هل القانون الدولي مُهِمّ ولا يزالُ يعني شيئًا؟ فيما يتحدّثُ الديبلوماسيون، وخصوصًا من الولايات المتحدة، غالبًا عن نظامٍ “قائمٍ على قواعد”، فإنَّ الأحداثَ الأخيرة تدفَعُ البعضَ إلى التساؤل: أينَ هو هذا النظام الآن؟
استَخدَمت الولايات المتحدة حقَّ النقض (الفيتو) ضدّ قراراتٍ مُتَكَرّرة لمجلس الأمن الدولي تدعو إلى وقفِ إطلاقِ النار في قطاع غزّة. وحتى عندما سمحت أخيرًا بتمريرِ القرار بامتناعها عن التصويتِ قبل أسبوعين، ادّعَت واشنطن أنَّ القرارَ غير مُلزِم. على أيِّ حال، فقد تجاهلت إسرائيل ذلك بشكلٍ قاطع. إنَّ عَجزَ مجلس الأمن عن إصدارِ قرارٍ قابلٍ للتنفيذِ في غزّة يأتي في أعقابِ استمرارِ عَجزِهِ عن إصدارِ قرارٍ لوَقفِ إطلاقِ النار في الحرب الدائرة في أوكرانيا، وهذه المرّة بسبب العرقلة الروسية.
إنَّ تطبيقَ القانون الدولي يبدو أيضًا أنه بلا أسنان في محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية. لقد أصدَرَت الأولى حُكمًا يأمُرُ إسرائيل بمعالجة المخاوف بشأنِ سلوكها في الحرب في غزة، ولا يزال من المُمكِن أن تُصدِرَ حُكمًا ضد شرعيةِ الاحتلالِ الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. من جانبها، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مُذَكّرَةَ اعتقال بحقِّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بسبب سياسة روسيا المُتَمَثِلة في اختطاف أطفالٍ أوكرانيين في حربها ضد أوكرانيا. ورُغمَ أن تصرّفات المَحكَمَتَين قد تشيرُ إلى أنَّ الدولَ وقادتها سوف يتحمّلون المسؤولية عن انتهاكاتِ القانون الإنساني الدولي، فمن غير المُرَجّحِ أن يُغَيِّروا سلوكهم، على غرار ما نَتَجَ عن القرار الأخير الصادر عن مجلس الأمن الدولي.
وحتى في مجال التجارة الدولية، يبدو أن آلياتَ تَسوِيةِ المُنازَعات في منظمة التجارة العالمية تَلفُظُ أنفاسَها الأخيرة بسببِ عَدَمِ رَغبَةِ الدولِ الأطراف في استخدامِ النظام أو الالتزام بأيِّ أحكامٍ تَصدُرُ عنه.
ذات يوم وَصَفَ وزير الخارجية الإسرائيلي الراحل أبا إيبان القانون الدولي بكلِّ صراحةٍ وسُخرِيةٍ بأنّهُ “القانون الذي لا يُطيعهُ الأشرار ولا يُطَبّقهُ الأبرار”. هل هو الآن في طريقه رسميًا إلى أن يُصبِحَ بلا معنى ولا جدوى؟
إنَّ مثلَ هذه السُخرية أمرٌ مفهوم. ولكن من الخطَإِ أن ننظُرَ إلى كلِّ هذه التطوّرات الأخيرة ونستَنتِجُ أنَّ القواعدَ التي يقومُ عليها النظام القائم على قواعد ــ على وجهِ التحديد المعاهدات والوثائق القانونية التي تُشَكّلُ السِمةَ المُمَيّزة لهُ ــ لا تَهُمّ ولا تعني شيئًا. إنَّ فَهمَ السبب وراء ذلك يَتَطلّبُ التفكيرَ بعنايةٍ أكبر في الغَرَضِ والهَدَفِ من القانون الدولي.
على الرُغمِ منَ الأُبَّهَةِ والظروفِ المُحيطة بالتوقيع على المُعاهداتِ والتَركيزِ على أحكامِ المحاكم الدولية، فإنَّ المعاهدات الدولية ليست غايةً في حدِّ ذاتها. بدلًا من ذلك، فإنَّ عَقدَ المُعاهدات الدولية وإصدار أحكام المحاكم الدولية ليسا سوى جُزءَينِ من عمليةٍ ديبلوماسية أطول.
على سبيلِ المثال، لننظر إلى قرار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالسماحِ بمزيدٍ من المساعدات الإنسانية لغزّة بعد مكالمته الهاتفية الأخيرة مع الرئيس الأميركي جو بايدن. يجبُ قراءة وفَهم تلك المُحادثة في سياقِ شهورٍ من التعليقات الانتقادية من قبل مسؤولي إدارة بايدن، والتي بلغت ذروتها بامتناع الولايات المتحدة عن التصويت في مجلس الأمن الدولي. لقد ساعَدَ التأثيرُ التراكُمي لهذه الإجراءات على الكَشفِ بشكلٍ موثوق عن تفضيلاتِ السياسةِ الأميركية وأشارَ إلى رغبة واشنطن في تكثيفِ ضغوطها الديبلوماسية.
لكي نكونَ واضحين، إنَّ الديبلوماسية الأميركية لم تَضَع حَدًّا للقتلِ في غزّة، ولا تزال إدارة بايدن تُراقِبُ عن كَثَب لمعرفة الإجراءات التي يتّخذها نتنياهو لضمانِ تسليمِ المَزيدِ من المساعدات الإنسانية للقطاع. لكنَّ التأثيرَ المُشتَرَك لكلِّ هذه الجهود هو الإشارة علنًا إلى أنَّ إسرائيل بحاجةٍ إلى التصرّفِ بشكلٍ مُختَلِف. وبينما انتقدَ العديدُ من الناس تعليقات الرئيس السابق دونالد ترامب التي مفادها أن “إسرائيل تَخسَرُ حَربَ العلاقاتِ العامة تمامًا”، إلّا أَّنَّ هناكَ شيئًا ما في ملاحظته: التصوّر بأنَّ دولةً ما على استعدادٍ لانتهاكِ القانون الدولي يُعَدُّ بمثابةِ علاقات عامة سيِّئة يُمكنُ أن تجعلَ من الصعبِ حَشد الدعم لها في المستقبل.
ولنتأمل هنا على نحوٍ مُماثِلٍ النزاعَ الأخير بين الإكوادور والمكسيك، بعد أن داهَمت الشرطة الإكوادورية السفارة المكسيكية في “كيتو” في الأسبوع الفائت. بسبب انزعاجها المفهوم من الغارة، التي انتهكَت حُرمَةَ السفارة بموجب القانون الدولي، قَطَعَت المكسيك علاقاتها الديبلوماسية مع الإكوادور وسترفع القضية إلى محكمة العدل الدولية. ورُغمَ أنَّ هذا لن يُصَحِّحَ الضررَ الذي حدث، فإنّهُ يتجنّب حاجةَ المكسيك إلى إظهارِ جدِّيتها من خلال تعبئةِ قوّاتها المسلحة أو حتى فَرضِ عقوبات.
وكما كَتَبَت أستاذة القانون الدولي الأميركية تشارلي كاربنتر في ما يتعلق بقوانين الحرب، فإنها يُمكِنُها أن تلعبَ أيضًا دورًا وسيطًا في تقييد السلوك داخل المُعسكرات المُتعارِضة، من خلالِ توفيرِ “اللغة التي تُمَكِّنُ الجهاتَ الفاعلة في الصراعِ المُعتدل من كَبحِ جماحِ جانبها”.
عندما يتعلّقُ الأمرُ بالغَرَضِ الديبلوماسي للقانون الدولي، يَتَعَيّنُ على المرء أن يتساءَلَ دائمًا: “مَن هو الجمهور؟” في أغلب الأحيان، لا تكون الأطرافُ المباشرة فقط، أو حتى في المقام الأول، في النزاعات والمعاهدات والاتفاقيات الثنائية الأخرى بين الدول. هناكَ أطرافٌ ثالثة. تُوَقِّعُ الدول اتفاقيات الدفاع المشترك للإشارة إلى التزامها بأمنِ بعضها البعض، ولكن أيضًا لرَدعِ الدُوَلِ الأُخرى؛ وتَعقُدُ دولتان معاهداتَ استثمارٍ ثُنائية لتشجيعِ الشركاتِ مُتَعَدِّدةِ الجنسيّات على توسيع النشاط الاقتصادي في كلا البلدَين. إنَّ امتناعَ الولايات المتحدة عن التصويتِ على قرار مجلس الأمن الدولي بوَقفِ إطلاق النار الذي يستهدف إسرائيل، التي تربُطها بها علاقات وثيقة جدًا، يدلُّ على أنَّ الولايات المتحدة من المُرَجَّح أن تَتَّخِذَ إجراءاتٍ أقوى ضدّ دولٍ أخرى في ظلِّ ظروفٍ مُماثِلة.
القانونُ الدولي، مثل أيّ قانونٍ آخر، لا يَفرُضُ نفسه بنفسه. يجب أن يتمَّ تنفيذه من قبل شخصٍ ما أو دولةٍ ما. على الصعيد المحلّي، تتولى الدولة هذا الدور، سواء من خلال اعتقالات الشرطة أو فرض غرامات وتنفيذ أحكام. على المستوى الدولي، يتطلّبُ التنفيذُ من أعضاء المجتمع الدولي الآخرين اتخاذ الإجراءات التي تضمن الالتزام بشروط المعاهدة أو الوفاء بأحكام المحكمة. يستطيع الأمين العام لمنظمةٍ دولية أن يُعَبِّرَ عن استيائه، ويستطيعُ رئيسُ محكمةٍ دولية أن يُصدِرَ قرارًا، ولكن يجب أن يتولّى شخصٌ ما أو هيئةٌ رسميةٌ ما مهمّة إنفاذ القواعد والأحكام، وهذا يشكّل في أكثر الأحيان مهمة مستحيلة، وتنفيذ حكم قضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري الصادر عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان هو أكبر مثال.
ربما يُشكّلُ كلُّ ما سبق إثباطًا للهمم والعزائم ومصدرًا للتشاؤم، لأنه يشيرُ إلى أنَّ الصيغةَ الشهيرة ل”حوار ميلوس”، (بين أثينا وإسبرطة قبل حصار الأولى للثانية خلال حربهما التي دامت 27 سنة بين 404 و431 قبل الميلاد)، القائلة بأنَّ “الأقوياء يفعلون ما في وسعهم والضُعفاء يُعانون ما يجب عليهم أن يُعانوه” لا تزال تنطبقُ على السياسةِ العالمية راهنًا. لكن هذا لا يعني أنَّ القانون الدولي لا يعمل على تخفيف هذا السلوك. يجب على المرء دائمًا أن يُفَكِّرَ في الواقع المُخالِف: ماذا سيكون السلوكُ والوضعُ بدون القانون؟ في معظم الحالات، الجواب هو: ربما أسوأ. والفَرقُ بينهما هو سبب أهمّية القانون الدولي.