الاحدثدولي

هل هناكَ “عقيدة بايدن”؟ | بقلم غابي طبراني

خَمسةُ أشهر. هذا هو الوقتُ المُتَبَقّي من ولاية الرئيس الأميركي جو بايدن. بعدَ أسابيع من الضغطِ من كبارِ المسؤولين في الحزب الديموقراطي والمُمَوِلين لحملته الإنتخابية للتنحّي عن منصبِ مُرَشَّحِ الحزب –جنبًا إلى جنب مع استطلاعاتِ الرأي التي أظهرت أنه لن يكونَ قادرًا على هزيمة خصمه الرئيس السابق دونالد ترامب في انتخابات تشرين الثاني (نوفمبر)- أعلنَ بايدن أنه لن يسعى إلى إعادةِ انتخابه. ويبدو أنَ التقدُّمَ في العمر قد فعلَ فعله وأثّرَ في النهاية ببايدن. في سن 81 عامًا وبعد 50 عامًا من الخدمة العامة كعضوٍ في مجلس الشيوخ ونائب رئيس ورئيس الآن، حانَ الوقتُ أخيرًا لتسليم الشعلة.

على الفور تقريبًا، تحوَّلَ الانتقادُ اللاذع الذي تحمَّلهُ بايدن منذ أدائه الكارثي في ​​المناظرة في حزيران (يونيو) إلى مَديحٍ. وصفه الرئيس السابق باراك أوباما، الذي عمل بايدن نائبًا للرئيس تحت قيادته والذي منح بايدن وسام الحرية الرئاسي، بأنه “وطنيٌ من الدرجة الأولى”. وقال زعيم الغالبية في مجلس الشيوخ تشارلز شومر مُتَحَمِّسًا،  إنَّ بايدن “لم يكن رئيسًا عظيمًا وزعيمًا تشريعيًا عظيمًا فحسب، بل إنه إنسانٌ مُذهلٌ حقًا”. حتى الجمهوريون انضموا إليه، حيث قال السناتور ليندسي غراهام، أحد أنصار ترامب، “على الرُغمِ من وجودِ خلافاتٍ سياسية بيننا، إلّا أنني أُقَدِّرُ خدمته مدى الحياة لأُمَّتنا، والتي يُحبّها للغاية”.

كانَ آخرُ رئيسٍ أميركي لم يَسعَ لإعادةِ انتخابه هو ليندون جونسون في العام 1968. لكنه كان رئيسًا بالفعل لأكثرِ من فترةٍ واحدة، حيث خدمَ الجُزءُ الأخير من فترة جون كينيدي قبل الترشّح والفوز في انتخابات العام 1964. وبالمثل، اختار كالفن كوليدج (1872-1933) وهاري ترومان ( 1884- 1972) عدم الترشُّح مرةً أخرى، ولكن بعد أن أكملا أيضًا فترات أسلافهما، وكلاهما توفي في المنصب. يحتاجُ المرءُ إلى العودة إلى رَذِرفورد هايز (1822-1893) في القرن التاسع عشر للعثور على رئيسٍ قرّرَ عدم السعي إلى إعادة انتخابه بعد أن خدمَ حقًا فترةً واحدة فقط.

على الرُغمِ من انسحابه من انتخابات تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، لا يزال بايدن رئيسًا، مع الكثيرِ من العملِ المُتَبَقّي الذي يَتَعَيّنُ عليه القيام به. في خطابٍ إلى الأُمّة لشَرحِ قرار انسحابه من الانتخابات، حدّدَ بايدن أهدافه للأشهر الخمسة الأخيرة من رئاسته، وفي قيامه بذلك، حاولَ تحديدَ النغمةِ التي يُريدُ فيها تفسيرَ إرثه. لقد أشادَ بإنجازاته، بما فيها حشد تحالُفٍ لمواجهة روسيا؛ تعزيز حلف شمال الأطلسي والتحالفات الأميركية في المحيط الهادئ؛ العمل على وقف التفوُّق الذي يبدو حتميًا للصين على الولايات المتحدة كقوّة عالمية؛ وباعتباره أول رئيس في القرن الحادي والعشرين قادرٌ على “الإعلان أنَّ الولايات المتحدة ليست في حالة حرب في أيِّ مكانٍ في العالم”.

قد يكونُ التعليقُ الأخير صحيحًا فقط من الناحية التقنية، فبينما لا تُشارِكُ الولايات المتحدة بشكلٍ مباشر في حربٍ مُعلَنة، إلّا أنها متورِّطة بالفعل في صراعاتٍ حول العالم. وليس من الواضح ما إذا كان بايدن أو أيُّ رئيسٍ أميركي يُمكِنهُ أن يَنسُبَ إليه الفضلَ بالنسبة إلى العقبات التي تُعَوِّقُ حاليًا صعود الصين. مع ذلك، من الواضح أنَّ بايدن كانت له فترة ولاية مهمة. ورُغمَ أنَّ هناكَ وقتًا لا يزالُ مُتَبَقِّيًا في رئاسته، فليس من السابق لأوانه تقييم أعماله، وخصوصًا إرثه في السياسة الخارجية.

أحدُ الأساليب للقيامِ بذلك هو النظرُ في تفاصيلِ ما حدثَ خلال رئاسته. هذه القائمة جديرة بالملاحظة، مع عناصر جيدة ومتوسِّطة وسَيِّئة.

على الجانب الجيِّد من السِجِلّ، كان بايدن مُحِقًّا في جَمعِ تحالُفٍ من الدول لدعمِ أوكرانيا في حربها للدفاع عن النفس ضد روسيا. وبينما كان الانسحابُ النهائي للجيش الأميركي من كابول فوضويًا، فقد كانَ مُحقًّا في إنهاء حرب الولايات المتحدة التي استمرّت 20 عامًا في أفغانستان.

من بينِ العناصر المُتواضِعة في سياسته الخارجية مبادرة “قمة الديموقراطيات”، التي عُقِدَت للمرة الثالثة هذا العام. هذه الجهود مُعَرَّضة لخطرِ التحوُّلِ إلى “منبرٍ لخطاباتٍ بلا أهمية” إلى حدٍّ كبير، إن لم تتوقَّف تمامًا. ولكن حتى لو فشلت، فلا يوجدُ خطأ في إعطاءِ الفكرة فُرصة على الأقل، خصوصًا وأنها قدّمت لبايدن فرصةً لتمييز الولايات المتحدة عن أقوى نظامَين استبدادِيَين في العالم، الصين وروسيا. والأمرُ الأكثر تعقيدًا هو النهجُ الذي اتخذه تجاه إسرائيل والشرق الأوسط بشكلٍ عام. فمن ناحية، اختارَ مواصلةَ المسار الذي حدّده دونالد ترامب، حيث سعى إلى البناء على اتفاقيات “أبراهام” لتجميع تحالفٍ لمواجهةِ إيران. ولكن هذا يشيرُ أيضًا إلى أكبرِ خطَإٍ في سياسته الخارجية: تعامله مع الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. خلال فترة رئاسته، نفّذت إسرائيل عمليتين عسكريتين كبيرتين في غزة، الأولى في أيار (مايو) 2021، والثانية هي الحرب المستمرة منذ هجوم “حماس” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023. وقد ثبت أنَّ الغضبَ المحلّي والعالمي إزاء الخسائر البشرية الهائلة والأزمة الإنسانية الناجمة عن الحرب مُحرِجٌ للغاية بالنسبة إلى بايدن، الأمر الذي دفعه إلى انتقاد سلوك إسرائيل في الحرب مع استمراره في تزويدها بالأسلحة الأميركية؛ ودعوة تل أبيب إلى مراعاة القوانين الدولية للحرب وفي الوقت نفسه انتقادِ المحاكم الدولية التي تُدينُ انتهاكات إسرائيل و”حماس” لهذه القوانين؛ وإبراز مظهر العلاقات الودية مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وهو الرجل الذي تؤكد مصادر البيت الأبيض إنَّ بايدن يكرهه.

إن السجلَّ مُختَلَطٌ أيضًا في ما يتعلق بالقضية التي من المُحتَمَل أن تُشَكِّلَ القرن الحادي والعشرين: العلاقات بين الولايات المتحدة والصين. عمل بايدن على تحسين العلاقات الديبلوماسية بين واشنطن وبكين، بما في ذلك إعادة الزيارات رفيعة المستوى والحوار بالإضافة إلى الاتصالات العسكرية المباشرة. ولكن في نواحٍ كثيرة، هنا أيضًا، اتَّبَعَ إلى حدٍّ كبيرٍ دليلَ سلفه ترامب. فقد استمرت الحرب التجارية الثنائية بوتيرةٍ سريعة. وأظهر بايدن مرارًا وتكرارًا أنه على استعداد لاتّباعِ نهجٍ أكثر عدوانية، سواءَ كانَ ذلك من خلال الإعلانِ بشكلٍ مباشر عن التزام واشنطن بالدفاع عن تايوان -وهي قضية حسّاسة للغاية بالنسبة إلى بكين – وحلفاء الولايات المتحدة الآخرين من العدوان العسكري من قبل الصين، أو إسقاط بالونات المراقبة الصينية، بغضِّ النظر عن وظيفتها المقصودة.

هناكَ طريقةٌ أخرى لتقييم إرث بايدن وهي اتخاذُ منظورٍ كُلّي. هل كان هناك “عقيدة بايدن” أو “مبدأ بايدن؟ من ناحية أخرى، قد يبدو من الصعب تمييز ذلك، حيث تبدو القائمة أعلاه وكأنها خليطٌ من نتائج السياسة. لكن هذه قد تكون النقطة الأساسية. إنَّ بايدن ليس سياسيًا مثاليًا مدفوعًا بنشرِ الديموقراطية أو التجارة أو حماية حقوق الإنسان أو أيِّ قيمةٍ أخرى، بل هو مُمارِسٌ للسياسة الواقعية، وإن كانَ يتمتّعُ بنزعةٍ دولية. وهو مُقتَنِعٌ بأنَّ السياسة الخارجية الأميركية يجب أن تَخدُمَ في المقامِ الأوّل مصالح الأمن القومي الأميركي. ولكن بالنسبة إليه، هذا يعني الانخراط في العالم والقيام بكل ما يلزم، أينما كان ذلك ضروريًا، لمواجهة خصوم الولايات المتحدة، وخصوصًا روسيا والصين وإيران.

وكما أبرز إرث وزير الخارجية الأميركي الأشهر هنري كيسنجر، فإنَّ استخدامَ السياسةِ الواقعية لتوجيهِ السياسةِ الخارجية يُمكِنُ أن يؤدّي إلى تناقضاتٍ وعدمِ اتِّساق. فالحليفُ الأكثر أهمية اليوم قد يفقدُ أهمّيته في الغد، حيث أنَّ القاعدةَ النهائية وحتى الوحيدة هي القيام بكل ما يلزم لتعزيز المصلحة الوطنية. وفي حالة بايدن، فإنَّ العالمَ في حالةِ حرب، لكنه فعل كل ما في وسعه لمنعه من التحوّلِ إلى حربٍ عالمية. وقد يكون هذا إرثًا كافيًا.

بالطبع، الحقيقة هي أنَّ الكثيرَ مما فعله لا يزال من الممكن التراجع عنه وعكسه. وفي هذا الصدد، فإنَّ إرثه ليس من نصيبه أن يكتبه. يعتمد الأمر إلى حدٍّ كبيرٍ على ما سيحدث في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. إذا هزمت كامالا هاريس، نائبة الرئيس بايدن وخليفته كمرشحة ديموقراطية مفترضة، ترامب في انتخابات تشرين الثاني (نوفمبر) ثم أثبتت أنها شخصية تُشبه الرئيس ترومان وتَتَّخِذُ قراراتٍ سليمة وذات نتائج مهمة ودائمة في السياسة الخارجية بعد وصولها إلى السلطة، فقد لا تصنع إرثها الخاص فحسب، بل قد تُعزِّزُ إرث بايدن. من ناحية أخرى، إذا عاد ترامب إلى البيت الأبيض، فإنَّ كلَّ الرهانات تصبح غير مضمونة.

غابريال طبراني، كاتب وصحافي لبناني مقيم في لندن

غبريال طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب”. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه: gabrielgtabarani.com أو عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى