
قد يكونُ الرئيس الأميركي دونالد ترامب صانعًا للصفقات، لكنه يبدو أكثر حرصًا على الإنفاقِ والهَدر. وعلى وجه التحديد، يبدو عازمًا على إنفاقِ وهَدرِ كلِّ النوايا الحسنة العالمية التي اكتسبتها الولايات المتحدة وتميَّزت بها على مدى السنوات الثمانين الفائتة. سواء كانَ الأمرُ يتعلّق بإلغاءِ برامج السياسة الخارجية بغضِّ النظر عن مدى فعاليتها في تعزيز المصالح الوطنية الأميركية، أو إصدارِ سلسلةٍ لا هوادة فيها من التصريحات الفوضوية والمُتناقِضة في مجال السياسة الخارجية، أو ببساطة التعامُل بوقاحة مع حلفاء واشنطن القدامى وأولئك الذين يعتمدون على الدعم الأميركي، فإنَّ تصرّفات ترامب وإدارته تبدو وكأنها تهدفُ عمدًا إلى تقويضِ الدولة البيروقراطية الأميركية وأُسُس النظام الدولي الذي خلقته.
خلال الحرب الباردة، خاضَت الولايات المتحدة حربَ أفكارٍ مع الاتحاد السوفياتي من أجلِ الوصول إلى قلوبِ وعقولِ بقيّة العالم. كانت هذه الحرب غير مُتكافِئة من نواحٍ كثيرة، على الأقل من حيث الجاذبية الشعبية. كانت أميركا تمتلك أغاني وفنَّ البوب، ناهيك عن أفلام هوليوود، وماكدونالدز، وكوكاكولا، والديموقراطية … وكان لدى السوفيات الموسيقي دميتري شوستاكوفيتش، وباليه البولشوي، والأعمال الكاملة للينين، ولعبة الفيديو “تيتريس”، وليس الكثير غير ذلك.
كما عرضَ الجانبان أشكالًا مختلفة من المساعدة على بلدانٍ أخرى: الإغاثة من الكوارث، والبعثات الطبية الإنسانية، والتعاون العلمي، والقروض المالية. ولأنَّ الاقتصاد الأميركي كان أكبر كثيرًا من الاقتصاد السوفياتي، فقد ذهبت الميزة هنا أيضًا إلى الأميركيين.
بعدَ الحربِ الباردة، استمرّت الولايات المتحدة في تنمية ما أسمته “القوة الناعمة” ــقوة الأفكار والثقافةــ إلى جانب جيشها الهائل. واستمرّت هذه القوة الناعمة في كونها ناقلًا رئيسًا للنفوذ الأميركي، سواء للأفضل أو للأسوَإِ. وعلى الجانب الإيجابي، ساعد الناشطون الأميركيون على بناءِ عالمِ القانونِ الدولي، واستجابَ عُمّالُ الإغاثة الأميركيون للزلازل والأعاصير التي عصفت بأماكن عديدة في العالم، وشارك العلماء الأميركيون في تطويرِ لقاحاتٍ وأدوية جديدة وغيرها من الاختراقات الطبية، وكان المستشارون الأميركيون فعّالين في بناءِ مجموعةٍ من المؤسّسات الديموقراطية من مراقبة الانتخابات إلى الصحافة الحرة.
أكثر من نصف المساعدات الأميركية تذهب إلى المساعدات الإنسانية (21.7%)، والصحّة (22.3%)، والحُكم (3.2%)، والتعليم والخدمات الاجتماعية (2%)، والبيئة (1.9%).
لكن كان هناك أيضًا جانبٌ مُظلِمٌ لهذه “القوة الناعمة”. فالمساعدات الخارجية، على سبيل المثال، مُسَيَّسة إلى حدٍّ كبير، وغالبًا ما يتمُّ توزيعُها وفقًا للولاءات السياسية وليس وفقًا للاحتياجاتِ والحاجاتِ الفعلية. وكانَ القسمُ الأعظم من هذه المساعدات مُرتَبِطًا بالأمن (14.2%)، وكانت إسرائيل ومصر تقليديًا أكبر المُتلقّين للمساعدات العسكرية. وكثيرًا ما يَستَخدِمُ المُتَلَقّون الفاسدون المساعدات لملء جيوبهم أو توزيعها على شبكاتِ المحسوبية الخاصة بهم، ولو أنَّ مستوى الفساد لا يقتربُ بأيِّ حالٍ من الادّعاءات التي يُرَوِّجُ لها المُناهضون للمساعدات (كما استخدمت الولايات المتحدة برامج مساعداتها لاستهدافِ الفساد والجريمة المنظَّمة).
علاوةً على ذلك، يرتبطُ قدرٌ كبير من المساعدات الخارجية بشراءِ السلع والخدمات الأميركية، وهو ما يعني أنَّ حكومة الولايات المتحدة تعمل في الأساس على تعزيزِ الأعمال التجارية الأميركية. وتمتصُّ التنمية الاقتصادية 27% من المساعدات الخارجية الأميركية، ويُنفَقُ الكثير منها داخل الولايات المتحدة. وكانت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، التي أوقفتها إدارة ترمب بشكلٍ غير قانوني، فخورةً بهذه الحقيقة إلى الحدِّ الذي جعلها تتفاخر على موقعها الإلكتروني بأنَّ “المُستفيدَ الرئيس من برامج المساعدات الخارجية الأميركية كان دائمًا الولايات المتحدة. ويذهب ما يقرب من 80% من عقود ومنح الوكالة الأميركية للتنمية الدولية مُباشرةً إلى الشركات الأميركية”.
إذا جمعنا هذا التفاؤل مع حقيقةٍ مفادها أنَّ المساعدات الخارجية كانت غالبًا ما تشمل عددًا غير مُتناسِب من القروض، وليس المنح، فسوف يتّضحُ لنا أنَّ الكثيرَ مما يُسمّى بالتنمية لا يساعدُ في الواقع أفقر الفقراء. وهذا هو السبب وراء بقاء العديد من البلدان، على الرُغمِ من عقودٍ من المساعدات الخارجية، حبيسة الفقر.
لذا، ربما كان ترامب على حقٍّ في إيقاف الوكالة الأميركية للتنمية الدولية من خلال إنهاء معظم برامجها وتقليص عدد موظفيها من 14 ألف موظف إلى أقلِّ من 300؟
لكن إلى جانب عمليات الصرف الإشكالية، تُموّل الوكالة العديد من المشاريع بالغة الأهمية في جميع أنحاء العالم. وفي ما يلي عيِّنة ذكرتها مجلة “تايم” للفوضى التي تَسبّبَ فيها قرارُ الإغلاق الذي أصدره ترامب بالفعل:
“أغلقت مدارس الفتيات من الصف الرابع إلى السادس أبوابها في أفغانستان؛ تعودُ الأُسَرُ الفلسطينية إلى الأحياء المُدمَّرة في غزة من دون الوصول إلى المياه النظيفة أو المأوى أو المؤن؛ في أوغندا، جفَّ التمويل للمعلّمين والإمدادات الغذائية؛ أطنانٌ من البذور توجدُ حاليًا في مستودعاتٍ في هايتي بدلًا من توزيعها على المزارعين؛ أُغلِقَت عياداتُ صحة الأم وتنظيم الأسرة في ملاوي؛ وفي بنغلاديش، سيتم خفض المساعدات الغذائية للاجئين إلى النصف في آذار (مارس) وستنتهي بالكامل في نيسان (أبريل)”.
ليست الخدمات الأساسية فقط هي التي توقّفت الآن. فهناك أيضًا الجهود المبذولة لطرحِ لقاحٍ جديد للإيدز في أفريقيا والتجارب السريرية للسيطرة على مرض السل على مستوى العالم. وهناكَ كلُّ الأبحاث الحاسمة التي تموّلها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في الجامعات الأميركية حول الابتكار الزراعي والحُكم الديموقراطي والأداء التعليمي.
نشرت إدارة ترامب قدرًا كبيرًا من المعلومات المُضَلِّلة والكاذبة حول القوة الناعمة للولايات المتحدة. فقد زعمت أنَّ خفضَ موازنة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية من شأنه أن يوفّر على أميركا الكثير من المال عندما لا تتجاوز المساعدات الخارجية 1% من الموازنة الفيدرالية ــ ويتمُّ إنفاقُ قدرٍ كبيرٍ من هذه الأموال إمّا في الولايات المتحدة أو لشراء السلع والخدمات الأميركية. وزعمت أيضًا أنَّ الكثيرَ منها ذهبَ إلى النفقات العامة والبيروقراطية، وليس إلى المستفيدين المقصودين، ولكن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية عملت مع عددٍ من المقاولين من الباطن مثل خدمات الإغاثة الكاثوليكية والصليب الأحمر لتنفيذ البرامج، وهي ممارسة قياسية وتضمنُ قدرًا من المساءلة. وزعمَ أنصارُ ترامب أنَّ أموالَ الوكالة الأميركية للتنمية الدولية ذهبت إلى المشاهير للقيام برحلاتٍ إلى الخارج، وهو أمرٌ ليس صحيحًا على الإطلاق.
وبالنسبة إلى بعض الناس في مختلف أنحاء العالم، فإنَّ أيَّ شيء تفعله الولايات المتحدة هو خبيث وسيّئ. عندما تُقدّمُ الحكومة الأميركية مساعداتٍ عسكرية لإسرائيل في حربها المروِّعة في غزة، أو عندما تدفع المستهلكين في الخارج إلى تناول الذرة أو فول الصويا الأميركي بدلًا من البدائل المزروعة محليًا، أو عندما تُروّجُ للديموقراطية على الطريقة الأميركية بدلًا من نهجٍ أكثر تنوّعًا في الحكم، فمن السهل الموافقة على أنَّ القوة الناعمة الأميركية تشكل مشكلة حقيقية.
لكنَّ الكثيرَ من المساعدات الخارجية الأميركية يأتي من مكانٍ مختلف: رغبة حقيقية من جانب المجتمع المدني الأميركي في الشراكة مع مجموعاتٍ في مختلف أنحاء العالم لتحسين النتائج الطبية والتعليمية والزراعية والسياسية.
من غير المنطقي أن نتوقّعَ أن تساعد إدارة ترامب، العازمة على تدمير الخدمات الاجتماعية في الولايات المتحدة، البلدان الأخرى على تحسين خدماتها. لذا، على مدى السنوات الأربع المقبلة، سيكون النضال من أجل أفضل برامج المساعدات الخارجية الأميركية جُزءًا من المقاومة لأجندة ترامب الشاملة. إنَّ إنقاذَ البرنامج لإنشاءِ لقاحٍ أفضل للإيدز في أفريقيا يُشكّلُ جُزءًا لا يتجزّأ من إنقاذِ مبادراتٍ مُماثلة للابتكار الطبي داخل الولايات المتحدة. والحقيقة المحزنة هي: أنَّ الأميركيين أنفسهم يحتاجون الآن إلى برامج “القوة الناعمة” الاستثنائية هذه تمامًا مثل كل الناس في مختلف أنحاء العالم.