مما لا شك فيه ان الوداع الذي يحرص البريطانيون على إحاطة ملكتهم الراحلة اليزابيت الثانية به، يعبّر عن حنين لدى هذا الشعب الذي يشعر انه عامًا بعد عام يخسر موقعًا متميزًا له في العالم على مدى قرون متعددة.
ونستطيع أن نقول ان الملكة اليزابيت قد شهدت ذلك الأفول للإمبراطورية التي كانت الشمس لا تغيب عنها ،منذ توليها العرش قبل سبعين عامًا الى الآن، فمنذ بداية الخمسينات بدأت الشمس تغرب عن هذه الإمبراطورية وكان ذلك بشكل خاص بعد تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر الذي قادته لندن والتي فشلت في تحقيق أهدافه .
دون شك، ان تطلّع الكثير من البريطانيين الى تلك العهود الغابرة التي كانت هذه الجزيرة الصغيرة تحكم العالم الى حد كبير، هو الذي يفسر هذا الحنين الى تلك المرحلة، ولكن هذا الحنين لا يغيّر من الامر شيئًا، وكلنا يدرك ان الملكة في بريطانيا ليس حاكمًا ، وان الحاكم في تلك البلاد ليس ملكًا لكن الحكم في نظام نيابي برلماني كالنظام البريطاني هو للحكومة التي تنال ثقة البرلمان والتي تحظى بتأييد الحزب الأكثر أصواتًا في الانتخابات.
اذن من الناحية السياسية لن يتغير شيء في السياسة البريطانية بوجود الملكة او رحيلها، ولكن بدون شك تلك العظمة التي كانت تحيط بها وببريطانيا نفسها من خلال مملكتها الممتدة من الجزر التي تشكل بريطانيا الكبرى الى دول الكومنولث التي كانت تعتبر ملكة بريطانيا او ملك بريطانيا ملكًا عليها، هذا الرحيل لن يغير من المشهد السياسي الكثير، فالسياسة البريطانية ما زالت حتى الساعة سياسة تقوم على فكرة امجاد الإمبراطورية والتي لا يمكن استعادتها، لا بل انها تبتعد عنها يومًا بعد يوم مع تقدم الشعوب وتحررها واستقلالها.
واعتقد ان أفضل ان ما يقوم به البريطانيون، شعبًا واحزابًا وقيادات سياسية، هو اجراء مراجعة عميقة تخرجهم من أسر ذلك الإرث الامبراطوري الذي ما زال يتحكم بسياساتهم، وتخرجهم من تلك العقلية الاستعمارية التي سببت لهم كثيرًا من النكسات والحروب والفواجع.
هل تستطيع بريطانيا بعد رحيل الملكة اليزابيت ان تقوم بهذه المراجعة الضرورية لكي تحافظ على نفسها، تحافظ على وحدة المملكة المتحدة، فأسكوتلندا في طريقها لمغادرة هذه المملكة، وكذلك الامر بالنسبة لإيرلندا الشمالية ، ولن تبقى إلا بريطانيا نفسها هي وريثة تلك المملكة، هل تستطيع القيادات البريطانية ان تدرك انها تعيش في عالم متغير، في عالم لا مكان فيه للاستعمار ولا مكان فيه للهيمنة، ولا مكان فيه للسيطرة.
اعتقد ان أفضل ما يفعله البريطانيون لتكريم ملكتهم ، ولتكريم تاريخهم، هو أن يجروا هذه المراجعة، وأن يقلعوا عن سياسات قديمة ربما مكنّت دولتهم من أن تصبح دولة عظمى في فترة من الفترات ولكنها لم تعد كذلك اليوم.
لا شك ونحن نشهد وداع البريطانيين لملكتهم يخطر ببالنا جميعًا كعرب، والفلسطينيون منا بشكل خاص، لماذا لم تقم هذه الملكة التي حكمت بلاد وعد بلفور، وحكمت بلاد سايكس – بيكو، لماذا لم تقم خلال سبعين عامًا بزيارة الكيان الصهيوني، ماذا يعني هذا الامتناع رغم انها زارت اكثر من 120 دولة سؤال محير، اعتقد ان أبحاثا يجب ان تجري لمعرفة أسبابه وربما من خلال دراسة هذه الأسباب يستطيع البريطانيون ان يكتشفوا خطأهم التاريخي حين ساهموا بقيام الكيان الصهيوني على ارض فلسطين وعلى حساب شعب فلسطين وانتهجوا سياسة استعمارية في بلادنا وغير بلادنا.