إنسَكَبَ الكثيرُ من الحبرِ حول صعودِ الصين إلى مكانةِ قوَّةٍ عُظمى. وعندما يقترنُ هذا بسلوكِ روسيا الانتقامي والانحدارِ النسبي لقوّة الولايات المتحدة، فإنّ ذلك يُغذّي المُناقشات حول تحوُّلِ العالم إلى عالمٍ مُتَعَدِّدِ الأقطاب.
لكن كثيرًا ما يتمُّ استبعادُ دولةٍ رئيسة من هذه المناقشات: الهند. منذُ العام 2013، تساءلت مجلة ال”إيكونوميست” عمّا إذا كانت الهند قادرةً على أن تُصبِحَ قوةً عظمى. وقد عاد هذا التعليق يتردَّدُ أخيرًا. في وقتٍ سابقٍ من هذا الشهر، رأى الصحافي مارتن وولف في صحيفة “فايننشال تايمز” أنَّ الهند على وشك أن تُصبِحَ في نهاية المطاف قوّةً عُظمى، وذهبَ إلى حدِّ تحديدِ موعدٍ ــ2047ــ للوقت الذي ستُحَقِّقُ فيه هذه المكانة. وعلى نحوٍ مُماثل، في نيسان (أبريل) الفائت، دعا كوش أرها” (Kaush Arha)، المُفكِّر ومهندس المشاركة الاقتصادية والتنموية الأميركية في الاقتصادات الناشئة في عصر القوى العظمى، وسمير ساران، رئيس “مؤسسة أبحاث المراقبين” الهندية البحثية الرائدة، الولايات المتحدة إلى احتضانِ الهند في “شراكةِ القوى العُظمى”.
هل تستطيعُ الهند الارتقاءِ إلى مصافِ القوى العظمى؟ تتطلّبُ الإجابةُ عن هذا السؤال تفكيك وتفصيل العوامل التي تجعلُ القوى العُظمى عُظمى.
نقطةُ البداية المُهمّة هي اقتصادية. في الواقع، إنَّ ادعاءاتَ صعودِ الهند إلى مصافِ القوى العظمى تعتمدُ إلى حدٍّ كبيرٍ على اتجاهاتٍ ماديةٍ بسيطة: إقتصادُها مُهَيَّأٌ لمواصلةِ النموِّ بوتيرةٍ سريعة، والاحتمالُ بأن ينتقلَ من خامسِ أكبر اقتصاد في العالم إلى ثالثِ أكبر اقتصادٍ في العالم في غضونِ السنواتِ القليلةِ المُقبلة. التحفُّظُ هنا على ذلك، هو أنَّ الهند من غير المُرَجَّحِ أن تنمو بسرعةٍ كافيةٍ لتُصبِحَ دولةً ذات دخلٍ مُرتَفِع بحلولِ العام 2047، وهو العام الذي توقّعَ فيه رئيس الوزراء ناريندرا مودي أن تُصبحَ بلاده “متطوِّرة” بالكامل. بل إنها بدلًا من ذلك دولةٌ فقيرة نسبيًا من حيثُ مُتَوسِّطِ مستوى دخل مواطنيها، ومن الممكن أن تظلَّ كذلك. لكن عندما يتعلّقُ الأمرُ بوَضعِ القوّة العظمى، فإنَّ ما يهمُّ هو الكمية، التي تقاسُ بالحجمِ الاقتصادي الكُلِّي، وليس بالضرورة الجودة، كما يُعبِّرُ عنها نصيب الفرد من الثروة.
الاتجاهُ المادي الرئيس الآخر هو السكان. أصبحت الهند أخيرًا الدولة الأكثر اكتظاظًا بالسكان في العالم، ومن المُتَوَقَّعِ أن يستمرَّ عددُ سكانها في الزيادة، حيث تشير التوقعات إلى أنه سيصل إلى ما يقرب من 1.7 مليار نسمة في وقت لاحق من هذا القرن. وهذا على النقيضِ من عدد سكان الصين، الذي بدأ بالفعل الانخفاض. وهذا المزيجُ من النموِّ الاقتصادي والزيادة السكانية من شأنه أن يضعَ الهند في موقفٍ قويٍّ يجعلُها لاعبًا عالميًا رئيسًا. في نهاية المطاف، في السياسة الدولية، السكّانُ قَدَرٌ (راجع مقالتي في الأول من حزيران/يونيو 2024).
من المؤكَّدِ أنَّ مثلَ هذه المؤشّرات الاقتصادية مهمّةٌ لتحديدِ ما إذا كان من المُمكنِ اعتبار أيّ دولة قوّة عُظمى، والهند ليست استثناءً. لكن هناكَ عواملَ مُحَدَّدة أخرى، وهنا يُمكِنُ ألّا تكون لدى الهند ولا تملكها.
تقليديًا وعمليًا، ترتبطُ القوة العالمية ارتباطًا جوهريًا بالقوّة العسكرية. عَرّفَ الخبير الرائد في العلاقات الدولية الألماني “هانز مورغنثاو” (1904-1980) القوى العُظمى بأنها تلك الدول التي يُمكِنُها التأثيرَ في الشؤون الدولية. لا يُمكِنُ لأيِّ دولةٍ مُمارَسةَ النفوذِ في الشؤون العالمية من دونِ أن تكون لديها قوةٌ عسكرية قادرة وكبيرة والرغبةٌ في استخدامِ تلك القوة العسكرية في الخارج. لا ينبغي أن يكونَ نطاقُها العسكري عالميًا، بل يجب أن يكونَ على الأقل إقليميًا.
إنَّ مكانةَ الهند في ما يتعلق بالقدرة العسكرية غير مُؤكَّدة. لقد أوضحَ الخبير والمُحلّل العسكري أليكس غاتوبولوس، الأمرَ بصراحةٍ في العام 2021: “مع وجودِ قوةٍ جوية ضعيفة تُعاني من نقصِ القوة، وجيشٍ ما زال غارقًا في مستنقع الأفكار الإستراتيجية التي تمَّ تشكيلها في القرن الماضي، وقوة بَحرية تبدو جيدة على الورق لكن البحرية الصينية تتفوَّق عليها بشكل شامل، بدأت الهند أخيرًا تتصالحُ مع أوجه القصور التي تُعاني منها”. وعلى الرُغم من اعتراف نيودلهي بالحاجة إلى التحديثِ العسكري، لم يتغيَّر الكثيرُ منذُ ذلك الحين.
وعلى نحوٍ مُتَّصِل، زَعَمَ “سوهانت سينغ”، من مركز أبحاث السياسات في الهند في العام الفائت، أنَّ الهند تُواجِهُ مجموعةً من الانقسامات الداخلية التي يُمكِنُ أن تُعيقَ طموحاتها العالمية. ولكي تكون قائدة عالمية فقد كتب: “يجب أن تكونَ مُستقرّة بما يكفي لإبرازِ سلطةٍ كبيرة، والتي تحتاج إليها الهند للحفاظ على السلام والوئام بين سكانها المتنوِّعين –وهو أمرٌ لا يمكنها تحقيقه إلّا من خلال أن تُصبِحَ ديموقراطيةً شاملةً وتعدُّدية وعلمانية وليبرالية”. ولسوءِ الحظ، ابتُلِيَت الهند بالصراعِ والعنف بين المجموعات العرقية والدينية المختلفة، والتي غالبًا ما يُثيرها حزب “بهاراتيا جاناتا” الهندوسي القومي الحاكم بزعامة مودي.
لا شكَّ أنَّ الهند تمتلك جانبًا رئيسًا واحدًا من جوانب القوة العسكرية: إمتلاك القنبلة الذرية. من الناحية التاريخية، لم يكن من الضروري أن تكونَ الدولة تمتلك أسلحة نووية لتصبح قوة كبرى، لكن هذا تغيّرَ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. في العصر النووي، يُعَدُّ امتلاكُ الأسلحة النووية شرطًا ضروريًا للحصول على مكانةِ قوةٍ عظمى. يُمكِنُ لدولٍ مثل ألمانيا والبرازيل واليابان أن تتمتّعَ بثقلٍ اقتصادي، بل وتمتلك القدرة على امتلاك قوة عسكرية تقليدية هائلة. لكن على عكس الهند، امتنعت جميع هذه الدول عن تطوير الأسلحة النووية أو تخلّت عنها، مما منعها من التطلّع إلى الانضمامِ إلى صفوفِ القوى العُظمى.
وبعيدًا من الجانب العسكري، يجب على الدولة لكي تُصبحَ قوة عظمى أن تتمتّعَ بالصفة غير الملموسة التي يُسمّيها خبراء العلاقات الدولية “المكانة”. إنَّ الترحيبَ بأيِّ دولةٍ في نادي القوى العظمى يتعلقُ بالتصوُّرِ بقدر ما يتعلّقُ بالواقع. ليس من الواضح دائمًا كيف يتم تحقيق ذلك. ويُعزى ذلك جُزئيًا إلى جاذبية القوة الناعمة التي تتمتّعُ بها ثقافة الأمة، وهو شيءٌ تمتلكه الهند مع الجاذبية العالمية لأفلام بوليوود. مع ذلك، فإنَّ المكانة لا تتعلّقُ فقط بالأشخاص الذين يُفكّرون جيدًا في ثقافتك الشعبية. إذا كان الأمر كذلك، فإنَّ كوريا الجنوبية سوف تُعتَبَرُ قوة عظمى، نظرًا لأهمية وانتشار موسيقى البوب الكورية.
بدلًا من ذلك، فإنَّ المكانةَ هي شيءٌ تمنحه الأمم الأخرى، وخصوصًا القوى العظمى الأخرى، للدولة. وهنا تصبح الأمور أكثر تعقيدًا بالنسبة إلى الهند.
من ناحية، يُظهِرُ الدورُ الرئيس الذي تلعبه الهند في مُنتديات مثل “بريكس”، ومجموعة الرباعية، ومجموعة العشرين، بين مجموعات ومنتدياتٍ أخرى، طموحات نيودلهي الديبلوماسية، مما يضمَنُ لها سمعتها باعتبارها لاعبًا رئيسًا على الساحة الدولية.
ومن ناحية أخرى، كثيرًا ما تسلكُ الهند طريقها الخاص، فتبدو غير مُهتَمّة بالتورُّط في النزاعات التي تستهلك القوى الكبرى الأخرى. لهذا السبب فإنَّ توجُّهات السياسة الخارجية التي تنتهجها الهند قد تُشَكّلُ المثالَ المُعاصِر للسياسة الواقعية، حيث أنها لا تتجنّبُ التورُّطَ في الشؤون الدولية فحسب، لكنها أيضًا لا تنحازُ إلى أيِّ طرفٍ من أطراف الصراعات. ويتّفقُ هذا مع سياسة الهند الطويلة الأمد المُتَمثلِّة في عدم الانحياز، كما كانت الحال خلال قسم كبير من الحرب الباردة.
هناكَ عاملٌ واحدٌ يُمكِنُ أن يُعَجِّلَ بصعودِ الهند إلى مصافِ القوى العظمى: النصر في حربٍ كُبرى. سواءَ كانت هزيمة اليابان لروسيا في الحرب الروسية-اليابانية في العام 1904، أو انتصار الولايات المتحدة على إسبانيا في الحرب الإسبانية-الأميركية في العام 1898، فإنَّ المؤشِّرَ الشائع حول ما إذا كان الآخرون ينظرون إلى الدولة على أنها قوة عظمى هو إذا هزمت قوة عظمى أخرى في الحرب.
وهذا ليس خارج نطاق االمُمكِن. في هذه الحالة فإنَّ الخصمَ الأكثر احتمالًا للهند هي الدولة التي تتحالف معها أيضًا: الصين. لقد خاضت الدولتان قتالًا من قبل، وعلى الأخص في العام 1962. ولم تَحُلَّا بَعد التوتُّرات الثُنائية التي يعود تاريخها إلى المناوشات التي وقعت في العام 2020 على طول حدودهما في منطقة الهيمالايا. ومن ثم، يظلُّ هناك احتمالُ نشوبِ صراعٍ محدودٍ بين القوتين النوويتين، بل وحتى حربٍ شاملة، نظرًا لمحدودية الردع. مع ذلك، تُواصِلُ الجارتان التعاون في سياق مجموعة “بريكس” وغيرها من المنتديات المُتعدِّدة الأطراف، ورُغمَ أنَّ أيًا منهما لم يتراجع عن نزاعهما الحدودي، فقد سعى كلٌّ منهما إلى تجنُّبِ أيِّ مزيدٍ من التصعيد.
إنَّ الهند هي بالفعل لاعبٌ رئيس على الساحة الدولية. فاقتصادها مُهِمٌّ لعملِ ونموِّ الاقتصاد العالمي، إن لم يكن بالأهمية نفسها لاقتصادَي الصين والولايات المتحدة. موقعها الجغرافي يجعلها العمود الفقري لمنطقة منطقة المُحيطَين الهندي والهادئ، والتي قد تكون المنطقة الأساسية في القرن الحادي والعشرين وما بعده. لكنها ليست بَعد قوةً كُبرى، ناهيك عن قوّة عُظمى. في الوقت الحالي، لا تزال عملاقًا نائمًا، وليس هناك ما يضمن أنَّ هذا العملاق سيستيقظُ في وقتٍ قريب.