” لا أستطيع التنفس” عبارة واحدة أسقطت الحلم الأمريكي | إيناس الشوادفي
بضعة كلمات أزاحت الستار عن قرون من العنصرية. مجرد عبارة منفية أيقظت الضمائر الإنسانية وأبرزت القوة السحرية الكامنة داخل الحذاء الشرطي الأمريكي الذي سحق عنق جورج فلويد بين قدميه بلا رحمة، وحينها انقلبت موازين الأمور، وتحول فلويد لرمز للتعبير عن المسكوت عنه لسنوات طويلة من الظلم والعنصرية فوق الأراضي الأمريكية . ولأن الطفرات التاريخية التي تحدد مصائر الأمم عادة ما تبدأ بخيط رفيع، فمعظم النار من مستصغر الشرر، نرى زيف الدولة الأمريكية الذي استمر على مدار قرنين من الزمان يتكشف في مشهد واحد فقط، لتتجلى العنصرية في أبهى صورها من خلال عبارة واحدة نطقها الضحية وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة في مينيابوليس “لا أستطيع التنفس” قالها جورج فلويد ووثقها غيره لتكون عبرة للعالم أجمع.
ربما ليست الحادثة الأولى لاضطهاد الأقليات في أمريكا، فالتمييز العنصري قائم منذ سنوات وسنوات، ولكن الترويج المستمر للمشروع العالمي المعروف بـ الحلم الأمريكي قد نجح ظاهريا في ستر العورة الأمريكية، تلك الأمة التي وضعت اللبنة الأساسية لها من خلال الإبادة الجماعية ونشأت على أكتاف العبيد، فعندما قررت القوى الإمبريالية الأوروبية ضم الأمريكيتين إلى امبراطورياتها مترامية الأطراف حول العالم، كان لها ذلك فورا، فبدأت عملية الإبادة الجماعية الممنهجة للسكان الأصليين لقارات العالم الجديد ليتم إفساح المجال للمستعمر الأوروبي، وسيق المواطنون الأفارقة قسرا من بلادهم للعمل في المزارع الأمريكية الجديدة. ولعل الباحث الحريص على معرفة أصول الأشياء قد يشعر بنوع من الاشمئزاز حين يتعرف إلى تلك الجذور المشينة لأمة أبهرت العالم أجمع بشعارات الحرية والديمقراطية الزائفة.
وقف الجميع متعجبا أمام واقعة اندلاع الاحتجاجات في شوارع أمريكا تنديدا بمقتل فلويد، ذلك المواطن صاحب البشرة السمراء كان سببا في انفجار البراكين الخامدة داخل النفوس الأمريكية البيضاء والسمراء على حد سواء، فالجميع غاضبون ساخطون على النظام القائم على الطبقية الوقحة والرأسمالية العفنة والتي ما أضافت لحياتهم شيئا سوى أن جعلت من الأثرياء أكثر ثراء والطبقة الوسطى على أعتاب الالتحاق بقوافل الفقراء، فلا مجال للحديث عن الديمقراطية إذاً ولا عدالة توزيع الثروة في أمة سيئة السمعة لن تنجح في مواراة ماض مبني على الخزي والعار، ولوشيدت ألف حضارة عابرة للقارات والبحار.
ولازال العالم يصول ويجول حول المشهد الحالي في الشارع الأمريكي، فكيف للمواطنين أن يغادورا منازلهم وينظموا المسيرات والتظاهرات في وقت يفرض على الناس فيه حظرالتجوال والتباعد الاجتماعي نظرا لتفشي فيروس كورونا الذي اكتسح الأرض شرقا وغربا! كيف لمهد التثقيف الصحي والمؤسسات الطبية الكبرى أن تشذ عن القاعدة! أما كانت طويلا تتقلد منصب قيادة العالم والمسؤول الأول عن توجيه دفته نحو بر السلام والأمان! هل تهاوت الإجراءات الاحترازية والوقائية أمام هول تلك الحادثة العنصرية! أم أن ثمة مؤامرات ما تحاك ضد الأمة الأمريكية!
لعل التساؤل الأخير قد يبدوفكاهيا بعض الشئ، فكيف تحاك المؤمرات ضد المنبع الأساسي لها حول العالم، فالولايات المتحدة الأمريكية كما قال عنها الفيلسوف الأمريكي أندرو فلتشك ما هي إلا الوريث الجديد للثقافة الاستعمارية الأوروبية القائمة على العنصرية والعبودية والبربرية. فلا يخفى على أحد مسئولية الولايات المتحدة عن تدبير المؤمرات وإدارة ملفات التخابر وتنظيم الانقلابات العسكرية وأخيرا اختلاق الذرائع والمبررات الخرقاء وحشد الرأي العام لصالح شن حروب ضد أمم بعينها بزعم الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولكن خلف الستار تقف الاعتبارات الأيدولوجية والمكاسب السياسية والغنائم الاقتصادية التي ساقت بعض زعماء تلك الدولة حديثة العهد نحو التورط في حروب لم تجني ثمارها المرجوة على الإطلاق.
هناك من يقول بأن التنيين الصيني قد أعد العدة للانتقام من حروب ترامب الاقتصادية، وجاءت الفوضى التي خلفتها واقعة مقتل فلويد لتخلق بيئة انتقامية مواتية، فهل الاحتجاجات في الشوارع الأمريكية هي صنيعة صينية مفتعلة! وهل تسعى بكين حقا إلى استغلال المحنة الصحية العالمية في الرد على القوة الأمريكية! قد يكون الوقت غير ملائم كي نسلم بنظرية المؤامرة هنا وبخاصة أننا قد سئمنا من تكرارها في بلداننا العربية، فكل انتفاضة شعبية يقال عنها أنها مدفوعة بأطراف خارجية خفية، فهل الشعب الأمريكي يدافع حقا الآن عن قضية وطنية أم ينساق دون دراية منه خلف مساع صينية!
عزيزي الشعب الأمريكي، هل تسمح لي بسؤالك الآن عن بعض العشوائية التي سادت أجواء المظاهرات السلمية، هل سرقة المحال التجارية هي جزء من خطتكم للدفاع عن حقوق الإنسان والتنديد بالعنصرية، يبدو لي الآن أن حديثكم عن همجية وفوضوية العرب لا محل له من الإعراب، فما فعلتموه أنتم قد فاق كل التصورات وخيب كل الظنون، فالنموذج الأمريكي المثالي كما ترسمه الأذهان الحالمة قد تهاوى في بضعة أيام. ربما أقرأ المشهد من منظور آخر، فهناك من يرى بأن السطو على العلامات التجارية الكبرى ما هو إلا تعبير عن مكنون الصدور الأمريكية الناقمة على السياسات الاقتصادية التي أفسحت المجال للاحتكار وأتاحت الفرصة للشركات العملاقة لفرض هيمنتها على الأسواق ومن ثم تضييق الخناق على المشروعات المتوسطة والصغيرة، فلا منافسة عادلة ولاانفتاح تجاري كما يزعم الساسة والاقتصاديون في أمريكا.
“يدهشني أن الحرب الأهلية قد انتهت منذ زمن بعيد، ولا تزال هناك عنصرية فادحة في أمريكا” عبارة قالها الصحفي الأمريكي لاري كينغ معربا عن حزنه الشديد لما آلت إليه الأمور في الولايات المتحدة مؤخرا. والحقيقة أن الحرب بين بني البشر لم تنته بعد، فالعنصرية والتمييز سيظلا قائمين حتى زوالنا جميعا من على وجه البسيطة، وإذا كانت النهاية وشيكة فلنستثمر ما تبقى من الوقت في إصلاح ما أفسده الدهر، ولنبحث بصدق وإخلاص عن معنى أصيل للإنسانية والتي صارت بمرور الوقت كما عهدناها، نسيا منسيا.
مقال رائع يعكس حقيقة الوضع في امريكا و يظهر الوجه القبيح للعنصرية