هل سقط الاتحاد السوفيتي فعلاً على يد رونالد ريجان؟
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
في عالم السياسة كثيرا ما يتم خلط الأوراق وتزييف الحقائق سواء إن كان الأمر على نحو متعمد أو أن سياق الأحداث يفرض ذلك. ولعل هذا ما جعل الكثيرين من المحافظين في أمريكا ينسبون الفضل في سقوط الاتحاد السوفيتي إلى الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريجان قائلين بأن أسلوب المواجهة الحادة الذي استخدمه ريجان طوال عهده كان السبب الرئيسي في انهيار “مملكة الشر”. ولكن الحقيقة التي ربما يواريها التاريخ هي أن عقلية ريجان الدبلوماسية ساعدته على تعزيز العلاقات مع الرئيس السوفيتي المعتدل صاحب الاتجاهات الإصلاحية مما أدى إلى نشر المبادئ الليبرالية التي بشرت بسقوط الاتحاد السوفيتي.
صحيح أن بداية عهد ريجان كانت تحمل نهجا تصادميا تجاه الاتحاد السوفيتي لدرجة دفعت الرئيس الأمريكي نحو زيادة حجم الإنفاق على التمويل العسكري مما تسبب آنذاك في ارتفاع حجم الدين الفيدرالي، إلا أنه ما لبث بعد ذلك في أعقاب عدد من لقاءات القمة المشتركة مع الرئيس السوفيتي السابق ميخائيل جورباتشوف أن عدل عن موقفه وبدأ في تبني نهج أقل حدة تجاه القطب المنافس للقوة الأمريكية والذي طالما وصفه بـ “مملكة الشر” إلا أنه تراجع عن ذلك الوصف لاحقا في إطار اتجاهه نحو تصحيح مسار السياسة الخارجية الأمريكية.
ومن المشاهد التي لا تنسى والتي يجب ألا يغفل عنها المحافظون الأمريكيون في حديثهم عن علاقة ريجان بالسوفييت، عندما تعانقا الرئيسان الامريكي والسوفيتي سويا في إحدى لقاءاتهما المشتركة وقاما بجولة ميدانية قابلا فيها بعض المواطنين السوفييت والذين رحبوا بزيارة ريجان للميدان الأحمر بموسكو. ولعل ذلك المشهد قد مكن ريجان آنذاك من الضغط على الجناح اليميني المتشدد في إدارته والذي طالما انتقد دبلوماسية الرئيس الأمريكي تجاه السوفيت، حيث وصف البعض انتقال ريجان من اسلوب المواجهة إلى الدبلوماسية بالتحول التام في الموقف الأمريكي تجاه أدولف هتلر.
في الواقع فإن كثير من المحافظين يميلون إلى عدم ذكر تلك التفاصيل الدقيقة التي أحدثت نقلة نوعية هائلة في مسار السياسة الخارجية الأمريكية في علاقاتها مع الاتحاد السوفيتي في عهد ريغان، مركزين على نقطة واحدة مفادها أن الحرب وتعزيز الانظمة الدفاعية واستخدام لغة الخطاب المتشدد تجبر جميعها الأنظمة الاستبدادية على الخضوع.
قد يكون النهج المتشدد لريغان إزاء السوفيت في بداية عهده الرئاسي قد أثر بشكل أوبآخر على الاستراتيجية السوفيتية، ولكن حقيقة، فإن هذا التأثير يعد ضئيلا بالنظر إلى ما أحدثه النهج الدبلوماسي للرئيس الأمريكي لاحقا. ولكن ما يمكن قوله هنا هو أن الاتجاه العدائي لريغان خلال سنوات حكمه الأولى قد ساهم في إطالة أمد الحرب الباردة وتزايد الأصوات المنددة بسياسة الولايات المتحدة وذلك بالمقارنة بالأصوات المعتدلة الأخرى التي أيدت النهج الإصلاحي لـ غورباتشوف.
إن إرث ريجان الحقيقي للحرب الباردة متأصل في ارتباطه الدبلوماسي الشخصي العميق مع غورباتشوف. فقد كانت معانقته لجورباتشوف والثناء على إصلاحاته بمثابة نقطة الانطلاق بالنسبة للزعيم السوفياتي للاتجاه نحو إقرار بعض التغييرات السياسية والاجتماعية – البيريسترويكا والجلاسنوست- والتي أدت في نهاية المطاف إلى انهيار الاتحاد السوفيتي.
في الواقع ، تنبأ ريغان بكل هذا في أوائل عام 1984 ، حيث كتب في مذكراته: “إذا تمكنا من تحقيق الانفتاح في الاتحاد السوفيتي قليلاً ، فسوف يتحفز المواطنون من أصحاب الشخصيات القيادية نحو إحداث المزيد من التغييرات في أنظمتهم الحاكمة”.
