكثير من المعارضة، اولاها الموافقة على جميع قراراته الاولى بشأن تعيينات ادارته المثيرة للجدل، خاصة تلك التي تتعلق بالشرق الأوسط عامة والقضية الفلسطينية بشكل خاص.
ان النصر الكبير الذي حققه ترامب وحزبه الجمهوري والذي يدين كل عضو كونجرس فيه بالولاء لترامب بإعتباره سببا في نجاحه، هذا النصر زاد من الاعتزاز المرتبطة بالذات الى مستوى “النرجسية” لدى ترامب ومن ثقته بأنه القاضي الافضل الذي يمتلك النهج السياسي الغير متوقع والأكثر نجاعة في العلاقات الدولية. لقد تعززت القناعة لدى ترامب بأن السياسة الخارجية الامريكية تحتاج إلى تغييرات جوهرية، من وجهة نظره، ان سنوات سلفه جو بايدن في الحكم جعلت الحلفاء يعاملون الولايات المتحدة بشكل سيء للغاية، بل انهم يعاملوهم حسب زعمه بشكل أسوأ من أعدائهم المزعومين. إن النصر الذي حققه الجمهوريون في الكونجرس يعطي ترامب هذه الأفضلية في تمرير معظم سياساته الخارجية دون إعاقة من مجلس الشيوخ وتنفيذ أجندته، بحسب قواعد الديمقراطية الأميركية. بالاضافة الى ذلك، يمنح النصر الكبير لترامب قوة مضاعفة أمام معسكري الدول الحلفاء والأعداء على السواء.
في كتابه المعنون “The Art of The Deal ” أو فن الصفقة الصادر عام 1987، كشف ترامب في هذا الكتاب عن فلسفته في إدارة الأعمال وكيفية كسب الصفقات. ويشير في هذا الكتاب الى نهجه وسلوكه في التفاوض من اجل الربح، جوهر هذا النهج هو، إيجاد حالة من عدم التوازن واللايقين لدى الخصم، بحيث يصعب على الخصم التنبؤ بالخطوة المقبلة، كما ان رفع سقف المطالب لضمان تحقيق اكبر قدر من المكاسب هي الركيزة الثانية التي يكشف عنها ترامب في كتابه، ما يهمه في النهاية هو الوصول لتوقيع صفقة تحقق مصالح الطرفين من وجهة نظره . ضمن هذه الرؤية، يمكننا الجزم بأن شخصية رجل الصفقات تختلف جذرياً عن شخصية السياسي الأمريكي التقليدي، وبهذه الصفات التي يمتلكها من حيث التعبير عن أفكاره وقراراته بطريقة غير متوقعة ومتعمدة، ليوقع خصمه في الحيرة. مثلُ هذه الشخصية المغامرة حازت على هذا النصر الكاسح، سيكون لها تأثير كبير على السياسة العالمية في الاربع سنوات القادمة ولا شك الشرق الأوسط والصراع الفلسطيني الإسرائيلي في مركز هذه السياسة.
ثالثاً: ترامب والحرب الإسرائيلية على غزة
أدان المرشح الجمهوري ترامب هجمات السابع من أكتوبر ووصفها بأنها “أحد أكثر الأيام حزناً التي شهدها في حياته، وهي أيام حالكة بالنسبة لاسرائيل” ، وأعلن عن دعمه الكامل لإسرائيل في سياستها تجاه الهجمات وفي حربها على غزة. في لقاء مع صحيفة “إسرائيل هيوم” قال ” أنه كان سيتصرف بنفس الطريقة التي تصرفت بها إسرائيل بعد هجوم السابع من أكتوبر، مضيفاً بأن “إسرائيل فقدت الدعم الدولي ويجب أن تنهي حربها في غزة” . ووجه مباشرة كلامه إلى نتنياهو قائلا “عليك أن تنهي حربك. عليك أن تنهيها” . كما هو معتاد، فإن ترامب لا يقدم مزيداً من التفاصيل. على الرغم من أن تصريحاته تعكس رؤيته بشأن الاتجاه الذي ينبغي أن تسلكه إسرائيل، وهو إنهاء الحرب، إلا أنه لم يتطرق إلى الثمن أو الطريقة التي يمكن من خلالها إنهاء هذه الحرب. كما لم يقدم أفكاراً أو مقترحات حول كيفية التعامل مع مفاوضات الرهائن، وتجاهل معاناة المدنيين الفلسطينيين في غزة.
في ذروة الحملة الانتخابية الرئاسية وبمناسبة الذكرى السنوية الاولى لأحداث 7 اكتوبر، ألقى ترامب خطابا بدا فيه أكثر واقعية وتحديدا لسياسته تجاه إسرائيل ولمسار الحرب، قدم نفسه باعتباره المدافع الأقوى والأكثر صراحة عن إسرائيل، فقد استغل الحدث لمهاجمة خصمه إدارة بايدن/ هاريس، وإلقاء اللوم على ضعف الإدارة الامر الذي تسبب في هذا الهجوم. وعاد من جديد الى لغة التهديد، محذراً بأنه لن يسمح بتهديد الدولة اليهودية بالدمار، أو حدوث محرقة أخرى للشعب اليهودي، وتعهد بدعم حق إسرائيل في الفوز في حربها، ومؤكدا أن ” فجر شرق أوسط جديد أكثر انسجاماً أصبح في متناول أيدينا أخيراً”.
تجدر الاشارة الى أنه وبعد عدة أشهر من بدء العدوان على قطاع غزة ظهرت محاولات أمريكية وإقليمية لاطلاق مبادرة هادفة الى صياغة تهدئة تفضي الى صفقة تبادل الأسرى، من خلال هدنة بين الطرفين. إنسجاماً مع هذه الاعلانات، أطلق الرئيس بايدن مبادرة في أواخر إبريل 2024 لوقف اطلاق النار. لكن جميع المحاولات الدبلوماسية الأمريكية باءت بالفشل بسبب تعنت حكومة اليمين المتطرف في اسرائيل وعدم رغبتها في وقف الحرب مع غياب ضغط أمريكي حقيقي. الأمر الذي أدى إلى تدهور سمعة الولايات المتحدة عالمياً، وتراجع شعبية الرئيس بايدن الذي بدا ضعيفا وانعكس ذلك على سياسته التي ظهرت رمادية تفتقر إلى ملامح القوة العظمى الاولى في العالم، هذا الواقع، شكل مدخلاً واسعاً لهجوم شديد من المرشح الرئاسي ترامب، وساهم من بين امور اخرى، لفوزه في سباق الانتخابات الرئاسية على منافسته المرشحة الديموقراطية كاملا هاريس.
الجحيم للشرق الأوسط
منذ اكتساحه في الانتخابات ونصره الكبير الذي منحه تفويضاً مريحاً من الشعب الأمريكي وساهم في مضاعفة الشعور الداخلي لديه بأنه الأفضل لقيادة الولايات المتحدة، أطلق ترامب سيلاً التهديدات تجاه عددا من القضايا العالمية طالت الحلفاء والأعداء، وبدا وكأنه ينذر العالم بما هو قادم اذا لم يتم تنفيذ رؤيته، هذه التهديدات وصلت سريعاً الى بريد المعنيين وتركتهم في حالة من الحيرة والترقب. من ناحية، توعد بضم كندا وجعلها الولاية (51) والسيطرة على قناة بنما وإحتلال جزيرة غرينلاند واصفا هذا الأمر بالفكرة العظيمة وبأنه يعزز الأمن القومي والاقتصاد الأمريكي . ورغم أن هذه التصريحات أثارت تساؤلات حول مدى جديته في هذه المُطالبات، إلا أنه بعد تكرارها وعدم استبعاده أي من الأدوات لتحقيق هذا الأمر، بدأت هذه التصريحات تثير فعليا المخاوف حول ما اذا كانت طموحات توسعية غير مسبوقة، أو أنها مجرد أدوات تفاوضية لتحقيق مكاسب جديدة بدون تكاليف، وكليهما يعززان مبدأ إعتناق ترامب لاستراتيجية “الرجل المجنون”.
الموقف الترامبي من الحرب الإسرائيلية على غزة، وتصريحاته الاخيرة خلال مفاوضات وقف اطلاق النار، هي من احدث الاصدارات السياسية التي تعزز استراتيجية المجنون لدى ترامب. والتي تتناقض كلياً مع مواقفه المعلنة والمتعلقة بإحلال السلام في العالم بما فيه منطقة الشرق الاوسط خلال حملته الانتخابية لكسب اصوات الناخبين العرب والمسسلمين الغاضبين من سياسات ترامب وإدارته المنحازة لاسرائيل. في ديسمبر 2024 أطلق تهديداً مفاجئاً من منتجعه مار إيه لاغو بولاية فلوريدا بتحويل الشرق الأوسط إلى جحيم قائلا: “إذا لم يتم إطلاق سراح الرهائن قبل 20 يناير 2025، وهو التاريخ الذي أتولى فيه بفخر منصبي كرئيس للولايات المتحدة، فسيكون هناك جحيما سيدفع الشرق الأوسط ثمنه الباهظ” . كرر ترامب تهديده مرة اخرى بأن “الجحيم سوف ينشب في الشرق الأوسط إذا لم تطلق حماس سراح الرهائن الإسرائيليين الذين تم أسرهم خلال هجمات 7 أكتوبر. هذا يعني ببساطه ان ما تحدث به الرجل في المرة الاولى لم يكن زلة لسان او حالة ظرفية في لحظة ما، بل انه يتعمد تعميم هذا التهديد مستدعياً الرجل المجنون بكل اركانها.
أثارت تصريحات ترامب النارية جدلاً واسعاً وحالة غير مسبوقة من الحيرة بين السياسيين والمراقبين، متسائلين عما يعنيه بكلمة “الجحيم” وسارع المحللون والمفكرون إلى محاولة تفسير المقصود بهذا المصطلح وحدوده المحتملة، لا سيما أن ترامب اختار التوقف عند تلك الكلمة دون تقديم أي توضيحات إضافية.
من ناحية، أخذت حماس هذا التصريح الصادر عن اقوى رجل في العالم على محمل الجد. فالجحيم الذي ينتظرها يمكن ان يكون قائمة لا حصر لها، بما فيها عقوبات اقتصادية على افرادها ومؤسساتها وجمعياتها وكل ما يتصل بها بشكل مباشر وغير مباشر. ويمكن ان يكون ملاحقة لجميع عناصرها وقياداتها في الخارج قانونيا في جميع الدول وتعرضهم للاعتقال والمحاكمة كونهم احتجزوا أمريكيين، وأيضا يمكن ان يشمل الجحيم تعرضهم للاغتيال في أية لحظة ورفع كل اشكال الحصانة عنهم في أي مكان. هذه القائمة الطويلة من الاجراءات المتوقعة خضعت للتحليل والنقاش وإبداء الرأي من معظم المحللين والنخب السياسية بإستثناء ترامب نفسه.
المفارقة أنه بعد أكثر من 471 يوماً من حرب الإبادة على قطاع غزة ورفض نتنياهو لجميع مبادرات وقف الحرب بما فيها قرار مجلس الامن والجمعية العامة للامم المتحدة ورغم الجهود الأمريكية العلنية لإدارة بايدن، تم الإعلان عن التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار في 19 يناير 2025 وهو اليوم الاخير الذي يسبق تاريخ تنصيب ترامب لرئاسة الولايات المتحدة. من وجهة نظر العديد من المراقبين، فإن إعلان وقف إطلاق النار كان نتاجاً لسياسات الترغيب والترهيب التي مارسها ترامب على الطرفين وخاصة الطرف الإسرائيلي المتحكم والمتعنت في توقيع الاتفاق. هذا الموقف يعكس نجاحاً هاماً لاستراتيجية الرجل المجنون في “هذه الحالة وضمن هذه الظروف”. ترامب ارسل مبعوثه “ستيف ويتكوف” إلى نتنياهو برسالة واضحة ومباشرة قائلا: “لطالما كان الرئيس ترامب صديقا عظيما لإسرائيل، حان الوقت لتبادل الصداقة”.
أراد ترامب بإطلاق هذه التهديدات تذكير العالم أجمع بأنه صاحب السلطة الوحيدة القادر على تحقيق النجاحات حيث فشل غيره “وهنا بايدن” وهو الذي لا يمكن التنبؤ بتصرفاته لمصالح أميركا كما يراها، ولن يتردد في حمايتها وتعزيزها بعيداً عن بروتوكلات ومناهج المدارس الكلاسيكية للسياسة أو الأعراف التقليدية أو الذوق الدبلوماسي.
رابعاً: ملامح سياسة ترامب تجاه إسرائيل في الفترة المقبلة
لم يكن فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية ليأتي في وقت أفضل من هذا بالنسبة لرئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو. فبعد أكثر من 13 شهرا من هجمات السابع من أكتوبر، تجد إسرائيل نفسها في حالة من النشوة . عودة ترامب إلى الحكم أوجدت حالة من الارتياح الكبير في أوساط قادة اليمين المتطرف. بالنظر للعلاقات الوطيدة التي جمعت نتنياهو وترامب خلال الفترة الرئاسية الاولى. سريعاً رحب نتنياهو بإعادة انتخاب صديقه المقرب، واصفًا إياها بأنها «أعظم عودة في التاريخ»، بالمثل، قام وزيرا ائتلافه اليميني المتطرف، سموتريش وبن جفير، بنشر تغريدات تعبر عن ابتهاجهما بعودة ترامب .
في إطار محاولتنا التنبؤ بمسارات سياسة ترامب القادمة في الشرق الأوسط، فإن الدلائل الاولى التي تظهر توجهات سياسته المقبلة إزاء إسرائيل يمكن العثور عليها في أركان إدارته الجديدة، وهم مجموعة من المتشددين المؤيدين لإسرائيل. على سبيل المثال: اختار مايك هاكابي سفيرا للولايات المتحدة في إسرائيل، وهو مسيحي إنجيلي من أشد المؤيدين لخطة الضم، بل انه لايعترف بتعبير الضفة الغربية ويطلق عليها “يهودا والسامرة”. يقول هاكابي في إحد تصريحاته، “لا يوجد حقًا شيء اسمه فلسطيني”، ووصف حل الدولتين بأنه “غير عقلاني وغير قابل للتطبيق . اليس ستيفانيك مبعوثة ترامب في الامم المتحدة، وستيفانك هي النائب المدافعة باستماتة عن سياسات ترامب في مجلس النواب الأمريكي، والداعمة لجهود منع تمويل الاونروا باعتبارها معقل لمعاداة السامية، وهي التي قادت جلسة استجواب لثلاثة من رؤساء الجامعات المرموقة التي شهدت مظاهرات منددة بإسرائيل. مارك روبيو وزيرا للخارجية وهو مدافع بشدة عن سياسات إسرائيل في قطاع غزة ويهاجم محكمة الجنايات الدولية ويشكك في مصداقيتها، واستبعد مشروع حل الدولتين تحت مبررات ان الظروف لا تسمح بذلك .
من خلال استعراض هذه المجموعة من الصقور والمتشددين المحيطين بترامب والذين يدينون له بالولاء التام، مع طبيعة علاقته بأركان الحكم في إسرائيل، وإرثه السياسي السابق من ولايته الاولى، وهداياه المجانية لنتنياهو والتي احدثت انعطافة تاريخية في السياسة الامريكية تجاه إسرائيل، تزداد المؤشرات لفهم سياسته القادمة تجاه إسرائيل وضوحاً. مع استدعاء كتاب، مشروع 2025: “تفويض القيادة، وعد المحافظين” والذي تشتمل بعض بنوده على:
الحفاظ على الدعم الكامل لإسرائيل (ص:94).
ضمان حصول إسرائيل على الوسائل العسكرية والدعم السياسي والمرونة اللازمة لاتخاذ ما تراه تدابير مناسبة للدفاع عن نفسها (ص:185).
بناء تحالف أمني في الشرق الأوسط يضم إسرائيل ومصر ودول الخليج وربما الهند.
استئناف التطبيع مع دول المنطقة وخاصة العربية السعودية.
إقامة علاقات تنمية ثنائية بين اسرائيل وكل من اليابان والكويت وقطر والإمارات العربية المتحدة وتايوان لدعم المشاريع في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وآسيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط (ص:256).
إستخدام المساعدات الامريكية الخارجية للعمل على تعزيز اتفاقيات إبراهيم. عبر زيادة التجارة والاستثمار بين إسرائيل وجيرانها العرب، بإعتبارها المسار الأكثر فعالية نحو تعزيز السلام (ص:174). من ناحية اخرى، وفيما يتعلق بالشأن الفلسطيني وردت التوصية بضرورة وقف التمويل عن السلطة الوطنية الفلسطينية (ص: 185).
الاشارات المتتابعة تسلط مزيداً من الضوء في نفق السياسة المتوقعة لترامب، يرى ستيفن كوك أنه من المرجح أن تظل الأمور على حالها في الغالب بين الحليفين الاستراتيجيين حيث سيستمر ترامب في تقديم الدعم الكامل لإسرائيل، ومن المرجح أن يبحث فريق ترامب عن طرق لتطبيع العلاقة بين السعودية وإسرائيل . وفي إطار الصراع، ستُحدث إدارة ترامب انعطافة في السياسة الامريكية برأي نبيل خوري ومتوقع ان تنهي مبدأ الأرض مقابل السلام، الذي وضعه الرؤساء الامريكيون السابقون اساساً للسلام، منذ صدور قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 242 في نهاية الحرب العربية الإسرائيلية عام 1967، وتجاوز كل الاتفاقيات بما فيها ايضاً اتفاقيات اوسلو التي أُعلن عنها في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 .
بينما يرى هاس، أن سياسة ترامب إزاء إسرائيل متوقع ان تسير بالاتجاهات التالية : (1) المزيد من الدعم لإسرائيل على الساحة العالمية، واختياره للسفيرة اليز ستيفانيك لدى الأمم المتحدة، اكبر دليل على ذلك (2) غياب الانتقادات الموجهة لاسرائيل بالمقارنة بحقبة الرئيس بايدن، ومن غير المرجح ايضاً ان يوقف ترامب شحنات الأسلحة إلى إسرائيل أو يربط المساعدات باتخاذ إسرائيل إجراءات للحد من قتل المدنيين. (3) المزيد من الضغوط على خصومها. وفيما يتعلق بإيران، سيعمل ترامب على إحياء السياسات الرئيسية لولايته الأولى. وسوف يعيد فرض سياسته “الضغط الأقصى” من خلال فرض عقوبات أشد صرامة واتخاذ خطوات لمنع مبيعات النفط الإيرانية على أمل الضغط على طهران للتخلي عن أنشطتها “الراعية للإرهاب” ومساعيها النووية. (4) تتوقع إسرائيل المزيد من “صنع السلام”/ التطبيع. ومن المؤكد أن ترامب سيسعى إلى استئناف العمل الغير منجز في اتفاقيات إبراهيم ، والتي جلبت “السلام” (بدرجات متفاوتة) بين إسرائيل والبحرين والمغرب والإمارات العربية المتحدة والسودان.
العلامات الاولى للتغيير لم تكن قادمة من ترامب فقط، ويمكن رصدها ايضاً بين صفوف اعضاء الكونجرس الجديد. سريعاً قام مجلس النواب الأمريكي الجديد بالتصويت على مشروع قرار في اولى جلساته يوم 9 يناير 2025 بمعاقبة المحكمة الجنائية الدولية، احتجاجاً على مذكرات توقيف رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو ووزير دفاعه السابق يواف جالانت. كانت نتيجة التصويت “243 مقابل 140 لصالح قانون الإجراءات المضادة غير الشرعية للمحكمة”، الذي من شأنه أن يعاقب أي أجنبي يحقق أو يعتقل أو يحتجز أو يحاكم المواطنين الأمريكيين أو أي مواطني دولة حليفة للولايات المتحدة . كانت المحكمة الجنائية الدولية قد اصدرت أوامر اعتقال في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 بحق نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة .
عند النظر في سياسات ترامب خلال فترة رئاسته الاولى، نجد ان ترامب خاطر بإتخاذ عدة خطوات سياسية مخالفة لكل القوانين والاعراف الدولية لدعم إسرائيل. في عام 2017، اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وعكس عقودًا من السياسة الأمريكية والرأي الدولي بشأن هذه المسألة. كما اعترف بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان المحتلة، التي تسيطر عليها اسرائيل من حرب عام 1967 وضمتها بشكل غير قانوني في عام 1981 . تنظر إسرائيل لإدارة ترامب باعتبارها الفرصة المثالية في ظل التغيرات الدراماتيكية التي حصلت في الشرق الأوسط، للانتقال السريع إلى الفصل الثاني من الصفقات الهادفة لتصفية القضية الفلسطينية. إن القضية الاكثر الحاحاً التي تواجه ترامب الان هي الحرب على غزة ومفاوضات التبادل، وليس من الواضح ان رؤية نتنياهو لابقاء الجيش الاسرائيلي داخل قطاع غزة قد تناسب ترامب .
ولهذا يرى البعض ان احتمال تصادم بين ترامب ونتنياهو قد يكون من المتوقع حدوثه إذا تصادم مشروع نتنياهو مع مشروع ترامب المتمثل في إنجاز الصفقة الكبرى وهي التطبيع بين إسرائيل والسعودية. وعلى الرغم من أن نتنياهو يتطلع من خلال التجاوب مع ضغوطات ترامب وعدم إغضابه، ان يفوز بصفقة ترامب الكبرى، إلا أن العربية السعودية التي ترفض حتى الان المطلب الامريكي دون الشروع في تسوية عادلة ودائمة للقضية الفلسطينية، بينما لا يظهر نتنياهو تجاوباً مع هذا المطلب.
النقاش
تثير نظرية “الرجل المجنون” ببعديها مزيداً من النقاش حول سياسة ترامب المرتقبة تجاه الصراع الاسرائيلي الفلسطيني خلال الفترة الرئاسية القادمة. واذا أخذنا بعين الاعتبار الفترة الرئاسية الاولى لترامب والتي اتسمت بالانحياز الكامل لاسرائيل، واعلانه صفقة القرن من جانب واحد فإن الرئيس ترامب يُنظر إليه باعتباره القائد الذي يقوم بحسابات عقلانية ولكن بناءً على تفضيلات متطرفة، وإن هذا الجنون الظرفي يتم تأسيسه على ظروف أو مجالات أو قضايا معينة، وهنا يمكن أن تكون مصلحة إسرائيل أو مصلحة الولايات المتحدة أو كليهما معاً. على سبيل المثال: قرار إعلان صفقة القرن إبان ولايته الأولى يراه ترامب حل عقلاني للصراع، لكنه في الواقع كان وصفة قائمة على مجازفة خطيرة غير محسوبة العواقب وبناء على حسابات المطور العقاري ترامب الذي ينظر للأمور من عدسة الصفقات والمساومة وحساباته الخاصة دون أدنى مراعاة لمصالح الأطراف الاخرى بمن فيهم الفلسطينيون وحتى الشركاء التقليديون لواشنطن في المنطقة. أيضاً أنتجت هذه السياسة مزيداً من التعقيدات وفتحت الأبواب نحو الكوارث، وعمقت الفجوات بين الأطراف وقوّضت الجهود الهادفة للوصول إلى حل عادل ودائم وشامل للقضية الفلسطينية.
على الرغم من الرواية المألوفة في حقل السياسة والعلاقات الدولية بان ترامب وسياساته لا يمكن التنبؤ بها بشكل دقيق بالنظر لحساباته الخاصة في إتخاذ القرارات وتباين تفضيلاته، الا أن المؤشرات بدأت تتضح من خلال التعيينات الجديدة لأعضاء الإدارة القادمة من الصقور والمتشددين من السياسيين والمستشارين الذين يدينون بالولاء التام لترامب.
بالاضافة الى تصريحاته النارية. حيث تشير بوضوح الى أن ملامح سياسة ترامب القادمة لن تكون مختلفة بل نحو الاسوأ، وأن السنوات القادمة على القضية الفلسطينية لن تحظى بالسلام المنشود بالنظر للوعود وضمانات إستمرار الدعم غير المشروط واللامحدود دبلوماسيا وعسكريا لاسرائيل. الخطير في الوضع القائم الان، أن تغيرات دراماتيكية طرأت على الشرق الاوسط بعد الحرب الإسرائيلية على غزة 2023 أبرزها: تراجع قوة ما يعرف بأذرع ايران وتراجع القوة والنفوذ لطهران نفسها التي تراها اسرائيل “رأس الاخطبوط”، نتيجة لسقوط نظام الاسد في سوريا الذي كان بمثابة حلقة الوصل بين ايران ولبنان، تراجع قوة حزب الله الى “ظل قوة عسكرية” بعد جملة من الاختراقات والاغتيالات الإسرائيلية لقادته من الصف الاول والثاني. ضمن هذا السياق، عادت إسرائيل كقوة اقليمية في المنطقة وبدأت عقيدة الردع الاسرائيلي تعود من جديد بفعل الدعم والسلاح الأمريكي.
من ناحية أخرى، يمتلك الرئيس ترامب الحائز على مفاتيح البيت الابيض قناعات راسخة ورؤية محددة تجاه النظام العالمي، أهم مرتكزاتها القوة وعدم فاعلية المؤسسات الدولية، فضلا عن الشعور العام بأنه صاحب السلطة المطلقة في تقديم الحلول. هذه التركيبة يمكن أن تقود الى تراجع في مسألة حل القضية الفلسطينية وإن حدثت فهي لن تصل الى الحد الأدنى من المطالب الفلسطينية، بل ستبدو أقرب الصفقات الرابحة التي تعلو فيها المصالح والمطالب الاسرائيلية، جوهر هذه الصفقة سيكون منح إسرائيل الجائزة الكبرى التي تنتظرها، وهي إستئناف سياسة التطبيع مع الدول العربية والاسلامية، بما فيها تطبيع العلاقات مع العربية السعودية وربما النظام الجديد في سوريا، دون إعتراف صريح او وثيقة مكتوبة من حكومة نتنياهو – في حال بقائها في الحكم، بالالتزام الموثوق بعدم إجهاض قيام الدولة الفلسطينية، عبر إدخال عبارات فضفاضة “مسار موثوق” ودون تحديد ماهية هذا المسار واين يبدأ ومتى ينتهي. وهو بذلك ينهي جميع الاتفاقيات السابقة، ويتجاوز قرارات الجمعية العامة للامم المتحدة وقرارات مجلس الامن الدولي والقانون الدولي ذات العلاقة بالقضية الفلسطينية.
الخلاصة
خلصت هذه الورقة الى مجموعة من النتائج
يعتبر ترامب شخصية سياسية من نوع فريد لا يشبه الرؤساء الأمريكيين التقليدين ولا ينتمي الى أي من المدارس السياسية الكلاسيكية المعاصرة. ولأن الرئيس الأمريكي هو صانع قرار السياسة الخارجية وعقيدته وقناعاته هي العدسة التي تفسر رؤيته للاحداث الخارجية، وبالتالي تنعكس على اختياراته وقراراته تجاه حدث معين، فإن ترامب باختلافه والنصر الثلاثي الكبير الذي حققه هو وحزبه في الانتخابات الرئاسية والتشريعية ضاعف من قوته وغروره واعتبره تفويضاً من الشعب للبدء بالحكم قبل تنصيبه رسمياً. أضف الى ذلك ضعف ادارة الرئيس بايدن للملفات الشائكة التي انتجتها سياساتها الخاطئة.
يعتنق ترامب نظرية الرجل المجنون (Madman Theory) في السياسة الخارجية واستخدمها بنجاح في إطلاق تهديدات غير مسبوقة على غرار ( الجحيم القادم في الشرق الاوسط) للضغط على كل من نتنياهو وحماس للشروع الفوري في اتفاق وقف اطلاق النار. دون ان يوضح ما هي تبعات عرقلة أي طرف لمسار المفاوضات. إنما خلق حالة من عدم التوازن واللايقين سواء لدى الخصم أو الحليف، جعلته يصعب عليهم التنبؤ بالخطوة المقبلة لضمان تحقيق اكبر قدر من المكاسب. نجحت هذه الاستراتيجية (استراتيجية المجنون) هذه المرة، لكن تبقى هناك محاذير عند استعمالها مرة أخرى بسبب عوامل تتعلق بسوء تقديرات لدى الخصم حول الرد المتوقع، وأحيانا عدم الاستجابة تحت التهديد سيلحق فشلاً بسياسات ترامب.
سيواصل ترامب سياسات واشنطن الداعمة لاسرائيل، على كافة المستويات الاقليمية والدولية. بما فيها الحماية من المحكمة الجنائية الدولية، وإعادة إنتاج مسار التطبيع العربي الاسرائيلي دون حل عادل ودائم وشامل للقضية الفلسطينية. وفي غياب اوراق الضغط العربي والاسلامي على مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، سيحصل ترامب على مزيد من المساحة نحو الاستمرار في إنكار حق الشعب الفلسطيني في الوجود وإنهاء خيار حل الدولتين او وضعه في المقعد الخلفي للسياسة القادمة، إلى جانب ذلك، وكنتيجة طبيعية لضعف المواقف الرسمية سوف تستمر واشنطن في تجاهل مصالح الدول العربية والاسلامية، بما فيها تلك الحليفة لواشنطن.
الثابت الوحيد ان العلاقة بين الولايات المتحدة واسرائيل بإعتبارها “اصل استراتيجي”، لا تتغير مع تغير ساكن البيت الابيض. لكن المخاطر تكمن أن يتحول الدعم الأمريكي القادم لاسرائيل في ظل ادارة ترامب من فكرة الالتزام بأمن إسرائيل والدفاع عنها، الى دعم مشروعها الصهيوني اليميني المتمثل في فكرة إسرائيل الكبرى. وهذا يمكن رصده في تصريحات ترامب التي اشار فيها الى ان “مساحة اسرائيل صغيرة ولطالما فكر كيف يمكن توسيعها”.
من عدسة نظرية “الرجل المجنون” وما ينطوي عليها من تهديدات، يعتقد الرئيس ترامب ان نجاح مشروعه التطبيعي او ما يسمى “السلام الابراهيمي” القائم على قواعد الصفقات وفرض السلام من خلال القوة، دون حل عادل ودائم وشامل للقضية الفلسطينية في المنطقة سوف يحقق السلام المنشود او على الاقل قبول اسرائيل في محيطها العربي كدولة طبيعية، وهو يتطلع عبر هذا الإنجاز -من وجهة نظره، حيث فشل الاخرون الى تخليد إرثه السياسي وربما المطالبة بالحصول على جائزة نوبل للسلام.