لا شك أن ما يكتبه أبناء المؤسسة عن مؤسساتهم تكون أكثر مقبولية مما يكتبه آخرون من خارجها.
ولهذا ما كتبه رئيس المخابرات الأميركية ويليام ج بيرنز في مقاله الجديد” فن التجسس وفن التحكم.. تحويل وكالة المخابرات المركزية لعصر المنافسة” يعد مقبولًا فيما قدمه من معطيات للدفاع عن مؤسسته والموارد البشرية فيها.
عنوان المقال كان محفزًا لقراءته سيما انه وصلني مترجمًا (من أحد الاصدقاء) مما وفر لي عناء البحث عن ترجمة لبعض المفردات الإنجليزية وماذا تعني وماذا تهدف !!؟ وكذلك اختصر لي الكثير من الوقت ولا شك أنها كتبت بلغة مهنية قد يصعب عليَّ تفكيك معاني المفردات الإنجليزية فيها.
لنعد الى العنوان والمحتوى لقد حمل الجزء الأول (الزبدة) المطلوبة أما الفقرات المتبقية فقد خلط الكاتب بين رأيه السياسي وبين المهنية والموضوعية التي يجب أن يتحلى بها رجل أو ضابط المخابرات ونراه يحفز على تبني سياسة ما اتجاه بعض القضايا التي يؤمن بها ويحول القارئ او المسؤولين الأميركان الى تبنيها باعتبارها رؤية مخابراتية التي تمتلك البعدين التاريخي والمستقبلي التاريخي فيما يتعلق بالمعلومات التي توفرت او فرتها أجهزة الاستخبارات للمسؤول (وأغلبها من عناصر بشرية تجسسية) والبعد المستقبلي الذي يبين الاستشراف المستقبلي للأحداث بناءً على المعلومات وما تمتلكه المخابرات من فن التوقع لأنها (تقرأ تصرفات الحكام داخل وخارج بلدانهم) وتمتلك المعلومات على الأرض أيضًا.
وسأكتفي بمناقشة الجزء الأهم في مقال السيد ويليام عن جهاز المخابرات المركزية الأميركية.
هل هناك تحدي لهيكلية جهاز المخابرات الأميركي والاعتماد بشكل أكبر على التكنولوجيا؟
قبل أن أكتب او أُجيب على التساؤل الذي فرضته بعد اطلاعي على مقال رئيس الـ”سي أي أيه” انقل ما ذكره وعبر عن ذلك بالأمور الأكثر تعقيدًا في عصر (الثورة التكنولوجية) حيث قال:” ومما يزيد الأمور تعقيدًا حدوث ثورة تكنولوجية أكثر شمولًا من الثورة الصناعية أو بداية العصر النووي من الرقائق الذكية الى الذكاء الاصطناعي الى الحوسبة الكمومية“*
يبدو أن هذه المؤسسة الأميركية تواجه التحدي ذاته التي تواجهه بقية المؤسسات الأميركية وهو التخلي عن أغلبية العنصر البشري مقابل الاعتماد على التكنولوجيا” وهو ما دفع رئيسها في موقف المدافع عن رجاله (الجواسيس) وهذه المفردة (الجاسوس) هي محل فخر لضابط المخابرات الأميركي فهو يتميز بكل شيء عن زميله الموظف الإداري على عكس أجهزتنا فالميزة تتوجه للموظف الإداري على رجل العمليات !!.
لنعد الى ما طرحه السيد ويليام حيث يتيح له كتابة مقال موسع مساحة أكبر لبيان وجهة نظره وأصحاب الرأي في مؤسسته فيما لو طرحه في حوار واحد أمام مسؤوليه في الادارة الأميركية ويوفر وقتًا أكثر للمسؤولين في دراسة الحلول التي يقدمها أو قدمها في هذا المقال ( الذي جاء على شكل تقرير مخابراتي تحليلي للوضع داخل المخابرات والمناطق الساخنة في العالم).
وقدم السيد ويليام حلا بالمزج بين العنصر البشري والتكنولوجيا ولا يمكن بكل الأحوال التخلي عن العنصر البشري سيما الجاسوس فكتب ” التجسس عبارة عن تفاعل بين البشر والتكنولوجيا ستظل هناك أسرار لا يمكن إلا للبشر جمعها وعمليات سرية لا يمكن إلا للبشر القيام بها “و ” عليها أن تمزج بين التكنولوجيا الناشئة ومهارات التعامل مع الناس والجرأة الفردية التي كانت دائما في قلب مهنتنا” ويحاول رفع المعنويات ” هذا وقت التحديات التاريخية لوكالة المخابرات المركزية ومهنة الاستخبارات بأكملها” وهو لا يريد أن يكون من الرجال التقليدين والبيروقراطين وان عبر في بداية مقاله عن اعجابه وفخره بما قام به رجال المخابرات الأميركية في القرن الماضي أو تاريخها فجاءت فقرات مقالته التالية وكأنه يضغط على رجاله فكتب و ويتماشى مع التغيير التكنولوجي ” لكي تكون وكالة الاستخبارات المركزية جهازًا استخباريًا فعالًا في القرن الحادي والعشرين يجب عليها أن تمزج بين التمكن في التكنولوجيا الناشئة ومهارات التعامل مع الناس والجرأة الفردية التي كانت في قلب مهنتنا وهذا يعني تزويد ضباط العمليات بالادوات والحرف اللازمة لإجراء التجسس” .
والآن جاء الوقت للإجابة على التساؤل الذي طرحته فما كتبه السيد ويليام يبين مما لاشك فيه أن هناك ضغطًا كبيرًا على جهاز المخابرات المركزية وبقية الأجهزة الأمنية الأميركية في (تقليص) موارها البشرية والاعتماد على التكنولوجيا بسبب تقدم الصين في هذا المجال و استخدامها من قبل وزارة أمن الدولة الصينية (الجهاز الاستخباري الأكثر خطورة في العالم حسب وصف فاينانشيال تايمز او بـ(جهاز الاستخبارات المخيف) ولعله من المفيد أن نذكر أن الاجهزة الاستخبارية الغربية لم تستطع أن تكتشف جواسيس يعملون لصالح الصين الا في المجال التكنولوجي سواءً في الولايات المتحدة او أوروبا وأفريقيا.
فالصين تتميز باعتمادها على الموارد البشرية دون أن تنفق موارد مالية كبيرة وكذلك على التكنولوجيا واذا ما ذكرت هذا المثال التهكمي والحقيقي في الوقت ذاته تتضح الصورة عن عمل وكلفة العمليات في الدول الكبرى للتجسس “إذا كان الشاطئ هدفا للتجسس فإن الروس سيرسلون غواصات وضفادع بشرية في ظلام الليل وبسرية كبيرة سيقومون بجمع دلاء من الرمال وإعادتها إلى موسكو أما الأميركيون فسيستهدفون الشاطئ بالأقمار الصناعية وينتجون رقاقات من البيانات فيما سيرسل الصينيون ألف سائح مهمة كل منهم جمع حبة رمل واحدة وعندما يعودون سيطلب منهم تسليمها وسينتهي بهم الأمر لمعرفة المزيد عن الرمال أكثر من أي جهة أخرى”1
لقدم حاول وليام في مقاله تسويق أهمية الوكالة وعدم التخلي عنها أو بالأحرى عن العنصر البشري (الجاسوس ) لما قامت به لمساعدة المسؤولين والقادة لمواجهة غزو اوكرانيا من قبل روسيا ومواجهة العدو الاخطر على مستقبل الولايات المتحدة وهي دولة الصين الشعبية.
*الحوسبة الكمومية :هو أي وسيلة تعتمد على مبادئ ميكانيكا الكم وظواهره مثل حالة التراكب الكمي والتشابك الكمي للقيام بمعالجة البيانات.
1-مقتبس من مجتمع الاستخبارات الأميركي لوصف انتشار وقوة الاستخبارات الصينية.