
تحوم فوق سماء أوروبا سحابة دونالد ترامب القاتمة، الأكثر سوداوية في تاريخ العلاقات الأميركية– الأوروبية، وتحديداً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. أربك ترامب القارة العجوز بعدد من القرارات والأوامر التنفيذية. اضطربت أوروبا بشدّة من نواياه الهادفة إلى الانسحاب من الجهود المشتركة الغربية الداعمة لكييف. غير أنّ ما زاد من طين العصبية الأوروبية بلّة، حركة ترامب الفردية ومبادراته لإنهاء الحرب الأوكرانية، عبر مفاوضات سلام، من دون اشراك أوروبي واضح وصريح.
هل أضحت القارة الأوروبية ضعيفة؟ كيف تواجه أوروبا تقويض ترامب لحلف شمال الأطلسي؟ كيف تتصدى للسياسات الأميركية؟ وهل يتبنى ترامب النهج النازي؟
ترامب إستعلائي. يتسلح بالقرارات القاسية. ثم يلغيها بشكل مفاجئ وسريع. تتزامن اجراءاته مع سيل من التصريحات العدائية، يستهدف حلفاءه، ويضغط عليهم ويحرجهم. ويريح خصومه لاستمالتهم.
يستنسخ ترامب الأسلوب الأيديولوجي النازي الذي اعتمده هتلر، لكن من الوجهة الاقتصادية. رفع هتلر حينها شعار “ألمانيا أولاً”، ويتبنى ترامب حالياً مبدأ “أميركا أولاً”.
وضع القارة العجوز في مرحلة الحرب العالمية الثانية، يشبه كثيراً الواقع الأوروبي الحالي. كانت أوروبا حينها بؤرة مؤسسة للعنصريات والعصبيات، حيث نمت الحالات القومية الشعبوية، والأفكار الانعزالية السلطوية. ومهّدت الطريق أمام ولادة حالة هتلر السياسية. ومكّنت “الفوهرر” من الحكم والوصول إلى السلطة، بسيطرة اليمين المتطرف في أوروبا.
عاودت موجة اليمين المتطرف الظهور من جديد في أوروبا والعالم. هي ذاتها رجحت كفة ترامب في فوز ساحق. تتكاثر أيضاً البيئة الحاضنة المعززة لليمين المتطرف الأوروبي. وتتقدم بشكل مشهود على المستويين الوطني والاتحادي.
قبضت ألمانيا آنذاك على أعلى هرم المقدارت العسكرية. قامت بالعديد من أعمال الابتزاز والهجوم والسيطرة على الدول الصغيرة. سميت النشاطات الهتلرية وقتها بـ”أعراض ميونيخ”. لم تحرك الدول الكبرى أي ساكن، فاستمر هتلر في جموحه لاحتلال أوروبا.
العروض الابتزازية
يستعيد ترامب دور هتلر من المنحى الاقتصادي مع التهديد العسكري. بدأها في عروضه الابتزازية الموجّهة تجاه بعض الدول الضعيفة مثل المكسيك وكندا. توّجها في توجيه سهامه ناحية حليفته الاستراتيجية أوروبا. مقتنع بعدم صمود أصدقاء أميركا من دونه لساعات. يعمل على اشعال الحمائيات التجارية والجمركية لخلق منافسين وأعداء جدد للضغط أكثر على حلفائه وإخافتهم.
أرسل نائبه جي دي فانس إلى مدينة ميونيخ الألمانية في رسالة رئاسية حازمة عكّر فيها جو مؤتمر ميونيخ للأمن، وكأنّه يقلد هتلر مع ارساله نائبه وإطلاق “عراضة ميونيخ”. لقّن أوروبا درساً في الديمقراطية الترامبية. دعاها إلى استعادة سيادتها قبل فوات الأوان.
سقطت أوروبا في فخ كونها “كياناً بلا أعداء”. ارتكز “ميكانيزم” الاتحاد الأوروبي ومنذ سقوط جدار برلين على ثلاثة أطر من الديناميات:
- اجتثاث الطابع السياسي من سياق التفاعلات الأوروبية الاتحادية، واحلال المصالح الاقتصادية مكانها.
- تكريس الطابع الاداري على القضايا القارية.
- تراجع التنسيق السياسي بين الحكومات الوطنية الأوروبية
- التمايز البيروقراطي في سرعة اتخاذ القرار بين أوروبا وأميركا.
غذى التمايز الخلافات. اذ وصف ترامب النخبة الأوروبية بنسخة أسوأ من جو بايدن والادارة الديمقراطية. شبّههم بالصين الثانية. تعاند أوروبا وجهة نظر ترامب في طريقة إنهاء الحرب الأوكرانية. يحصل ذلك مع توجه المكتب البيضاوي، إلى توسيع الحرب ضد الليبرالية، من أميركا إلى أوروبا والعالم. يريد ترامب محاربتهم في أوروبا، كما حارب بايدن في أميركا.
يركز ترامب في معركته على الدولة العميقة في واشنطن، وعلى أنصار العولمة في بروكسل، أكثر من خصومته مع موسكو ومنافسته مع بكين. يريد اقفال ملف كييف في أسرع وقت بطريقة نافعة له. يبتغي التخلص من أعباء دعم أوكرانيا. يريد تحويل ثقل المسؤولية إلى داخل أوروبا.
أوروبا لاعب عادي!
لا يعتبر ترامب أوروبا كياناً كاملاً. يقدرها لاعباً عادياً فقط، حيث يتعيّن عليها تنفيذ ارادات الاستراتيجية الأميركية. ما يقلق أوروبا هو أسلوب ترامب الإبتزازي والإملائي، وعدم ورودها ضمن أولويات الادارة الأميركية، اضافة إلى تغييبها عن طاولة مفاوضات السلام مع روسيا.
لا يريد ترامب تغيير طبيعة العلاقة الأطلسية أو إنهاء التحالف، بل يسعى إلى تحقيق المزيد من المكاسب، وتجديدها في صفقة كبرى. لكن على أوروبا كذلك التحرك بشكل جدي والتعامل بندية.
تعبر أوروبا مع أميركا مساراً تصادمياً جوهرياً، من شأنه أن يغيّر العلاقات الأطلسية، لا سيما أنّ على ادارة ترامب الإدراك أنّ أي تمزيق في تحالف الأطلسي، واستمرار المواجهة الحمائية التجارية، وغلواء رسومه الجمركية، وحرب اللوائح التنظيمة القانونية، ستؤدي إلى ردة فعل عنيفة، وإلى أضرار وعزلة أميركية كبيرة، وليس أوروبية فقط.
لذا ينبغي على أوروبا التعامل بحذر. فهل تبصر الصفقة الكبرى النور؟ أم تتحضر أوروبا إلى مرحلة ما بعد الحلف الأميركي؟