ومن المنطلقات الفكرية الأخرى التي يتمسك بها المحافظون هو أن قوة ريغان تفوقت على قوة غورباتشوف وبخاصة أن الأخير كان يعارض بشدة مبدأ زيادة الإنفاق العسكري. ويستندون في مزاعمهم إلى مبادرة الدفاع الاستراتيجي التي اطلقها ريغان والمعروفة مجازا بـ”حرب النجوم”. لكن العلماء الروس والأمريكان قد تبينوا آنذاك أن تلك الاستراتيجية التي تستهدف إسقاط الصواريخ الباليستية بواسطة الليزر كانت بمثابة حلم بعيد المنال، كما أيقن السوفيت حينها بأنهم قادرون على التصدي لحرب النجوم الخيالية من خلال إطلاق مئات الرؤوس النووية في السماء على نحو لن تصمد معه الولايات المتحدة طويلا.
على الرغم من تكلف دافعي الضرائب مليارات الدولارات في امريكا ، لم يكن لـ مبادرة الدفاع الاسترايجي تأثير كبير على القرار الاستراتيجي السوفيتي. فقد رفض غورباتشوف آنذاك إبداء أي استجابة سوفيتية لبرنامج ريجان “حرب النجوم”. والأهم من ذلك أن إصرار ريجان وتشبثه بمواقفه العنيدة إزاء الحفاظ على قوته التكنولوجية منعت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي من القضاء على جميع أسلحتهما النووية.
كما يجادل بعض مراجعي التاريخ أيضًا بأن خطاب ريغان الحاد والإنفاق العسكري الكبير كان الدافع وراء اختيار غورباتشوف كرئيس للاتحاد السوفيتي باعتباره أكثر اعتدالا وميلا إلى الإصلاح. لكن هذا يتعارض مع الحقائق. لم يكن جدول أعمال جورباتشوف الراديكالي الهادف إلى التغيير معروفًا إلى حد كبير للمكتب السياسي للأحزاب الشيوعية عندما تم اختياره لقيادة الاتحاد السوفيتي. حيث وقع عليه الاختيار بصفة خاصة نظرا لكونه في ريعان الشباب، ذلك في الوقت الذي كان فيه الزعماء السوفييت المسنين يموتون سريعا.
كما لا يوجد دليل على أن سياسة “التراجع” التي اتبعها ريغان – والتي سعت إلى تحدي الحركات الشيوعية بقوة في جميع أنحاء العالم ، من أمريكا الوسطى إلى أفغانستان وأفريقيا – كان لها تأثير كبير على الإصلاحات الليبرالية التي حفزت انهيار الاتحاد السوفيتي. في الواقع فإن سياسات غورباتشوف وميوله الإصلاحية قد سبقت وصول ريغان إلى الحكم بعقود.
ولعل التاريخ يعيد نفسه اليوم، ففي ظل وجود إدارة إصلاحية في إيران حاليا، يجب على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اغتنام الفرصة لتحقيق جولات ناجحة في هذا الملف الشائك وبخاصة في ظل دعمه المعلن للحركات الاحتجاجية في طهران. والجدير بالذكر أن الحكومة الإيرانية قد نفذت عدد من الإجراءات الإصلاحية والاجتماعية مؤخرا ساهمت في التصدي للأصوات المناهضة للنفوذ الأمريكي.
ولكن مواقف ترامب العدائية تجاه إيران، قوضت الحركات الإصلاحية في الجمهورية الإسلامية بشكل كبير ، إلا أن الفرصة لاتزال سانحة أمامه للسير على خطى ريغان. ففي ظل التراجع الواضح لدور الزعيم الإيراني الأعلى المناهض للولايات المتحدة بشكل كبير ، يمكن أن تؤدي العودة السريعة إلى الاتفاقية النووية الإيرانية التاريخية – مدعومة بأصوات رئيسية في المؤسسات الأمنية الأمريكية والإسرائيلية – ودعم الحكومة الإيرانية المعتدلة إلى تقويض المتشددين الإيرانيين وتعزيز مسار الإصلاحات الجذرية في طهران.
في الواقع ، سيكون من الحكمة أن يتعلم ترامب من ريغان ، والذي قالها صراحة لـ غورباتشوف في منتصف قمة الحرب الباردة ، “أراهن على أن المتشددين في بلدينا ينزفون عندما نتصافح”.
في الواقع ، فإن جذور إصلاحات غورباتشوف الشاملة سبقت وصول ريغان إلى القيادة على مدى عقود.
رابط المقال اضغط ٢
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا