شَهِدَ العام 2023 أسوأَ ما في السياسة الدولية. بلغت الصراعات والمجاعة وتدفّقات اللاجئين مُستَوياتٍ قياسية. وسوف تستمر هذه الاتجاهات في العام 2024. ولكن من الجدير بالملاحظة أنَّ العام 2024 يُقدّمُ أيضًا اختبارًا حاسمًا لقياس كيفية استجابة السكان في جميع أنحاء العالم لتلك الأزمات: الانتخابات.
على الصعيد العالمي، ستُجري 68 دولة انتخاباتٍ هذا العام (رئاسية، تشريعية، إقليمية، بلدية)، وهو رقمٌ قياسي لم يسبق له مثيل منذ إنشاء حق الاقتراع العام سنة 1792 في فرنسا، عندما كان للرجال فقط حقّ التصويت. الواقع أنَّ العام 2024 يُوصَفُ بأنه “عام الانتخابات الحاسمة” حيث سيتم استدعاء 4.2 مليارات ناخب إلى صناديق الاقتراع، أي نصف سكان العالم. لكن لهذه الانتخابات أهمية إضافية في ضوء المناقشات والنقاشات التي دارت خلال السنوات القليلة الماضية بشأن تراجع الديموقراطية على مستوى العالم. لا شكَّ أنَّ الانتخابات وحدها لا تُشَكِّلُ مؤشِّرًا كافيًا إلى وجودِ ديموقراطيةٍ نزيهة. يجب أن تجري الانتخابات بحرية ونزاهة، وأن يقبلَ الخاسرُ نتائجها. في الواقع، على الرُغمِ من العدد القياسي للانتخابات، يخشى البعض أن يكون العام 2024 عامًا صعبًا بالنسبة إلى الديموقراطية، وأنَّ نتيجةَ انتخابات العام الجديد يمكن أن تدفعَ العالم نحو المزيد من الديكتاتورية والاستبداد.
لا شكَّ أنَّ بعضَ انتخابات العام الجاري هو أدائي، وعلى وجه التحديد الانتخابات الرئاسية المقبلة في روسيا التي ستجري في آذار (مارس). والأمر الأكثر أهمية إلى حدٍّ ما هو الانتخابات التشريعية المُقَرَّر إجراؤها في إيران، على الرُغم من أنَّ آية الله علي خامنئي غير المُنتَخَب سيظل المرشد الأعلى للبلاد.
لكن العديد من الانتخابات يحملُ في طيّاته احتمالية دوران القيادة على نحوٍ قد يُغَيِّرُ العلاقات الدولية بشكلٍ كبير، وهناك ستٌّ منها على وجه الخصوص تستحق المراقبة عن كثب.
أوّلًا، تايوان، التي من المُقرّر أن تُجري انتخابات رئاسية هذا الشهر. هذه الانتخابات تَجري بعد عامٍ من التوغّلات المتزايدة للطيران العسكري الصيني في المجال الجوي لتايوان وبعد أسابيع فقط من تصريح الرئيس الصيني شي جين بينغ خلال خطابه في نهاية العام بأنَّ توحيدَ تايوان مع الصين أمرٌ لا مفرَّ منه. لكن انتخابات تايوان ليست سوى واحدة من انتخاباتٍ عدة قد تؤثّرُ في المشهد الجيوسياسي في جنوب وشرق آسيا. ستكون الانتخابات الأكثر أهمية هذا الربيع في أكبر ديموقراطية في العالم: الهند. لا يوجد الكثير من الدراما قبل الانتخابات، حيث ما زالت شعبية رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي قوية، ومن المتوقع أن يفوز حزبه “بهاراتيا جاناتا” الحاكم بالأصوات مرة أخرى. ولكن الانتخابات قد تكون ذات أهمية كبرى، لأنها قد تُشَجّعُ مَيلَ مودي إلى استغلال الحماسة القومية الهندوسية. وقد يؤدي ذلك إلى تفاقم الوضع القابل للاشتعال أصلًا في الهند نفسها، في ظلِّ التوترات الهندوسية-الإسلامية الطويلة الأمد التي يُمكن أن تثير أعمال عنفٍ، وفي جنوب آسيا على نطاق أوسع، حيث ما زالت التوترات مع باكستان والصين مرتفعة منذ صراعات الهند الأخيرة مع البلدين في العام 2020.
وبالانتقال إلى أوروبا، هناك ثلاث عمليات انتخابية لها الأهمية القصوى، على الرُغمِ من أن بعضها قد لا يتم إجراؤه فعليًا في العام 2024. إحداها في المملكة المتحدة، حيث من المتوقع أن يدعو رئيس الوزراء ريشي سوناك إلى إجراء انتخابات برلمانية قبل نهاية العام، على الرُغم من أنه من الناحية التقنية يمكنه الانتظار حتى أواخر كانون الثاني (يناير) 2025 للقيام بذلك. من بين كل الانتخابات المقرر إجراؤها هذا العام في أوروبا، ربما تكون هذه هي الانتخابات الأكثر أهمية. ورُغمَ أنَّ المناقشات حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قد تمت تسويتها أخيرًا، فإن مستقبل المملكة المتحدة في الاقتصاد العالمي ــبما في ذلك حتى إعادة تشكيل علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي ــ لم يتحدّد بعد.
فهل ستستمر لندن في ملاحقة شعار “بريطانيا العالمية” أم أنها ستتحوَّل إلى الداخل وتزيد من تأجيج النزعة القومية المُناهِضة للهجرة التي غذَّت خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في المقام الأول؟ البلد الذي يتمتع بأقدم ديموقراطية يمر بأكبر الاضطرابات السياسية في تاريخه، مع ثلاثة رؤساء للوزراء في العامين الماضيين. فهل سيستمر ذلك أم أنَّ نتائج الانتخابات ــالتي من المتوقع على نطاق واسع أن تجلب حزب العمال المعارض إلى السلطةــ ستُعيد بعض الاستقرار إلى السياسة البريطانية؟
أما الانتخابات الحاسمة الأخرى التي قد لا تجرى هذا العام فهي في أوكرانيا. في الواقع، تُعَدُّ حالة الانتخابات هناك بمثابة توضيح مناسب للتوازن الدقيق لحالة الديموقراطية في العالم في العام 2024. من المقرر أن يترشح الرئيس فولوديمير زيلينسكي لإعادة انتخابه. ولكن نظرًا لأنَّ البلاد غارقة في الحرب وفي ظل حالة الأحكام العرفية، فقد أشار إلى أن الانتخابات سوف يتم تأجيلها.
هذه خطوة محفوفة بالمخاطر. في حين أنه من المفهوم أن أوكرانيا تحتاج إلى الاستقرار في القيادة في هذا الوقت الحرج، وقد أثبت زيلينسكي نفسه كزعيمٍ مُلهم وحازم في زمن الحرب، فإنَّ الدعم الخارجي للمجهود الحربي الأوكراني يعتمد على التزام كييف بالقيم الدولية الليبرالية. ويشمل ذلك الانتخابات واحترام نتائجها. علاوة على ذلك، أثبت الشعب الأوكراني أنه قادرٌ على الصمود، وقادرٌ على الحفاظ على مجموعة من الخدمات العامة والمجتمعية والاقتصادية العاملة في خضم العدوان الروسي. والانتخابات لن تكون مختلفة. وفي حين أنه من الممكن أن يُعاني زيلينسكي –الذي تم تشبيهه مرات عدة بونستون تشرشل- من مصير تشرشل السياسي بالإطاحة به من السلطة على الرُغم من كونه زعيمًا مُثيرًا للإعجاب في زمن الحرب، فإنَّ هذا هو الثمن الذي يجب دفعه مقابل دعم القِيَمِ الديموقراطية.
أما الإنتخابات الثالثة المهمة، فهي انتخابات البرلمان الأوروبي في حزيران (يونيو) التي قد تؤدي إلى صعود اليمين المتطرف الشعبوي والمتشكك في الإتحاد الأوروبي والذي سوف يكون له أثرٌ كبير على مستقبل القارة العجوز.
أخيرًا، بالطبع، هناك الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني (نوفمبر)، والتي من المرجح أن تضع الرئيس الحالي جو بايدن في مواجهة سلفه، الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي هزمه بايدن في العام 2020. لقد كُتِبَ الكثير وسيتم الكتابة أكثر عن مخاطر هذه الانتخابات، وخصوصًا في ما يتعلق بما يعنيه ذلك بالنسبة إلى السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وسيضع العالم أجمع أعينه على الحملة الرئاسية. هناك مخاوف من أنَّ ولاية ترامب الثانية، في حالة فوزه، ستكون نسخة مشددة من ولايته الأولى، مع قيام الولايات المتحدة بتقليص التزاماتها العسكرية تجاه حلفائها بشكل كبير، والتراجع خطوة إلى الوراء في الجهود المبذولة لمكافحة تغير المناخ واتباع نهج عدواني مناهض للهجرة.
بطبيعة الحال، يجب على المرء أن يتساءل إلى أي مدى قد يحدث أيٌّ من هذا أو حتى إلى أي مدى تختلف سياسات إدارة بايدن عن سياسات إدارة ترامب في الولاية الأولى. لكن حالة عدم اليقين المُحيطة بعودة ترامب المُحتَملة كافية لكي يبدأ العديد من الدول في أوروبا في اتخاذ الاحتياطات اللازمة. في الواقع، كانت احتمالية أن يحاول ترامب إخراج الولايات المتحدة من حلف شمال الأطلسي (الناتو) كافية لكي يتَّخذ الكونغرس نفسه التدابير اللازمة لضمان عدم حدوث ذلك.
كل ما سبق لا يتعلق حتى بانتخابات غير مُقَرَّرة ولكن يمكن أن تحدث هذا العام، مع عواقب وخيمة على العالم: في لبنان كان ينبغي أن تجري الإنتخابات الرئاسية قبل أكثر من عام ولكن بسبب عدم وجود أكثرية برلمانية تستطيع أن تنتخب الرئيس المطلوب لم يتم حتى الآن إنتخاب رئيس للجمهورية، ولكن، كما يتوقع معظم الخبراء، قد يحدث ذلك في المنتصف الأول من هذا العام، الأمر الذي سيكون له أثرٌ كبير في مستقبل لبنان على جميع الصعد. وفي إسرائيل، مع القرار الذي اتخذته المحكمة العليا الإسرائيلية في وقت سابق من هذا الشهر بمنع تدابير الإصلاح القضائي التي اتخذتها حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة، هناك احتمال بانهيار ائتلافه الحاكم. وإذا حدث ذلك فقد يتم إجراء الانتخابات عاجلًا وليس آجلًا. وقد تُشَكّلُ نتائجها بشكلٍ كبير ــبل وربما تنهي ــ الحرب الحالية في غزة.
عندما ينتهي العام 2024، سيكون من المثير للاهتمام تقييم كيفية سير كل هذه الانتخابات. وحتى ذلك الحين، سيتم كتابة الكثير عن كل بطاقة من بطاقات الاقتراع على مدار العام. ورغم أن النتائج غير مؤكدة، فإنَّ الأمرَ الواضح هو أنَّ انتخابات العام 2024 يمكن أن تُمثّلَ نقطةَ انعطافٍ للديموقراطية على مستوى العالم، وبالتالي العلاقات الدولية.