من الذاكرة، دولة مستهترة وما زالت..؟؟ | كتب د. ناجي صفا
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
في العام ١٩٧٤، الجو ملبد بالإعتداءات الإسرائيلية على المخيمات الفلسطينية في لبنان، ردود فعل متفاوتة بين الدولة والقيادة الفلسطينية حول هذه الإعتداءات، جامعة الدول العربية تقرر اجتماعا طارئا لوزراء الخارجية والدفاع العرب لمناقشة هذه التطورات. رئيس الحكومة تقي الدين الصلح يقوم بجولة على القادة السياسيين للتفاهم على موقف موحد، رافقت الرئيس الصلح في هذه الجولات، اذكر ان الرئيس الصلح يومذاك خرج منشرحا من لقائه مع كل من كميل شمعون وبيار الجميل بسبب التفاهم والتنسيق على موقف موحد.
قمت قبل السفر الى القاهرة بجولة في المخيمات للإطلاع على الوضع، كتبت انذاك في صحيفة اللواء مقالة بعنوان ” جولة في مخيمات شعب فلسطين، شعب اقوى من الموت ” شرحت فيها الواقع الفلسطيني والروح العالية للفداء والإستعداد للتضحية والمواجهة.
في اليوم التالي كنا في الطائرة في طريقنا الى القاهرة كل من رئيس الحكومة تقي الدين الصلح، ووزيري الخارجية والدفاع نصري لحود وفؤاد نفاع، وكان على نفس الطائرة كل من زهير محسن رئيس الدائرة العسكرية في منظمة التحرير، وفاروق القدومي رئيس الدائرة السياسية، وكان معنا على نفس الطائرة عبد العزيز بوتفليقة وزير خارجية الجزائر الذي صودف انه كان يقوم بزيارة الى لبنان.
كنت مضطربا بسبب انني ما زلت صحفيا حديث العهد بالمهنة، فلم يكن قد مضى على عملي في المهنة اكثر من ستة اشهر، رغم ذلك وقع الإختيار علي لأكون عضوا في الوفد الإعلامي الرسمي، ربما كان الإختيار صدفة، وربما لمسوا في وزارة الإعلام تميزا او نبوغا رغم حداثة عهدي بالمهنة.
وصلنا القاهرة ونزلنا في فندق شبرد، تبين لاحقا ان لهذا الفندق ذكريات خاصة بدولة الرئيس، عندما كان في القاهرة يعمل في جامعة الدول العربية.
كان الإنطباع ايجابيا باعتبار ان الوفد اللبناني هو الوفد الوحيد من بين بقية الوفود برئاسة رئيس مجلس الوزراء، في حين ان المؤتمر هو لوزراء الخارجية والدفاع.
في اليوم التالي ٤ تموز على ما اذكر ذهبنا الى الجامعة العربية لحضور المؤتمر، اول مفاجئة لي كانت بقاء رئيس الوزراء في الفندق وعدم مشاركته بالمؤتمر، بذريعة انه يريد ان يستقبل اصدقاءه القدامى منذ ايام عمله في الجامعة العربية، وهي المرة الاولى التي يستقبلهم فيها بصفته رئيسا للوزراء.
بدأ الإجتماع كالعادة بجلسة علنية تحدث فيها امين عام الجامعة محمود رياض ودعا الى دعم ومساندة الدولة اللبنانية بوجه الإعتداءات الإسرائيلية، ثم تحدث عدد من وزراء الخارجية لم اعد اذكر اسماءهم، رفعت الجلسة العلنية لتبدأ الجلسة السرية، كان من المفترض ان نخرج نحن الصحفيين من الجلسة، لكنني تحايلت على الواقع بأن اخفيت بطاقة الصحافة التي كانت معلقة على سترتي، ساعدني في ذلك انني كنت ارتدي بدلة بيضاء وربطة عنق حمراء كغالبية وزراء الخارجية فظنوا انني عضو في الوفد الرسمي.
افتتحت الجلسة المغلقة بكلام لامين عام الجامعة تحدث فيها عما يعانيه لبنان جراء الإعتداءات الإسرائيلية، وداعيا الى توفير الدعم للبنان، ثم اعطى الكلمة لوزير الخارجية اللبناني فؤاد نفاع الذي صدم الجميع بكلامه بتحميل المسؤولية للمقاومة، وانها هي من يعطي المبرر لإسرائيل للقصف سواء للمخيمات او خارجها، وطالب بانسحاب المقاومة من منطقة العرقوب التي تتواجد فيها بموجب اتفاقية القاهرة مطالبا بإلغاء هذه الإتفاقية، كان الكلام صادما للاخوة ممثلي منظمة التحرير، فاروق القدومي وزهير محسن، ومخالفا للجو الذي اتينا به من بيروت حول التفاهم وكيفية ادارة هذا التفاهم والتعاطي مع الواقع، كذلك ثنى وزير الدفاع نصري المعلوف على قول زميله وزير الخارجية، وهو المحامي المتفوه والمعروف ببلاغته وضليعا بقواعد اللغة، فقد صاغ موقفه العدائي للمقاومة بأهم مفردات اللغة العربية.
كاد ان ينفجر المؤتمر عندما تصدى كل من زهير محسن وفاروق القدومي لكلام وزيرا الخارجية والدفاع اللبنانيين، وتطور النقاش بشكل حاد جدا، بلغ مستوى الشتائم وكاد ان يصل الى حد التشابك بالأيدي. انعكس ذلك بشكل سلبي على المؤتمر ككل، حيث برزت الإنقسامات والتباينات العربية بين مؤيد لموقف الحكومة اللبنانية، وبين داعم للقضية الفلسطينية، وشهادة للتاريخ اقول انه كان من اشد المواقف التي كانت داعمة للمقاومة كان الموقف العراقي والموقف الجزائري.
غادرت القاعة على عجل، ذهبت الى الفندق واخبرت رئيس الوزراء بما حصل لتدارك الموقف، وانه من الضروري ذهابه شخصيا الى المؤتمر لمعالجة الوضع، لكنه صدمني بجوابه حين قال، اوليس منح الصلح موجودا، قلت بلى، قال فليعالج منح الموقف.
عدت الى الجامعة وما ان دخلت حتى اكتشفني عبد الحليم خدام وزير الخارجية السوري، قال لي انت لست دبلوماسيا ولا يحق لك الحضور، وطلب خروجي من القاعة، خرجت وجلست في مكتب احد موظفي الجامعة انتظر النتائج، واذ بالمؤتمر ينفرط عقده ويدعوهم امين عام الجامعة الى عشاء في فندق هيلتون لترطيب الوضع ولملمة المواقف، كمقدمة لإخراج البيان كالعادة، كان بيانا ككل بيانات جامعة الدول العربية خالي الدسم.
في العشاء انفردت بفاروق القدومي وزهير محسن اللذان اخبراني بما جرى لاحقا، وبإرتفاع وتيرة التوتر التي سادت المؤتمر، ومحاولات التسوية التي تحفظ ماء الوجه، قال لي يومها زهير محسن انني ساعود الى دمشق، وساطلب الصواريخ لحماية شعبي.
انتهى المؤتمر بفشل ذريع، وبتخريجة لا تسمن ولا تغني من جوع، لقد فوت لبنان على نفسه فرصة الحصول على دعم عربي نتيجة هذا الآنقسام وهذا الصراع.
ما صدمني يومذاك هو غياب الصحفيين في الوفد اللبناني الذين لم يحضروا المؤتمر، ولم يشاركوا، بل ذهب كل منهم اما للتسوق، واما باحثا عن الغواني، مثل ذلك لي فرصة الإستئثار بالمعطيات، منتصف الليل اتصلت بصحيفتي وابلغتهم المعطيات كاملة. في اليوم التالي صدرت اللواء بعنوان عريض على كامل الصفحة خلافا لبقية الصحف تقول:
القاهرة من ناجي صفا،
” فشل مؤتمر وزراء الخارجية والدفاع العرب ” وفي داخل الخبر عرض لما جرى، ما فاجئني ايضا ان ما انفردت به اللواء كان خلافا لبقية الصحف، كانت كلها تتحدث عن نجاح المؤتمر.
في طريق العودة الى بيروت وفي الطائرة، طلب رئيس الحكومة الصحف اللبنانية، وعندما رأى مانشيت اللواء استدعاني وكان غاضبا، قال انت مع لبنان ام مع الفلسطينيين ؟؟ اجبته دولة الرئيس انا حكما مع لبنان وطني عندما يكون عادلا، لكني في ذات الوقت انا مع القضية الفلسطينية حتى النخاع، وكان الفراق بيننا.
في اليوم التالي صودف انه اجتماع لمجلس الوزراء، صعدت الى القصر الجمهوري واذ بالزملاء يستقبلونني استقبال الابطال، قالو لي، انت سجلت سابقة لم يسبق ان تجرأ احدنا على القيام بها، فقلت لهم لأنني صحفي حقيقي.
دكتور ناجي صفا رائعة جداً ذاكرتك وما تحويه ومتميز بهذا الأسلوب السردي الشيق… ألف ألف تحية للموقع ولمواقفك