
يعتزمُ الرئيس دونالد ترامب زيارة السعودية في منتصف أيار (مايو) المقبل في أوّلِ رحلةٍ خارجية له منذ عودته إلى البيت الأبيض، وقد زار وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان واشنطن في الأسبوع الفائت للإعداد لهذه الزيارة.
ويُشيرُ قرارُ ترامب بالتوجُّه إلى المملكة، (وقطر والإمارات العربية المتحدة) في أوّلِ رحلةٍ خارجية له إلى مدى العلاقة الوطيدة التي تُريدها إدارته مع دول الخليج، لا سيما في مجالات التعاون الاقتصادي والاستثمار.
وتُفيدُ المعلومات بأنَّ الرئيس الأميركي يحمل في جعبته إلى المملكة بعض المطالب، والتي حمّلها وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو لبن فرحان، بينها توقيع إتفاقية إستثمارية تصل إلى تريليون دولار، وقف التقارب بين بكين والرياض إلى أقصى حد، واستعداد واشنطن للتعاون النووي المدني مع المملكة والحلول في هذا المجال محل الصين، إضافةً إلى أمورٍ أخرى…
لكن السؤال المطروح هنا: هل تقبل السعودية تخفيض علاقاتها المُزدهرة مع الصين وإيقاف تعميقها لإرضاء ترامب، أم ترفض المطلب وتتابع تنفيذ سياستها الخارجية القائمة على تعدّدية الشركاء وتحمُّل العواقب؟
ليس سرًّا أنَّ المملكة العربية السعودية والصين أصبحتا شريكتين اقتصاديتين رئيسيتين في السنوات الأخيرة. فالمملكة تُعدّ الآن من بين أكبر مورّدي النفط الخام لبكين، والصين -ثاني أكبر اقتصاد في العالم- تُعتَبَرُ الشريك التجاري الأول للسعودية سنويًا منذ العام 2011.
لقد حقّقت الشركات الصينية ثرواتٍ طائلة في مجال مقاولات البناء في المملكة، تُقدّر قيمتها بأكثر من 56 مليار دولار منذ العام 2005، ما جعل السعودية وجهةً استثمارية أكثر جاذبية. وخلال الفترة نفسها، بلغ حجم الاستثمار الأجنبي المباشر الصيني في السعودية ما يقرب من 15 مليار دولار.
مع نموِّ العلاقات التجارية، نضجت العلاقات السياسية أيضًا. خلالَ زيارةٍ رسمية قام بها الرئيس شي جين بينغ في العام 2016، وقّع البلدان اتفاقية شراكة استراتيجية شاملة، وهي أعلى مستوى من المشاركة الديبلوماسية في السياسة الخارجية لجمهورية الصين الشعبية.
لتوجيه العلاقة، أنشأ البلدان ما يُسَمّى اللجنة السعودية-الصينية المشتركة رفيعة المستوى، برئاسةٍ مُشتَركة من نائب رئيس مجلس الدولة الصيني لي تشيانغ وولي العهد الأمير محمد بن سلمان. وتجتمع اللجنة بانتظامٍ منذ العام 2016، ما يؤدّي عادةً إلى زيادة التجارة والعقود والاستثمار.
وبعدَ زيارةِ شي الرسمية في العام 2022 إلى العاصمة الرياض، أصبحت النتائج الديبلوماسية للعلاقات الثُنائية أكثر وضوحًا، حيث أعقبها بعد أربعة أشهر خبرُ التقارب السعودي-الإيراني الذي أُعلِنَ عنه في بكين. ورأى الكثيرون في ذلك إشارةً إلى أنَّ الصين، أكبر مستورد للنفط في العالم، قد أصبحت مُرتاحة لفكرةِ الاضطلاع بدورٍ سياسي أكثر نشاطًا في الخليج، وأنَّ علاقتها مع السعودية، ثاني أكبر منتج للنفط في العالم، ستُشَكّلُ نهجها تجاه المنطقة.
وهكذا، تمَّ إرساءُ جوانب العلاقات الثنائية بين الشركات والحكومتَين، ولكن أحد العناصر الذي كان مفقودًا هو العلاقات بين الشعبين. لا يعرف الجمهور السعودي الكثير عن الصين حتى الآن، وهو أمرٌ يبدو غريبًا بالنظر إلى عمق تعاونهما.
والواقع أنَّ السعودية ليست وحدها في هذا الوضع. فرُغمَ التحوُّل الهائل في مكانة الصين العالمية على مدى العقود الخمسة الماضية، إلّا أنها لا تزال لغزًا للكثيرين. يبدو أنَّ الجميع يدركون الأساسيات: عدُد سكانٍ ضخم، ونموٌّ اقتصادي هائل، وقوة عسكرية صاعدة. لكن ما وراء ذلك، ثمة الكثير من الثغرات والمجهولات.
يعود هذا جُزئيًا إلى نقص القوة الناعمة الصينية. فبينما أسَرَت كوريا الجنوبية واليابان الجماهير الأجنبية حول العالم بمنتجاتهما الثقافية الشعبية، فقلّما يستطيع أحدٌ تسمية مغنٍ أو نجمٍ سينمائي صيني.
بالطبع، مع جمهور محلّي يبلغ 1.4 مليار نسمة وجاليات صينية ضخمة في الخارج، لا يحتاج منتجو الأفلام والتلفزيون والموسيقى الصينيون إلى بذلِ جُهدٍ كبير. وفي الوقت نفسه، تُدرك بكين أنه لكي تُصبحَ قوةً عالمية حقيقية، عليها أن تُعرّفَ نفسها للعالم بشكلٍ أفضل.
في تقريرها الأبيض حول مبادرة الحزام والطريق لعام 2015، أعلنت الصين عن أولويات التعاون الخمس التي أرادت التركيز عليها. كانت الأولويات الأربع الأولى، تنسيق السياسات، وترابط البنية التحتية، والتجارة الحرة، والتكامل المالي، مُتَّسِقة مع النهج الاقتصادي والتنموي للعلاقات الدولية الذي نربطهُ عادةً بالصين. أما الخامس، وهو الروابط بين الشعوب، فقد أظهر جانبًا مختلفًا – ترغب الصين في التفاعل مع الدول الأخرى من خلال المبادرات الثقافية والتعليمية.
مع المملكة العربية السعودية، بدأ هذا يؤتي ثماره، ولكن ببطء.
في العام 2019، أعلنت المملكة، التي يبلغ عدد سكانها حوالي 20 مليون نسمة، أنَّ الطلّابَ السعوديين من رياض الأطفال إلى الصف الثاني عشر سيتعلّمون اللغة الصينية كلغةٍ أجنبية في المنهج الوطني.
في آب (أغسطس) الفائت، انضمَّ 175 معلّمًا صينيًا إلى برنامجِ لغةٍ تجريبي في المدارس الابتدائية والمتوسطة، بهدف تدريس 102,000 تلميذ سعودي بحلول نهاية هذا العام.
ومن المؤشرات الطموحة الأخرى إلى خططِ البلدين لتعزيز الأُلْفة الشعبية إعلانُ وزارة الثقافة السعودية عن تسمية العام 2025 “العام الثقافي السعودي-الصيني”. والهدف هو عرض الفن والثقافة والأدب والسينما من خلال المعارض والتبادُلات على مدار العام.
في شباط (فبراير) الفائت، أطلقت السعودية جائزة الأمير محمد بن سلمان للتعاون الثقافي، والتي تهدفُ إلى تعزيزِ التآزُر الثقافي مع الصين. ووصفها السعوديون بأنها “رمزٌ للعلاقة بين السعودية والصين، ورمزٌ للتفاعُل الثقافي، وتعزيز الروابط، وإثراء التبادلات الثقافية”.
وتُعَدُّ السياحة جانبًا آخر من هذا التآزر. في حزيران (يونيو)، أعلنت المملكة حصول الصين على وَضعِ الوجهة المُعتَمَدة، مما يُسهّل السفر الجماعي إلى المملكة. وفي الوقت الذي تُطوّرُ الرياض قطاعها السياحي، فهي تهدف إلى جذب 5 ملايين سائح صيني بحلول العام 2030.
من الواضح، بالنظر إلى كل ذلك، أنَّ هذه العلاقات الوثيقة لا تزال في مراحلها الأولى، وأنَّ الطريقَ لا يزال طويلًا أمام تطوير الأُلْفة الثقافية. مع ذلك، تُظهر الخطوات المُتّخذة اليوم أنَّ الجيلَ المقبل من المواطنين السعوديين سيكتسب معرفةً أكبر بالصين وشعبها. وفي عالمٍ تُعدّ فيه الصين الهدف الرئيس لسياسة التجارة والتعريفات الجمركية الأميركية، كلما ازدادت المعرفة، كان ذلك أفضل للعلاقات السعودية-الصينية.
ولكن السؤال الذي يبحث عن جواب الآن: هل يستطيع ترامب وقف هذا التعميق في العلاقات بين السعودية والصين؟
الجواب قد نعرفه بعد منتصف أيار (مايو) الذي لم يَعُد بعيدًا.