“القضاء” والنظام الطائفي في لبنان كتب واكيم شربل عبود
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
الحديث عن لبنان وما يحدث به من تطورات وبالأخص على الصعيد القضائي، هو ما دفعني الى كتابة هذا المقال، وعند قراءتي واطلاعي على هذه الأحداث، وما واكبتها من تطورات على الساحة اللبنانية وصولاً إلى دخول لبنان في النفق المظلم، جعلت مني أحاول البحث عن هذه الأسباب، وتوصلت الى نتيجة مفادها أن ما يشهده لبنان اليوم على هذا الصعيد ليس نتاج الساعة أو اليوم، بل هو قديم وعميق، وهو ناتج عن سبب رئيسي وحقيقي ألا وهو التركيبة الطائفية داخل المجتمع اللبناني، ومدى تأثير هذه التركيبة على كل مناحي الحياة داخل لبنان.
من حيث المبدأ بإمكان القضاء ان يؤدي ادوارا مختلفة وفق الوظيفة المناطة به ودرجة الاستقلالية الممنوحة له: فبإمكانه ان يشكل جزءا اساسيا من تركيبة النظام الطائفي، كما بإمكانه ان يشكل ضابطا لهذا النظام، بحيث يوازن بين المصالح المتضاربة الناشئة عنه سواء بين المجموعات او بين الافراد والمجموعات التي ينتمون اليها، ويحمي الأفراد ضد استبداد السلطات والزعامات التي تفرزها هذه المجموعات، ويستخرج المصالح العامة للمجتمع ككل في اتجاه تكوين نظام عام يتشارك فيه الجميع.
وبالطبع، في الحالة الأولى، يكون القاضي مجرد اداة لنظام تبقى المرجعية فيه للطبقة السياسية التي هي تحدد طبيعته، فيما في الحالة الثانية، بإمكان القضاء ان يرتقي الى مستوى المرجعية التي للمواطن ان يلجأ اليها لحماية حقوقه او حرياته، وان يتحول عاملا مساهما في بناء مساحة مشتركة يلتقي فيها الجميع بعيدا عن قطبية الزعامات او المجموعات. ويسمح ذلك بالتخفيف من حدة النظام، وربما وتدريجيا بزيادة الفرص في تجاوزه. ومن النافل القول أن هذا الدور يتحدد على ضوء اعتبارات عدة ابرزها التنظيم القضائي وتأثيرات الطائفية والضمانات الممنوحة لصون استقلالية القضاة، وايضا طبيعة الوظيفة القضائية وامكانية القاضي في تجاوز القواعد التي تضعها السلطة الحاكمة (مراسيم، قوانين…)، ومدى التفاعل فيما بينه وبين المجتمع.
إن المدخل لفهم الاشكالية بما يتصل بالتنظيم القضائي هو بالطبع النظر في مكانة مجلس القضاء الاعلى في هذا التنظيم. واسارع الى القول بان هذا المجلس يشكل حتى اللحظة بامتياز حصان طروادة الذي يسمح للنظام السياسي والطائفي بالتوغل داخل القضاء، وهو الامر الذي يبرز جليا من خلال كيفية تأليفه وصلاحياته والخطاب المحيط به.
واهم من ذلك كله، نلحظ تحويرا شائعا لمفهومي “استقلالية القضاء” و”السلطة القضائية” على نحو من شأنه ان يفرغهما من بعض ابعادهما. فاذا كان مبدأ استقلالية القاضي هو اصلا استقلالية كل قاض في محكمته (المادة 20 من الدستور)، مما يوجب احاطته بضمانات عدة، ابرزها ان يناط النظر في شؤونه الوظيفية (تعيين، عزل، تأديب، ترقية، نقل الخ…) في مجلس مستقل عن السلطة التنفيذية، فان الخطاب العام بدا وكأنه يمزج بين استقلالية القاضي واستقلالية المجلس الذي وُجد لضمانها، بل ذهب ابعد من ذلك بحيث عد هذا المجلس ممثلا للسلطة القضائية. وبنتيجة هذا الفهم الخاطئ، ترتبت نتائج عدة:
أن “السلطة القضائية” بدت مجسدة في مجلس محدّد، وذلك على غرار السلطتين التنفيذية والتشريعية، بما يؤول الى تكريس فهم عضوي ومركزي (فوقي) لعبارة “السلطة القضائية” بمنأى عن معانيها المستمدة من الوظيفة المعطاة لكل قاض في محكمته والتي تفترض حمايته في مواجهة أي سلطة بما فيها مجلس القضاء الأعلى.
فضلا عن ذلك، انعكس الدور الهرمي لمجلس القضاء الاعلى على الخطاب والمفاهيم المستخدمة ايضا، وعلى نحو يشكل تهديدا اضافيا للاستقلالية الداخلية للقاضي، اي استقلاليته ازاء المؤسسات القضائية.
ولا يخفى على احد ان هذه الصلاحيات، ولا سيما ما يتصل منها بالتشكيلات القضائية، باتت اليوم السلاح الأقوى في مواجهة القضاة. وتبعا لذلك، وبغياب تحركات جماعية للقضاة او حتى حرية تعبير لهؤلاء، اتخذت غالبية الاصلاحات طابعا فوقيا (اي من فوق). وقد بينت في مكان آخر ان غالبها منذ اتفاق الطائف غلّب اشكاليات تفعيل العمل القضائي او محاسبة القضاة على اشكالية استقلالية القضاء، وانه حين طُرحت استقلالية القضاء، فدوما من باب تحصين صلاحيات مجلس القضاء الاعلى، المعني الاساسي بالاستقلالية حسبما بيّنا اعلاه.
لا يُعد القضاة من موظفي الفئة الأولى. ولذلك فان تعيينهم لا يدخل ضمن مبدأ المناصفة المذكور في المادة 95 من الدستور. وهكذا، فان الفائزين في المباريات هم الذين عُينوا مؤخرا كقضاة اصيلين في سلك القضاء او كقضاة متدرجين في معهد الدروس القضائية بمعزل عن الطوائف التي ينتسبون اليها. بالمقابل، فان الطائفية تجد طريقها من خلال الأعراف المعتمدة في توزيع المناصب القضائية الهامة، سواء من خلال مراسيم بملء مناصب معينة او مراسيم المناقلات القضائية او قرارات توزيع الأعمال.
وهكذا، الى جانب المناصب المحفوظة على صعيد مجلس القضاء الأعلى، تُملأ مناصب هامة أخرى على أساس الهوية الطائفية: وهكذا، يقتضي أن يكون رئيس معهد الدروس القضائية شيعيا وأن يكون رئيس هيئة التشريع والاستشارات مارونيا الخ.
وهؤلاء كلهم يُعينون بمراسيم رئاسية بناء على اقتراح وزير العدل. كما أن الطائفية تظهر بشكل خاص من خلال الأعراف التي اعتمدها مجلس القضاء الأعلى في مشاريع المناقلات والتشكيلات القضائية. ومن ابرز تجليات هذا التوزيع، كيفية توزيع المناصب القضائية في محاكم المحافظات وهي المناصب الآتية: رئيس اول للمحكمة المتواجدة فيها، ونائب عام استئنافي وقاضي تحقيق اول. فقد ساد العرف على تقسيم هذه المناصب على الطوائف الست الكبرى بحيث يحوز القضاة المنسوبون الى كل منها على منصب من كل من الفئات الثلاث. كما تؤخذ الطائفية بعين الاعتبار في توزيع مناصب رئاسة غرف محكمة التمييز او رئاسة غرف محاكم الاستئناف. وهنا، وبدل ان يسعى مجلس القضاء الأعلى الى وضع مشروع المناقلات على اساس الكفاءة، تراه يبذل جهودا من اجل تصنيف القضاة وفق الطوائف التي ينسبون اليها.
الا ان الاشكالية الكبرى في هذا المجال تكمن في ارتهان اعضاء مجلس القضاء الأعلى الى حد كبير للمرجعيات التي عينتهم ولا سيما عند اعداد مراسيم المناقلات التي تبقى السلاح الأقوى لمكافأة القضاة الذين يخدمون السلطة ولردع القضاة الذين تسوغ لهم انفسهم التمرد. وهكذا، يصبح القاضي مدفوعا الى التواصل مع هذه المرجعيات للمحافظة على منصبه او لتحقيق مكاسب وظيفية او نفعية اخرى. فبإمكان مشروع المناقلات ان يخرجه الى مناطق بعيدة عن مكان سكنه او يبعده عن القرار كما بإمكانه ان يرفع منصبه الى مركز مرموق. ومن الطبيعي ان يؤدي استفرادهم على هذا الوجه في ظل الاستنساب في اجراء المناقلات الى تطييفهم، وتأطيرهم الى حد كبير من قبل مرجعيات سياسية وطائفية. وبالطبع، يتم ذلك من خلال اجتماع امرين: استبعاد “مبدأ عدم نقل القاضي الا برضاه”، وغياب كلي لآليات تسمح بتقويم اداء القاضي وكفاءته.
في اتجاه تخفيف تأثيرات النظام الطائفي على القضاء، فإنه لا بدّ من تحصين استقلالية مجلس القضاء الأعلى من خلال تعديل آلية تعيين اعضاء مجلس القضاء الأعلى، بحيث يصبح جميع اعضائه او غالبيتهم منتخبين من بين اقرانهم، مما يخفف من تأثيرات الطبقة السياسية في اعماله؛ وتحصين استقلالية القاضي من خلال الاعتراف بحقوقه الأساسية، ومنها حقه بعدم نقله الا برضاه، فضلا عن الاعتراف بحرية القاضي بالتعبير فرديا وجماعيا، صونا لاستقلاله، ومنعا للاستفراد. وهذا الأمر يفترض اعادة النظر بموجب منع التحفظ وبوضع نصوص تستبعد صراحة النصوص المخالفة لحريتي التعبير والتجمع في قانون الموظفين (مادة 15 بالأخص)؛ ومن ثم وضع معايير موضوعية لتقويم اداء القاضي وذلك بهدف السماح بتغليب معيار الكفاءة على معايبر التطييف والتسييس.
وفي اتجاه توسيع الوظيفة القضائية، فإنه لا بدّ من تحويل الوظيفة القضائية من “خدمة القانون” – (أي التقيد الحرفي بنص القانون) الى الريادة الاجتماعية، على نحو يسمح للقاضي في تجاوز عدد من القواعد الطائفية تقليديا؛ وتعزيز التقاضي الاستراتيجي اي التقاضي الآيل الى تغيير قاعدة او ممارسة اجتماعية معينة من خلال القيام بدعاوى والمساعدة القانونية، وذلك من باب تشجيع القاضي على اداء دوره الاجتماعي؛ وتعزيز المتابعة الاعلامية لأعمال القضاء وللشؤون القضائية وبشكل اعم التواصل بين المجتمع والقضاء، منعا لاستفراده والتعرض له.
لعل الأيام المقبلة تشهد على نهضة قضائية جديدة للبنان جديد…