نشر هذا المقال قبل انتشار جائحة كورونا
رغم ما بذله الغرب من جهود لحث العالم أجمع على تبني الأيدولوجية الرأسمالية، إلا أن نصف القرن الماضي قد أبرز العديد من مساوئ تلك العقيدة الاقتصادية والتي ألحقت الضرر ببعض الاقتصادات الناشئة. وقد طرح بعض الكتاب والمحللين عدة تساؤلات حول مصير الرأسمالية ومدى إمكانية إصلاح ما أفسدته عبر العقود الماضية وبخاصة في ظل سيادة الليبرالية الأمريكية وترويج مفاهيم السوق الحر والعولمة والاختراق الثقافي للشعوب النامية حول العالم.
قد يبدو الوجه الآخر من الرأسمالية غير منكشف أمام الجميع، ولعل ذلك يرجع إلى تعدد ما ترتديه تلك الأيدولوجية من أقنعة، والتي نجحت من خلالها في قلب الموازين وتغيير الحقائق والتسترعلى اللامساواة الفادحة والعمليات السياسية الفاسدة ، ولكن النظام المالي العالمي وبعض المؤشرات الأخرى قد تنذر بمستقبل الرأسمالية وما يمكن أن تفعله بمصير دول العالم.
ولعل محتوى الكتاب الذي قدمه كل من كريستوفر فاريلاس ودان ستون بعنوان “كيف يصبح المال شديد الخطورة” أو “How Money Became Dangerous” هو خير دليل على كيفية تحول القطاع المالي من وسيلة لتحقيق النمو والاستقرار الاقتصادي إلى أداة للمراهانات والمضاربات والتي تهدد رأس المال الخاص بالأفراد والمودع لدى المصارف المختلفة وبخاصة بعد التحول من الشراكة مع القطاع الخاص إلى مؤسسات القطاع العام والتي أغرت بعض موظفي المصارف نحو القيام ببعض المغامرات المحفوفة بالمخاطر، وكيف كان مصرفيون آخرون يصارعون من أجل الالتزام بالأمانة في عالم يحث على الجشع.
كما أكد خبراء الاقتصاد السياسي أنستازيا نسفيتيلوفا ورونين بالان من جامعة لندن في كتابهما الشهير “التخريب.. الوجه الحقيقي للتمويل” أو Sabotage: The Hidden Nature of Finance على أن وجود سوق عادل يتمتع بالشفافية والتنافسية لا يمنح سوى فرصة ضئيلة لتحقيق الأرباح التي تتجاوز تكاليف التشغيل، ولعل ذلك ما دفع قادة بعض الشركات إلى السعي نحو جني المزيد والمزيد من الأرباح من خلال كسر كافة القواعد والخروج على الأعراف والقوانين. ففي نظرهم ” إن كنت تريد جني المال.. عليك خداع عملائك أو منافسيك أو الحكومة” بل ثمة من ذهب إلى أبعد من ذلك أيضا وحقق التميز من خلال خداع الثلاثة في آن واحد.
وقد أفرزت الرأسمالية الكثير من المخاطر الناجمة عن التلاعب بالأسواق والتي وضعت أناس على قمة الهرم المالي على حساب أناس آخرين ممن دفعوا ضريبة إثراء الفريق الأول.
وهناك الكثير من الأمثلة التي توضح كيفية قيام التمويل بإدارة المال والأرباح بمنأى عن كل من المستهلكين والمنتجين، كالبطاقات الائتمانية عالية الفائدة ، والرهون العقارية ، وقروض السيارات . وفي كتابهما ” بصورة أكثر تجريدا.. عدم المساواة في عصر التمويل” او ” In Divested: Inequality in the Age of Finance” ، يجادل عالما الاجتماع عالم الاجتماع كين-هو لين و ميجان توبياس نيلي ، بأن “الغرض الوحيد من المال اليوم هو كسب المزيد من المال” ، بدلاً من خلق شيء ذي قيمة. كما أن”الأرباح الكبيرة والأجور والمكافآت” ليست مدفوعة بمساهمات هذا القطاع في الاقتصاد “، ولكن من خلال تركيز قوة السوق والتشابك السياسي والوساطة الخاصة للسياسات العامة”. لذلك ، فحقيقة الأمر ان المستهلكين يدفعون الكثير من أجل الحصول على القليل وليس العكس كما يعتقد الجميع عما تقدمه الأسواق الحرة.
وتتضح الصورة الأكثر شمولا حينما يتم إعادة توزيع الثروة بصورة عكسية من الفقراء والطبقة الوسطى إلى الأغنياء، حيث يسعى الفريق الأخير في تلك الحالة إلى تعزيز مزاياه من خلال ما حققه من أرباح من الفريقين الأول والثاني. وهنا يمكن القول بأن الوجه القبيح للرأسمالية يطل على العالم من زوايا عدة تحمل في طياتها المظاهر السيئة، والأكثر سوءا. فالسيئة تتمثل في استمرار الضعف الاقتصادي وتضخم وتركيز الثروة في أيدي القلة. والأكثر سوءا هي أن ذلك يحدث عادة بعد تمزقات عنيفة في جسد المجتمع.
وفي الدراسة الاستقصائية التي أجراها بعنوان “الأيدولوجية ورأس المال” او
Capital and Ideology يقول توماس بيكيتي مفندًا الدور المحوري الذي لعبه الخطاب السياسي في تبرير حالة اللامساوة الفجة التي تمخضت عن النظام الرأسمالي، بأن الانتفاضات السياسية والأزمات المالية والحروب- كالثورة الفرنسية والكساد العظيم والحرب العالمية الثانية- كانت من أقوى دوافع التغيير، وبالتالي فإن المجتمعات لازالت بحاجة إلى مؤسسات قادرة على رأب الصدع الذي أنتجه التفاوت الشديد، وإذا لم تتمكن تلك المؤسسات من ذلك، فقد يتم اللجوء إلى حلول أكثر عنف ولكنها أقل كفاءة.
وعليه فقد لوحظ إجماع خبراء الاقتصاد سالفين الذكر على ضرورة إعادة هيكلة السلطات الرسمية التي تتحكم في المقدرات الاقتصادية للشعوب وإن كان هذا الإجراء يحتمل الكثير من التفاوت بين الأنظمة المختلفة في محاولة معالجة الامر سواء من خلال فرض الضرائب التصاعدية أو الضرائب على الثروة وخلافه وغيرها من التدابير، وبعبارة أخرى، يحتاج الاقتصاد- على حد تعبير هندرسون- إلى إشراف البالغين .
ولعل هذا هو جوهر إصلاح الرأسمالية، حيث ينبغي على القادة أن يكون لديهم أدوات أفضل لتقييم التكاليف الحقيقية للشركات ومقاييس أكثر شمولا لتوصيف التميز والنجاح، ولابد أن يحدث ذلك قبل وقوع ثورة عارمة، فتحمل المسئولية المجتمعية. بات أمرا مفروضا وليس خيارا مطروحا.
رابط المقال من هارفارد بيزنس ريفيو اضغط هنا
للأشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا