ازمة لبنانالاحدثالشرق الاوسط

الوحدة في التنوّع … الفِدراليّة الثقافيّة إنقاذًا للمعايشة اللبنانية المتعثّرة | بقلم د. مشير باسيل عون

للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا

 

  1. حقيقة الوجدان الجماعيّ

من عجائب العقل السياسيّ اللبنانيّ أنّه ينسب إلى النتائج الأسبابَ، وإلى الفروع الأصولَ، وإلى الآثار المبادئ. في تشخيص المرض اللبنانيّ، ما برح بعضُهم يجرّم التدخّلاتِ العربيّة والإقليميّة والأجنبيّة، وبعضُهم الآخر الاختلالَ الاقتصاديَّ البنيويَّ والفسادَ المستشري، وبعضُهم أيضًا انحرافَ المسلك السياسيّ في تعشّق السلطة اللبنانيّ المجنون. حقيقة الحقائق أنّ الوجدان اللبنانيّ، شأنُه شأنُ الوجدان الجماعيّ في سائر المجتمعات العربيّة، وجدانٌ طائفيٌّ مذهبيٌّ عميقُ الجذور. منذ عصر النهضة العربيّة الأولى، حاول أغلب المفكّرين الإصلاحيّين أن يتجاوزوا هذا الوجدان، فاقترحوا القوميّة العربيّة، ومن ثمّ المساواتيّة الاشتراكيّة، ومن ثمّ الانتمائيّة الدِّينيّة. أخفقوا في القوميّة، إذ إنّ اختبارات المجتمعات العربيّة الوجدانيّة تختلف من وطن إلى آخر. وأخفقوا في الاشتراكيّة، إذ إنّ متطلّبات الحرّيّة تخالف مبدأ الانتظام القسريّ في الأنظومة الشيوعيّة وملحقاتها الاشتراكيّة المتصلّبة. وأخفقوا في الانتمائيّة الدِّينيّة، إذ تحوَّلَ الاختلافُ المذهبيُّ صراعًا أصوليًّا على الحقّ.

لا ريب في أنّ الثابت التاريخيّ تحقّقَ في الدولة الوطنيّة المتعثّرة، بحسب ما أفضت إليه معاهداتُ القوى الغربيّة النافذة في مطالع القرن العشرين. غير أنّ الحالمين الأُتوبيّين من أصحاب الأنظومات الثلاث المذكورة ما زالوا يعتقدون أنّ التاريخ يمكنه أن يعود القهقرى، فيتيح لهم أن ينزعوا الحدود المرسومة، على نحو ما صنعه الأصوليّون الداعشيّون، وينادوا بمتّحدات أوسع تشتمل على شتيتٍ من جغرافيّات وقوميّات ومذهبيّات. أمّا الواقعيّة السياسيّة، فتقتضي منّا اليوم أن نتبصّر في الوضعيّة الجيوسياسيّة القائمة، وأن ننطلق من الخصوصيّات الوجدانيّة الراسخة، وأن نراعي مسرى العولمة الاقتصاديّة وتوازن القوى العالميّة ومخاطر البيئة الأرضيّة التي تهدّد كوكبنا الصغير برمّته. من الممكن أن يتصوّر المرء حلولًا شتّى، تبدأ بضمّ لبنان إلى متّحد أوسع، وتنتهي بالإبقاء على انحلاله البنيويّ من أجل تحويله حقلًا مفتوحًا من التجارب الاحترابيّة العنفيّة الدمويّة. إذا ثبت إخفاقُ النظام الطائفيّ، فلا بدّ من صون المعايشة اللبنانية عن طريق نظام سياسيّ تعدّديّ آخر يصون الوحدة في التنوّع.

 

  1. إخفاقات الاختبار اللبنانيّ التاريخيّ

أعود إلى المرض اللبنانيّ لأضعه في سياق التأزّم العربيّ والإقليميّ والعالميّ. من الإجحاف العقليّ أن يُهمل التحليلُ بنيانَ الوجدان الجماعيّ، فيذهب إلى اعتبارات إيديولوجيّة تعنّف الحقائق اللبنانيّة، وتلوي الوقائع الثقافيّة الاجتماعيّة لويًا مغرضًا. نشأ الاختبار اللبنانيّ في المئويّة الأولى على توازنات عميقة الانغراس، شديدة الدقّة، سريعة الانعطاب. في كلّ منعطف من منعطفات المئويّة الأولى، أصاب لبنان ما أصابه من اختلال واضطراب واحتراب بسببٍ من التباين الثقافيّ الصريح الناشب في عمق التعدّديّة اللبنانيّة. صحيحٌ أنّ الصراعات العربيّة-الإسرائيليّة والصراعات الإقليميّة والدوليّة انعكست على لبنان انعكاسًا خطيرًا. وصحيحٌ أيضًا أنّ طبيعة الاقتصاد اللبنانيّ المختلّ بنيويًّا أفضت إلى بعضٍ من الحرمان والإهمال والظلم. وصحيحٌ أيضًا أنّ فساد الطبقة السياسيّة اللبنانيّة، منذ زمن الاستقلال، عطَّل انتظام الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والبيئيّة في لبنان. بيد أنّ الصحيح الأصحّ أنّ الجماعات اللبنانيّة ما استساغت قطّ تدبّر التنوّع الثقافيّ العميق في بنية الاجتماع السياسيّ اللبنانيّ. بين اللبنانيّين اختلافٌ جوهريٌّ في تصوّر المعيّة السياسيّة في نطاق المدينة الإنسانيّة الواحدة.

ليس في هذا الإعضال أيّ مذمّة مطلقة، إذ إنّ المجتمعات الغربيّة المتنوّعة تعترف بتعثّر انتظام المعيّة السياسيّة، وتحاول قدر المستطاع الاجتهاد القانونيّ الدستوريّ من أجل ابتكار صيَغٍ فذّة من التسويات العاقلة في توزيع السلطة واستثمار خيرات الأرض الواحدة. أمّا في لبنان، فالسائد إنكارُ الاختلاف، وتشويهُ التباين، وتعطيلُ التنوّع. الأصل في ذلك كلّه أنّ العقل العربيّ لا يرضى بالتنوّع إلّا مُسيَّجًا بالوحدة الخانقة. كلُّ اختلاف في الفضاء الثقافيّ العربيّ يظنّ الناسُ به سوءًا، إذ إنّ بنية السلطان العربيّ المتوارثة هرميّةٌ فوقيّةٌ استعلائيّةٌ، ترسّخها الذهنيّة الشيخيّة أو البطريركيّة الملقّحة بالذكوريّة المزهوّة بنفسها.

 

  1. مأزق الذاتيّات اللبنانيّة المتقابلة

عبثًا يحاول اللبنانيّون أن يستعيدوا الواقع الاجتماعيّ والثقافيّ والسياسيّ والاقتصاديّ الذي كان سائدًا، على اعتلالاته، قبل نشوب الحرب اللبنانيّة في العام 1975. إلّا أنّ الحكمة تقتضي الإقرار بالتحوّلات العميقة التي أصابت البنيان اللبنانيّ. عبثًا يجتهد اللبنانيّون في ترقيع النسيج اللبنانيّ، فيبتكرون من الحلول أعطلَها، ومن التسويات أسقمَها، ومن الصيَغ أقبحَها. ليس المرض اللبنانيّ بالاقتصاد، ولا بالسياسة، ولا بالإدارة، ولا بالأطماع الحزبيّة. أصلُ الاعتلال اللبنانيّ إنكارُ الاختلاف الثقافيّ العميق الذي يجعل الناس في الاجتماع اللبنانيّ يفكّرون ويتصرّفون وفاقًا لأنطومتهم العقائديّة الناشبة في صميم وجدانهم الجماعيّ.

أعلم أنّ الناس من طينة واحدة. إنّها حقيقة الحقائق! غير أنّ الألبسة الإيديولوجيّة التي يرتديها الناسُ تصبح جزءًا لا يتجزّأ من كيانهم التاريخيّ. وما اللباس الثقافيّ الدِّينيّ إلّا الهيئة التاريخيّة التي يتّشح بها وجدانُ الفرد العربيّ، إنْ وُجد مستقلًّا، اتشّاحًا لصيقًا يتحوّل إلى هويّة ثابتة لا اقتلاع لها في السياق الزمنيّ المنظور. لذلك تنشأ نشوءًا شرعيًّا تصوّراتٌ شتّى يحملها الإنسانُ في صميم وعيه،تحدّد له معالم التفكير والقول والفعل.للأنظومة المسيحيّة تصوّرُها، وللأنظومة الإسلاميّة تصوّرُها، وللأنظومة العَلمانيّة تصوّرُها. قد تلتقي هذه التصوّرات في ميادين شتّى، وقد تفترق في ميادين أخرى شديدة الثقل والأثر على انتظام المعيّة اللبنانيّة المتنوّعة.

يحيّرني موقفُ الذين يستهجنون الكلام على الذاتيّات الأنتروبولوجيّة المتقابلة، وفي ظنّهم أنّ لبنان لا يعاني التنوّع الثقافيّ، بل الفساد الأخلاقيّ. لا أنكر وطأة الانحلال الأخلاقيّ في البنيان اللبنانيّ. غير أنّ الفساد له علاجٌ فعّالٌ في المجتمعات التي انضبطت معيّتُها انضباطًا دستوريًّا قانونيًّا مبنيًّا على وحدة التصوّر الإنسانيّ الأشمل. ليس من فائدة على الإطلاق في محاربة الفساد اللبنانيّ إذا ثبت أنّ اللبنانيّين، في عمق وجدانهم الطائفيّ، يتنازعونفي تصوّرات الخير الكبرى، ومعاني الوجود الأساسيّة، وقيَم الحياة الهادية. حين يتّفق اللبنانيّون على طبيعة الاجتماع السياسيّ، وعلى حياديّة المجال العموميّ، وعلى فكّ التواطؤ المريب بين الدِّينيّات والسياسيّات، أي حين يأتلفون في الحدّ الأدنى على صورة الإنسان الحرّ، الكريم، المستقلّ، المنتسب إلى ذاته قبل الانتساب إلى الأنظومة الدِّينيّة الطائفيّة، حينئذ يتسنّى لهم أن يعالجوا الاقتصاديّات والسياسيّات والإداريّات والإستراتيجيات الإصلاحيّة في حقول الوجود اللبنانيّ التاريخيّ كلّها.

في هذا السياق، لا بدّ لي من مخاطبة العَلمانيّين اللبنانيّين وتنبيههم على ضرورة مراعاة طبيعة الوعي الوجدانيّ الطائفيّ اللبنانيّ. يُفرحني أن أقرأ اعتراضات المعترضين العَلمانيّين على الفِدراليّة الثقافيّة، وفي معتقدهم أنّ الإنسان لا يجوز أن يُغلَق عليه في بنية طائفيّة صلبة، إذ إنّه كائنٌ منعتقٌ من انتماءات الزمان، منفتحٌ على إمكانات شتّى من الاختبارات. جميلٌ هذا الكلام في زمن السلام الوجوديّ الراسخ. أمّا في الوضعيّة العربيّة الملتهبة، فإنّ رفض النظام التعدّديّ في لبنان بحجّة احترام حرّيّة الإنسان اللبنانيّ ينطوي على رغبة بريئة في تجاهل واقع الحياة اللبنانيّة.

ما برح اللبنانيّون في سوادهم الأعظم يفكّرون ويتصرّفون بحسب ما يمليه عليه، سواءٌ عن قصد أو عن غير قصد، وجدانُهم الجماعيّ المنغرس في صميم كيانهم الباطنيّ. لذلك لا تُستنبت العَلمانيّة اللبنانيّة استنباتَ التعجّل والاعتباط، في غير مراعاةٍ لقرائن الوجود العربيّ التاريخيّ. والبرهان على ذلك ساطعٌ في مآلات العَلمانيّة التركيّة والعَلمانيّة التونسيّة، وكلتاهما منبثقتان من نسيج اجتماعيّ يفوق النسيج اللبنانيّ متانةً وصلابةً ومنعةً. وعلاوةً على ذلك، يجدر بنا الاتّعاظ بأمثولات الاختبار الكنديّ الذي استنهض فكرَ كبار الفلاسفة الأمِريكيّين،مستثيرًا فيهم وبينهم الجدل المغني في شأن طبيعة الإنسان. فكان سؤالهم الأبرز: هل يجوز تناول الإنسان في عريه الكيانيّ وحياديّته الثقافيّة، أم يجب مراعاة الانتسابات الحتميّة التي يتّشح بها وجودُه التاريخيّ؟فإذا بالفلاسفة الليبراليّين الذين يؤيّدون الحياديّة الكيانيّة في الأصل يواجهون الفلاسفة الطوائفيّين أو الجماعيّين أو الملّيين الذين يأخذون الإنسان في بيئته وثقافته وانتماءاته وألبسته وأحمال وعيه الذاتيّ. ومن ثمّ، أفضت خلاصاتُ اللجنة الكنديّة الاستشاريّة التي كان يرأسها الفيلسوف تشارلز تايلور وعالم الاجتماع جِرار بوشار إلى استحالة التساهل في إظهار الخصوصيّات الثقافيّة في نطاق المدينة الإنسانيّة الواحدة والمجال العموميّ الواحد لكي لا تنهار وحدة الاجتماع الكنديّ برمّته. ومن ثمّ، اتّضح لهؤلاء المفكّرين أنّالتسويات العاقلة بين الجماعات المتنوّعة مستحيلةٌ حين يبلغ التباينُ الثقافيُّ حدَّه الأقصى في تصوّرات الخير الشاملة داخل المدينة الإنسانيّة الواحدة.

أعود إلى اللبنانيّين وأصرّ على أنّ المشتركات بينهم كثيرةٌ ومُغنيةٌ. لذلك يجب الحفاظ عليها. غير أنّ ثمّة مسائل جوهريّة خلافيّة لا يجوز لنا أن نتغافل عنها، إذ إنّ كتمانها القهريّ يجعلها تتجلّى في عوارضَ مرَضيّة خطيرة على مستوى تدبّر المعيّة اللبنانيّة بأسرها. رأسُ المسائل الخلافيّة مقامُالإنسان الفرد في معترك الوجود التاريخيّ، واستقلالُ المجال العموميّ، وتشريعُ الحياة الإنسانيّة الشخصيّة، وتواطؤاتُ الدِّين والسياسة في صميم الانتظام الاجتماعيّ اللبنانيّ. لن أتوسّع الآن في هذه المسائل، إذ إنّي، منذ خمس وعشرين سنة، استفضتُ استفاضةً في استجلاء جوانبَ شتّى من الخلاف الأنتروبولوجيّ بين الأنظومة الدِّينيّة المسيحيّة والأنظومة الدِّينيّة الإسلاميّة. في أقدم الدراسات التي أنشأتها في الحوار المسيحيّ الإسلاميّ (بين المسيحيّة والإسلام، المكتبة البولُسيّة، جونية، 1997)، أبنتُ مواضع التقارب والتباعد، واستطلعتُ الآثار الخطيرة التي يمكن أن تصيب بنية الاجتماع الإنسانيّ، ووضعتُ العَلمانيّة أفقًا ناظمًا يحتضن الأنظومتَين معًا، ويصونهما من غلوائهما وتشنّجهما واستئثاريّتهما. في دراسة أخرى (بين الابن والخليفة، المكتبة البولُسيّة، جونية، 2008)، استخرجتُ مواضع الاختلاف والتكامل بين التصوّر الأنتروبولوجيّ المسيحيّ والتصوّر الأنتروبولوجيّ الإسلاميّ، وما تردّدتُ في اقتراح العَلمانيّة سبيلًا هنيًّا يصون التباينات الأنتروبولوجيّة هذه، ويستخرج منها مكانزها الواعدة.

 

  1. العَلمانيّة الهنيّة المستحيلة عربيًّا شرطُ المعايشة اللبنانيّة السليمة

ومن ثمّ، فإنّ حدسي الحواريّ الثابت كان يُملي عليّ أنّ المجتمعات المتعدّدة ينبغي لها أن تعتصم بالعَلمانيّة الهنيّة سبيلًا إلى صون حياديّة المجال العموميّ، ونهجًا سلميًّا في رعاية الاختلاف الدِّينيّ. ما زلتُ حتّى اليوم مقتنعًا بمثل العَلمانيّة الهنيّة الواعدة هذه. أمّا الأمر الجديد الذي أقترحه اليوم، فهو عتيقٌ في جوهره، حديثٌ في طرحه. أقترح اليوم على اللبنانيّين سبيلًا جديدًا في إدارة التنوّع تنتهجه أرقى المجتمعات الإنسانيّة، عنيتُ به الفِدراليّة الثقافيّة التكامليّة. ما بلغتُ هذا المبلغ الخطير في الاقتراح إلّا لأنّي أدركتُ، في نضج الاختبار، أنّ المعايشة اللبنانيّة مصيرها الزوال ما لم تساندها العَلمانيّة الهنيّة الحقّ. غير أنّ هذه العَلمانيّة باتت اليوم في نظري مستحيلة في قرائن الوضعيّات الثقافيّة والجيوسياسيّة العربيّة. ولستُ مستشرفًا أيَّ إمكان صريح لها قبل مئة عام! في هذه الأثناء، ينبغي الحفاظ على التنوّع اللبنانيّ حتّى نستطيع أن ننجز المعايشة السليمة حين يأتي زمنُ العَلمانيّة العربيّة المنشودة. أمّا التكاذب اللبنانيّ في معايشةٍ مختلّةٍ، سقيمةٍ، مزيّفةٍ، مضطربةٍ، مبتورةٍ، عرجاء،فجريمة الجرائم الحضاريّة في الزمن الراهن. الجريمة الأشنع المناداة بدولة مدنيّة في لبنان، والجميع يعلم أنّ الدولة جهازٌ إداريٌّ لا تصحّ فيه صفة المدنيّ، ولا صفة الدِّينيّ. فإمّا أن يكون الاجتماع اللبنانيّ عَلمانيًّا، وإمّا أن يكون دينيًّا. والحقيقة أنّه اجتماعٌ دينيٌّ مسرفٌ في دينيّته.

أقول إذًا بفِدراليّة ثقافيّة تكامليّة تحتضن أربع متّحدات مسيحيّة وسنّيّة وشيعيّة ودرزيّة في نطاق دولة اتّحاديّة تنبسط في نطاق الممكن المعقول من التسويات الجغرافيّة المبنيّة على وحدة الأرض اللبنانيّة في حدودها المرسومة، وتصون لكلّ وجدان جماعيّ حرّيّته في التعبير عن معتقداته تعبيرًا صريحًا سليمًا. ليست هذه الفِدراليّة تقسيمًا، ولا استعداءً، ولا انعزالًا، ولا بدعةً من بدَع التاريخ. إنّها أرقى التنظيمات السياسيّة التي يعالج بها العقلُ السياسيّ إرباكات التعدّد الثقافيّ وانسداداته وأسقامه وانحرافاته. من الطبيعيّ أن يرفضها من يرفض فكرة التنوّع رفضًا استبداديًّا قاهرًا، ويزجّ الناس جميعًا في أتّون التوحيد الإكراهيّ. والحال أنّ اللبنانيّين مختلفون في المسائل الجوهريّة التي ذكرتها. ولكنّهم إمّا ساذجون بريئون متفائلون، وإمّا منافقون مخادعون في التورية والتمويه والتعمية.

لا عجب في أن تكون أخبث أساليب المكر السياسيّ اللبنانيّ اعتقال الوجدان الجماعيّ في قبضة الطبقة السياسيّة الفاسدة في معظمها. يدّعي أصحابُ النفوذ الإقطاعيّ والماليّ والعشائريّ والزبائنيّ أنّهم يمثّلون طوائفهم خير تمثيل، ويدافعون عن مصالح جماعتهم، ويعزّزون مقام ملّتهم في التركيبة اللبنانيّة. أخبث الخبثاء منهم يدّعون أنّهم، بإصرارهم على الفوضى الطائفيّة المستشرية، يحبّون لبنان ويصونون مصالحة واختباره الفريد وتنوّعه المغني. في جميع الادّعاءات الفارغة هذه، يتّضح أنّ المقتدرين يستغلّون وجدان الجماعات اللبنانيّة، ويسخرونه في سبيل مطامحهم التسلّطيّة. لا علاج لهذا المرض إلّا بابتكار نظامِ إدارةٍ لامركزيّ يعزّز الشفافيّة القضائيّة الفاعلة، والمحاسبة المباشرة الرشيدة، والإنماء الإنسانيّ والبيئيّ والثقافيّ العادل الصحيح.

 

  1. في تسويغ الفِدراليّة الثقافيّة التكامليّة

من جرّاء التعانف اللبنانيّ الجسديّ إبّان الحروب والفتن، والتعانف الكلاميّ الهدّام في أثناء الهدنة القصيرة التي تفصل بين حرب لبنانيّة وأخرى، أيقن جميع اللبنانيّين أنّ الحلّ السحريّ مستحيلٌ في لبنان. فإمّا الانحلال والتفتّت والسقوط في محنة التفاهة الأخلاقيّة المخزية، وإمّا استبداد جماعةٍ من الجماعات بقوّة السلاح على سائر الجماعات، وإمّا التشاور الرضيّ بمؤازرة الأمم المتّحدة من أجل الخروج بصيغة تعايشيّة مبنيّة على فِدراليّة المتّحدات الأربعة. يستحيل على اللبنانيّين في أتّون المشاحنات الكلاميّة العنفيّة المستشرية هذه أن يبتكروا نظامًا سياسيًّا جديدًا للبنان، وأغلبُهم تستبدّ به أحلامُ القوميّين العروبيّين،وتخيّلاتُالقوميّين السوريّين، وهلوساتُالإيديولوجيّين الدِّينيّين الأصوليّين، وارتكاباتُ السياسيّين الإقطاعيّين الانتفاعيّين الانتهازيّين المستثمرين في نهب خيرات الأرض اللبنانيّة.

كفانا رياءً ونفاقًا، وانتهاكًا لكرامات الناس، وإفسادًا لضمائرهم، واستعبادًا لمشيئاتهم، وإذلالًا لحياتهم اليوميّة. لن تستقيم المعيّة اللبنانيّة إلّا باحترامٍ مطلق للتنوّع الناشب في الوجدان اللبنانيّ. وحدها الفِدراليّة الثقافيّة التكامليّة تتيح لكلّ جماعة أن تتدبّر شؤونها الثقافيّة الذاتيّة، والإداريّة الإنمائيّة، والقضائيّة العقابيّة، بحسب تصوّراتها الوجوديّة الكبرى، وبحسب ما تستخرجه عقولُ الحكماء فيها من عمارتها الفكريّة الأساسيّة. ولتتنافس هذه المتّحدات على استباق الخيرات في إنماء شخصيّة الإنسان اللبنانيّ الحرّ، المستقلّ، المسؤول، المبادر. لا يظنّن أحدٌ أنّ هذه الفِدراليّة تمنع الناس من التلاقي. بخلاف ذلك، يتيح هذا التنوّع لجميع الناس أن يتلاقوا تلاقيًا حرًّا على صون الخصوصيّات في كلّ متّحد. ذلك بأنّ حرّيّة الانتقال والسكن متاحة للجميع في النظام الفِدراليّ، شرط أن يخضع اللبنانيّون لأحكام النظام الذاتيّ في كلّ متّحد. أمّا المبدأ الثقافيّ الأصليّ، فيقضي بالقول بأنّه لا إكراه في المعايشة اللبنانيّة.

وعلاوةً على ذلك، فإنّ الفِدراليّة التكامليّة تستلزم أن تبادر المتّحداتُ إلى التعاون والتآزر والتضامن، فيساند المتّحدُالمزدهرُ في حقلٍ من الحقول المتّحدَ المتعثّرَ في الحقل عينه. وتستلزم أيضًا أن يتّفق الجميع على صون الإنجازات والمكتسبات في كلّ متّحد من المتّحدات، والإفادة منها في تعزيز كنوز التنوّع اللبنانيّ. ذلك بأنّ اختصار الجهاز السياسيّ الإداريّ في الحكومة الاتّحاديّة، واقتصار الحقائب على ثلاث وزارات أساسيّة (الخارجيّة، الدفاع، الماليّة) يمهّدان لانتهاج سبيلٍ حكيمٍمن مضاعفة جهود الإنماء المحلّيّ في المجالس الإداريّة الذاتيّة. كما أشرتُ إلى ذلك في أبحاثي السابقة، ليس للّبنانيّين من سياسة خارجيّة بمعزل عن الوفاق العربيّ الجامع المقترن بسلطان شرعة حقوق الإنسان الكونيّة التي تضمنها مؤسّسة الأمم المتّحدة. وليس من ضمانة دفاعيّة لسلامة الأرض اللبنانيّة خارج السند القانونيّ العربيّ والدوليّ. وليس من سياسة ماليّة بمعزل عن التنمية الرشيدة المحلّيّة، والمحاسبة القضائيّة المنزّهة عن تصارع الطوائف، والتدقيق الإداريّ المباشر اللصيق بوقائع الأوضاع الذاتيّة في كلّ متّحد على حدة. أمّا ما تشهده الماليّة اللبنانيّة منذ أربعين عامًا، فجلُّه نهبٌ وسلبٌ وتعدٍّ وإجرامٌ بلغ ذروته في الاستيلاء المنهجيّ الخبيث على ودائع الناس.

 

  1. عجز الأخلاق الفرديّة عن إصلاح المعيّة اللبنانية

قد يجابهني بعضُهم بردٍّ صادقٍ يقترح رفعة الأخلاق حلًّا للمرض اللبنانيّ، إذ يكفي أن يُنتدب إلى المسؤوليّة أناسٌ منزّهون طاهرون معصومون مجبولون على الحسّ الإنسانيّ السليم والوعي الوطنيّ الجامع. أعود فأكرّر أنّ المسألة اللبنانيّة ليست مسألة أخلاقيّة. أذكّر الجميع هنا بأنّه لا بدّ من شرطَين أساسيَّين يجعلان الأخلاقيّات فاعلةً في تقويم الحياة السياسيّة اللبنانيّة. يقضي الشرطُ الأوّل أن يعترف الإنسانُ اللبنانيُّ بأنّه كائنٌ إنسانيٌّ حرٌّ مستقلٌّ قائمٌ بذاته بمعزل عن أيّ انتماء دينيّ أو جماعيّ أو طائفيّ أو إيديولوجيّ. أمّا الشرط الثاني، فيُلزم جميع اللبنانيّين، المؤمنين وغير المؤمنين، أن يحرّروا المجال العموميّ والتشريع المدنيّ من تجلّيات الأنظومة الدِّينيّة التي يعتنقونها، أي من منظوريّة تصوّراتهم الخاصّة واقتناعاتهم الذاتيّة. حينئذ يستطيع القضاء اللبنانيّ أن يعاقب المرتكب بوصفه مرتكبًا، لا بوصفه منتميًا إلى طائفة مقتدرة مستكبرة أو وضيعة مستصغرة. بمعزل عن هذَين الشرطَين، لا أثر للأخلاقيّات في انضباط المسلك اللبنانيّ الجماعيّ.

ثمّة وعيٌ جماعيٌّ تختزنه الطوائفُ اللبنانيّة منذ أقدم العصور. من الظلم المنهجيّ أن يتجاهله المرءُ، لاسيّما في قرائن الاجتماع العربيّ. لذلك ليست الفِدراليّة الثقافيّة التكامليّة تنصيبًا للفاسدين المسيحيّين على عرش متّحدهم الذاتيّ، بل تحريرٌ للصوت الانتخابيّ في كلّ متّحد من مخاطر الهيمنة الإيديولوجيّة الطائفيّة المقابلة. فما تكون حجّة من يدعو نفسه بالزعيم المسيحيّ، على سبيل المثال، حين تضمن هذه الفِدراليّة صونَ وجود الجماعة ضمن الانتظام التنوّعيّ العامّ؟ إنّه، لعمري، مضطرٌّ إلى تجاوز مطلبه الطائفيّ الضيّق من أجل مناصرة أصول الإدارة الرشيدة في مناطق متّحده. ذلك بأنّ اللبنانيّين الأرفع أخلاقيًّا لن يرضوا بعد الآن بأن تتسلّط جماعةٌ على أخرى في الإدارات اللبنانيّة في جميع مرافق الدولة. فلنسأل اللبنانيّ السنّيّ الأنزه أخلاقيًّا عن حقوق جماعته في النظام الطائفيّ، ولنحصل على الجواب المنطقيّ الطبيعيّ. في يقينه أنّ الجماعة السنّيّة يجب أن تصون موقعها في النظام اللبنانيّ. وكذلك الحال عند جميع الأنقياء أخلاقيًّا في الطوائف الأخرى.

أمّا القول بأنّ المجتمعات الإنسانيّة ذات اللون الواحد تصاب هي أيضًا بلعنة الفساد والتفاهة والانحلال، فلا يعني شيئًا على الإطلاق. ذلك بأنّ الفساد الذي يَقبل به اللبنانيّون في متّحداتهم أقلُّ وطأةً على مصير الوطن اللبنانيّ من الفساد الذي يُفرض فرضًا تعسّفيًّا على جميع اللبنانيّين. في المتّحد المتجانس الأصغر، يستطيع الناس أن يثوروا ثورةً صحيحةً سليمةً، وأن يسائلوا مسائلةً عميقةً صائبةً، وأن يطوّروا نظامهم تطويرًا فاعلًا واعدًا.

آن الأوان لكي نعترف بهذا الوجدان الطائفيّ العميق. فليس من عَلمانيّين حقيقيّين في لبنان وفي أوطان العالم العربيّ إلّا الندرة النادرة. أمّا الشبّان والشابّات العَلمانيّون الثائرون في الساحات اللبنانيّة، فأثبتوا أنّهم عاجزون أمام اقتدار الأنظومة الطائفيّة التي تنغلّ انغلالًا في ثنايا وجدانهم الطريّ. يحزنني أن أعاين اللبنانيّين العَلمانيّين في المجتمع المدنيّ، وقد تبعثروا تبعثرًا فتّاكًا، فأخذوا ينادون بعَلمانيّات ملقَّحة بهوًى طائفيّ وحزبيّ مكتوم ما استطاعوا أن يحجبوه عن نظر المحلِّل الثاقب. وليس من عَلمانيّة صريحة في المجتمعات العربيّة التي لا تعترف بالسياق الثقافيّ التاريخيّ الذي أفضى إلى نشوء العَلمانيّة في المجتمعات الغربيّة، والحجّة في ذلك أنْ ليس من كنيسة في الفضاء الإسلاميّ. غير أنّ الإنصاف الموضوعيّ يقضي بالقول إنّ نفوذ المؤسّسة الدِّينيّة الإسلاميّة الرمزيّ، على تباين مسمّياتها، يوازي سلطة الكنيسة المسيحيّة التاريخيّ. لذلك تحتاج الأوطان العربيّة إلى عَلمانيّة عربيّة معاصرة. ولكنّ في ذلك اعتبارات تتجاوز حدود هذا المقال. وليس للّبنانيّين من ترف الانتظار الطويل المرهق الذي سيهلك الأخضر واليابس قبل أزوف زمن الخلاص العَلمانيّ العربيّ.

كفانا إذًا ما حلّ بنا من إنكار. السباق محمومٌ في مرافق الدولة اللبنانيّة حيث القويّ يطرد الضعيف طردًا مهذّبًا. وما التأزّم الشديد في تأليف الحكومات وتعيين أصحاب الوظائف الأساسيّة، كالمدراء العامّين والقضاة وأساتذة الجامعة اللبنانيّة، سوى التعبير الأوضح عن تشنّج الوعي الطائفيّ داخل الجماعات اللبنانيّة. ليست المشكلة ناشئة من انحياز يساريّ أو يمينيّ، بل من وجدان متشنّج يعتصم بالاقتدار الإداريّ في الدولة اللبنانيّة حتّى يفرض مشيئته على سائر الوجدانات اللبنانيّة. أنظروا حال المؤسّسات اللبنانيّة الرسميّة، تدركوا جسامة هذا التحليل. لا بدّ إذًا من معالجة التشنّج الطائفيّ المستشري بواسطة الإجماع على إدارة ذاتيّة في كلّ متّحد، تضطلع بمسؤوليّة التدبير العادل من غير معانفة التصارع المذهبيّ على الحصص. فليكن التصارع تصارعًا طبيعيًّا ضمن كلّ جماعة حتّى يخرج منها الأصلح والأعقل والأحكم والأنزه. وليتحوّل الصراع داخل كلّ متّحد على تصوّرات الإدارة الرشيدة ومناهجها وآليّاتها. كفانا صراعًا عبثيًّا على هويّة الموظّف، في حين أنّ الإنسان اللبنانيّ منتهكُ الكرامة، مذلولُ الكيان، عديمُ الوسيلة، سليبُ الإرادة والطاقة والفعل!

باتت الإدارة الرشيدة من المستحيلات في أتّون النكايات والمماحكات والمواربات والإقصاءات والتزاحمات الانتحاريّة السقيمة على اغتيال الوطن اللبنانيّ. من يهوى الانتحار، فلينتحر وحده، من بعد أن ييأس الحكماءُ من مداواته. أمّا التذرّع بالدِّموغرافيا والعدديّة، فذلك أسطع برهان على إخفاق المعايشة اللبنانيّة. فكما أنّه ليس من الإنصاف أن تُحرم طائفةٌ ازداد عددُ أبنائها من وظائف حيويّة في مرافق الدولة، كذلك من الظلم أن تجتاح هذه الطائفة أو تلك وظائف الطوائف الأخرى، في جوٍّ مشحونٍ بالمنازعات والشقاقات والمعانفات الكلاميّة. من فضائل الفِدراليّة الثقافيّة التكامليّة أن تنبسط حيويّة كلّ جماعة، على قدر المستطاع، في نطاق متّحدها الذاتيّ الذي تصونه شرعة التعاون والتضامن والتكافل بين المتّحدات. سئمنا التظلّم والتشكّي، والتهديد والوعيد، والتجابه المستتر أو العلنيّ، في حين أنّ مرافق الدولة أصابها الإهمال والركاكة والتخلّع والتبعثر من جرّاء التوظيف التعسّفيّ المبنيّ على المحاصصة الزبائنيّة المنعدمة الكفاءة والأخلاق.

 

  1. الفِدراليّة ضمانةُ الجماعات اللبنانيّة كافّة

ليست الفِدراليّة الثقافيّة التكامليّة ضمانةً للوجود المسيحيّ فحسب، بل ضمانةٌ لوجود الجماعات اللبنانيّة كلّها في وئام الوفاق وسلام المعيّة الصحيحة. ذلك بأنّ النظام التعدّديّ يجنّب الجميع النفاق والاحتراب واستباحة الأرض اللبنانيّة. منذ نشوء الدولة اللبنانيّة، ظهرت الفِدراليّة طرحًا فكريًّا واكب أخطر منعطفات التاريخ اللبنانيّ الحديث. فأقبل عليها بعضُ السياسيّين المسيحيّين إقبالًا خفِرًا. ولكنّهم ما لبثوا أن أعرضوا عنها حين زُيِّن لهم أنّ شرط الارتقاء إلى رئاسة الجمهوريّة الإبقاءُ على صيغة النظام الطائفيّ السقيم. فكانوا يضحّون بجرأة الاجتهاد الفكريّ الفِدراليّ طمعًا بسلطانٍ زائف. الحقيقة أنّهم وسواهم تناسَوا أنّ النظام الطائفيّ اللبنانيّ لا يستقيم ويزدهر إلّا بشروط عسيرة أصبحت اليوم صعبة المنال: النضج الإنسانيّ التربويّ الفرديّ والجماعيّ المستند إلى روحيّة شرعة حقوق الإنسان الكونيّة،وائتلاف التصوّرات الفكريّة الكبرى التي يحملها وجدان الجماعات اللبنانيّة، والبيئة العربيّة والإقليميّة السليمة الحاضنة، والوعي الثقافيّ العربيّ العَلمانيّ الصريح، والمشيئة الدوليّة الراعية. من الواضح أنّ هذه الشروط مفقودةٌ اليوم، حتّى إنّ المتفائلين بوحدة لبنان يعتقدون أنّ النظام اللبنانيّ ما استقام وازدهر بفعله الذاتيّ، بل من جرّاء ضمانةٍ دوليّة واكبته مواكبةً مضنية، وما لبث أن أحبطها التنازعُ الطائفيّ والتصارعُ القبائليّ والانحطاطُ الفساديّ.

 

  1. الطريق السليم ومنهجيّة المعالجة: الرعاية الدوليّة

ومن ثمّ، فإنّ ما يصحّ في النظام الطائفيّ يصحّ في النظام الفِدراليّ. لا ينتظرنّ أحدٌ أن يبادر اللبنانيّون إلى خلاص أنفسهم. فهم عاجزون عن حلّ مشاكلهم وابتكار صيغة وفاقيّة عادلة واعدة. في أوقات الشدّة التي تهدّد الكيان والوجود والحياة والكرامة، يجب على الضمير العالميّ المتجسّد في الأمم المتّحدة أن يسارع إلى التدخّل الإنسانيّ المباشر. لبنان في خطر الانحلال والزوال. لا بدّ إذًا من مؤازرة دوليّة لإنقاذه من أوهام عظمائه النفسيّة وانحرافات قياداته المسلكيّة، وقد أمسَوا في تخدّر إحساسيّ يُعفيهم من أيّ مساءلة أو محاسبة، إذ يكفيهم أن يمجّدهم عبيدُهم المتحلّقون حول مائدتهم حتّى يشعروا باستقامة ضميرهم المضطرب، وصحّة أقوالهم الفتّاكة، وسلامة أفعالهم الهدّامة. قبل أن يأتيني الاعتراض، أسارع فأقول إنّي أفضّل المؤازرة الدوليّة من أجل ابتكار نظام فِدراليّ عادل، عوضًا عن استثمار المؤازرة الدوليّة في إحياء الجثّة الطائفيّة الهامدة! وما النقاش الناشط اليوم في شأن النظام الفِدراليّ الاتّحاديّ اللبنانيّ الممكن سوى علامة من علامات الدهر على ضرورة الاجتراء والابتكار والشروع في تغيير نمط المعالجة.

لن يُجمع اللبنانيّون على الفِدراليّة من تلقاء أنفسهم. يعوزهم سندٌ حقوقيٌّ قانونيٌّ دوليٌّ. أقترح في سبيل ذلك أربعة مسارات متلازمة يمكنها أن تُفضي إلى استشراف حلٍّ عادلٍ للأزمة اللبنانيّة الكيانيّة. يقضي المسار الأوّل بانعقاد مؤتمر دوليّ تدعو إليه الأمم المتّحدة وتشرف على أعماله وقراراته، بمعزل عن قرار الشرعيّة اللبنانيّة المتعثّرة، ذات الرؤوس المتصارعة. في أعقاب المؤتمر الدوليّ، تصدر قراراتٌ جريئةٌ، تُكلَّل بتسويغ الفِدراليّة الثقافيّة التكامليّة التي تستوحي شرعة حقوق الإنسان، وتراعي حقوق الجماعات اللبنانيّة وخصوصيّاتها،وتستجيب لمقتضيات إدارة التعدّديّة اللبنانيّة. استنادًا إلى ضمانة المسار الثاني هذا، يعلن المؤتمر الدوليّ، في مسار ثالث مواكب، حيادَ لبنان ويستنهض الهمّة العربيّة والإقليميّة والدوليّة من أجل صون هذا الحياد وترسيخه. أمّا في المسار الرابع والأخير، فتعمد الأمم المتّحدة إلى الإشراف الفعليّ على تنفيذ قرارات المؤتمر الدوليّ لئلّا تُترك للّبنانيّين حرّيّة العبث بالجهد الفكريّ القانونيّ الدوليّ الحميد المبذول. في مختصر الكلام، المؤتمر الدوليّ هو السبيل العملانيّ الوحيد لمعالجة التأزّم اللبنانيّ معالجة جذريّة؛ الفِدراليّة الثقافيّة التكامليّة هي الصيغة الجديدة الوحيدة الممكنة من أجل استنقاذ المعيّة اللبنانيّة المتعثّرة؛ الحياد هو الضمانة الدستوريّة القانونيّة الدوليّة التي تحفظ النظام الفِدراليّ اللبنانيّ؛ الإشراف الدوليّ هو الفعل السياسيّ الواقعيّ الحكيم الوحيد الذي يُجبر اللبنانيّين على التوافق الرضيّ والإجماع السليم على الحلّ السلميّ الشامل هذا. إذا أهمل اللبنانيّون هذه المسارات الأربعة، أصابهم ما سبق أن حلَّ بهم في إثر مؤتمرات الصلح التي عقدوها، وما لبثت أن أفضت إلى وصاية قاتلة واحتدام خطير في العصبيّات الطائفيّة.

إذا كان لبنان في مهده ثمرة الإجماع الدوليّ، فلمَ يستغرب بعضُهم أن تُظلّله الحماية الدوليّة في عين العاصفة التي تهدّده؟ أفما كان نظام المتصرّفية، وهو الأرقى في عصره، من ثمار الإجماع الدوليّ؟ أفما كان الانتداب والاستقلال ومؤتمرات المصالحة اللبنانيّة المتعاقبة على وتيرة الاضطرابات من جهود الإجماع الدوليّ؟ فلمَ لا تكون الفِدراليّة الثقافيّة التكامليّة من ثمار الإجماع الدوليّ؟ ليس للبنان من منعةٍ ذاته، بمعزل عن الإرادة الدوليّة. كلّما تغنّى اللبنانيّون بسيادتهم على الطريقة الرحبانيّة، فاتهم أنّ المنشود مثالٌ أعلى لن يبلغوه، وهم على هذا الانعطاب في تدبّر تنوّعهم الفريد.

فليجتهد اللبنانيّون الأنقياء إذًا في استثارة الحراك الدوليّ الذي يهيّئ تهيئةً موضوعيّةً علميّةً نبيهةً لانعقاد هذا المؤتمر، عوضًا عن الالتهاء بمعالجة مسائلَ خلافيّة لا انعتاق منها على الإطلاق. فاللبنانيّون باتوا اليوم عاجزين عن تسوية خلافاتهم الثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة. في غير الفِدراليّة، اللبنانيّون ماضون إلى الاقتتال المستتر أو العلنيّ، والمسيحيّون صائرون إلى الزوال، والمذاهب الأخرى منحدرةٌ حتمًا إلى إحياء الفتنة الإسلاميّة على غرار ما يحصل في الأوطان العربيّة التي لا تقبل بتشريع التنوّع نظامًا فِدراليًّا عادلًا، فتفرض جماعةٌ من الجماعات إرادتها بالقوّة والإكراه. آن الأوان لكي يفهم الجميع أنّ التنوّع اللبنانيّ كنزٌ لا يُستهان به،فلا يُستثمر استثمارًا اعتباطيًّا تعسّفيًّا. ثمّة أصولٌ حضاريّةٌ راقيةٌ ينبغي الاستناد إليها من أجل رعاية مثل هذا التنوّع.

 

  1. استثمار مبادرة الڤاتيكان

لا ريب في أنّ اللبنانيّين غير مبالين بكنزهم هذا. ولكن لم يثبت عندي أنّ الغرب غير مكترث على الإطلاق. ذلك بأنّ البابويّة الكاثوليكيّة تروم أن تساعد اللبنانيّين على تعزيز وحدتهم وتنوّعهم. إلّا أنّها لا تستطيع أن تصنع لهم المعجزات. لا بدّ، في هذا السياق، من الإصرار على تغيير الوسيلة، لا الجوهر، في صون الاختبار اللبنانيّ. فالدِّبلوماسيّة الڤاتيكانيّة ما برحت تؤازر الجهود السياسيّة المبذولة في سبيل الحفاظ على التنوّع اللبنانيّ. فلا ضير في ذلك على الإطلاق. ولكن، عوضًا عن انتهاج سبيل النظام الطائفيّ الذي برهن على سقمه وإخفاقه، وجرَّ على الوطن اللبنانيّ آفات التحارب والانحلال الكيانيّ، أقترح على البطاركة والأساقفة المدعوّين إلى روما أن يتشاوروا تشاورًا حكيمًا في حضرة البابا فرنسيس ومعاونيه حتّى يسوّغوا فكرة الفِدراليّة الثقافيّة التكامليّة. إذا تغيّرت الصيغة، بقيت الغاية التعايشيّة هي إيّاها. ذلك بأنّ المعايشة المبنيّة على صون الذات الجماعيّة في كلّ متّحد لهي أعمقُ نضجًا، وأشدُّ رسوخًا،وأغنى ثمرًا من تلك الخاضعة لملابسات التصارع السقيم على السلطات والمناصب والمراكز والإدارات والمنافع.فلا يخطئنّ هؤلاء المسؤولون الروحيّون في استجلاء مآلات التأزّم اللبنانيّ، ولا يتوهّمن في تسويات تعايشيّة عقيمة باطلة. ليكن في صدارة اعتنائهم صون وديعة الاختبار اللبنانيّ التعايشيّ بواسطة نظام تعدّديّ اتّحاديّ رباعيّ تكامليّ تضمنه الأمم المتّحدة، وذلك من بعد أن ينبثق حلًّا عقلانيًّا شاملًا من أعمال المؤتمر الدوليّ المزمع انعقاده. وقد يكون للنفوذ الڤاتيكانيّ الأخلاقيّ المعنويّ الأثرُ الطيّبُ في انعقاد هذا المؤتمر. كلُّ سبيل آخر سيُفضي باللبنانيّين إلى إرجاء النكبة المهلكة!

د. مشير باسيل عون

مشير باسيل عون، أستاذٌ جامعيٌّ (قسم الفلسفة، كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، الفرع الثاني، الجامعة اللبنانيّة)، وباحثٌ في الفِسارة الفلسفيّة (علم أصول التفسير)، وفلسفة الدين، وقضايا التعدّديّة الثقافيّة وتلاقي الحضارات في التجابه والتحاور. تناهز كتبُه الأربعين باللغتَين العربيّة والفرنسيّة، ومنها: بين المسيحيّة والإسلام (1997)، الفِسارة الفلسفيّة (2004)، الفكر العربيّ الدينيّ المسيحيّ، مقتضيات النهوض والتجديد والمعاصرة (2007)، بين الدين والسياسة (2008)، بين الابن والخليفة، الإنسان في تصوّرات المسيحيّة والإسلام (2010)، هايدغر والفكر العربيّ (2011)، تصوّرات أنتروبولوجيّة متقابلة. بحثٌ في التعدّديّة الثقافيّة العربيّة (2016)، الفكر الفلسفيّ المعاصر في لبنان (2016)، الثورة الآتية: الفلسفة في معترك الانتفاضة اللبنانيّة (2020).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى