إلى عَروسَةِ الصَّحافَةَ، الصُّحفيَّةُ التي حَملت هُموم القَضيَّة، وآثَرتِ الدِّفاعَ عنها والجِهادَ في سبيلِها حنى الرَّمقِ الأخير، وأبت أن تُغادِرَ هذا العالمَ إلَّا تحتَ عَدساتِ مَحطاتِ الفضائيات العربيَّة والعالميَّة، مُظَهِّرةً عَجزَ المُجتمعِ الدَّولي وقصورِ هيئاتِهِ ومؤسَّساتِهِ الدَّوليَّةِ عن رَفعِ الظُّلمِ وقولَ الحَقِّ ومُناصَرةِ المَظلومِ وردعِ الظالم، ووقوفِها موقفِ المُتفرِّجِ.
إليك أيتها الزَّنبقةُ النَّديَّةٌ التي أبى أريجً دماؤك الطَّاهرةِ إلا أن يكون فوَّاحا على امتِدادِ الوَطن العَربي. إليكِ يا أنشودَةَ الكرامَةِ، ورايَةَ العزِّ وأيقونةَ الشَّهامةِ ورمزَ العُنفوان. إليك أيتها الشَّهيدةُ البطلةُ المِقدامةُ الجَسورَة من كُلِّ عربيٍّ شريفٍ ألف تحيَّةٍ وإجلال.
ها نحن نقفُ اليوم خاشِعينَ مُنحنينَ أمامَ هامتك، خَجلينَ من ناظريكِ التر تتراءى لنا كلما قلَّبنا مَحطاتِ البثِّ الفضائيَّةِ، مُستذكرينَ وجهكِ السَّموحِ وصَوتكِ الصَّدوحِ، وأنت تُظهِّرين إلينا مآثمَ العَدوِّ وتقصِّينَ علينا مَلاحِمَ الأبطالِ في دِفاعِهم عن وطنهم “فلسطينِ الحَبيبةِ” والقدسِ وكنيسةِ القيامةِ والمَسجدِ الأقصى.
أُخيَّةُ، أعزَّكِ الله إذ أكرمَكِ بالشَّهادةِ في سَبيلِ أنبلِ وأعظمُ قَضيَةٍ وطنيَّةٍ على وَجهِ الأرضِ وكرَّسك رَمزاً للولاء الوطني، وعُنوانا للتَّضحيَةِ في سَبيلِ فلسطين الأبيَّة.
لقد جاءَ اغتيالكِ مُدبَّرا من جِهازٍ عسكريٍّ مُخابراتيٍّ صهيونيٍّ عنصريٍّ لعين، وليس حادثا عَرضيَّاً برصاصةٍ طائشة، إنها جريمةٌ عن سابقِ تصوُّرٍ وتصنيم، وهي جَريمةُ حَربٍ واضِحَةُ المَعالمِ، لأنها استهدَفت صُحفيَّةٍ سِلاحُها الكَلمَة الحَقُّ والصُّورةُ الناطقةُ المُعبِّرَةُ عن واقِعِ قضِيَّةٍ إنسانيَّةٍ عادلةٍ شبه منسيَّةٍ من المُجتمعِ الدَّولي.
لقد عرَّيتِ باستِشهادُكِ الكِيانَ الغاصِبِ، وكَشفتِ زيفَ مزاعِمِهِ وأكاذيبِه، وهَمجيَّةَ أداتِهِ العَسكريَّة. نعم لقد بيَّنت للعالمِ كم هو كِيانٌ عُنصريُّ وحشيٌّ قامعٌ للحُريَّاتِ، يَخشى كلمةِ الحقِّ، ولا يتورَّعُ عن قمعِها بأساليبِهِ الدَّمويَّة،لأنه قامَ على الأكاذيب والأضاليلِ والافتراء.
اغتالوكِ جَهارةً في وَضحِ النَّهارِ وأمامَ عَدساتِ الإعلام، لقد نالوا منك غَدراً وقَهرا، ولؤما وظلما وبُهتانا، ساخرينَ من دولنا وجامعتنا العربيَّة، مُستهترين بكُلِّ المؤسَّساتِ الدَّوليَّةِ، منتهكينَ لكل الشَّرائعِ والمواثيقِ الدَّوليَّة التي تُحرِّمُ الإحتلال والاستِعبادَ واغتصابَ الحقوق وجرائمِ الحربِ والإرهاب، والجرائمِ ضد الإنسانيَّةِ والإبادةِ الجَماعيَّة، كما تلكَ التي تُنادي بخقِّ الشُّعوبِ في تقريرِ المَصيرِ والتَّحرُّرِ من نيرِ الاحتلال، والعيشِ بكرامةِ في وطنٍ حُرٍّ مُستقل.
أخيَّةً ما كان لهذا العدو أن يستهدفكَ جَهارةً ويَسعى للتَّخلُّصِ منك بهذه الهمجيَّةِ لو لم تكن تغطيتك الاعلاميَّةُ لاعتِداءاتِه أمضى من غاراتِ طائراته، وتقاريرُكِ أكثرُ إيلاماً من قصفِ مدافِعه، وسِهام ناظِريكِ أصلبُ من خناجرِه المَسمومة، وما كان لهذا العدو أن يغتالُك غيرُ آبهٍ لمغبَّةِ فعلتِهِ الشَّنيعةِ لو لم يكن على قناعةٍ بأنه لم يتبقى لدى العُرب شيءٌ من الشِّيَمِ والعاداتِ العربيَّ.وحسبي ان يكونَ قد باعكِ وتخلى عنك بني قومِك، كما باعوا كثرٍ ممن سَقطَ قبلك من شُهداءَ أبرار، تماما كما باعو القَضيَّةَ وتخلُّوا عن الاهتماماتِ القومِيَّة.
بكلِّ أسى نقولها وبصَراحَةٍ وعلانيَة، لقد تَخلى العُربُ عن قضيَّتهم الأولى “فلسطين”، مُتجاهلين أنها مَهدِ الدِّيانات السَّماويَّة، وتناسوا ان على أرضها الطاهرةِ ولدَ السَّيِّدُ المسيحُ مخلِّصُ البشريَّة، وإلى أولى القبلتينِ أُسرِيَ خاتمُ الأنبياء، وإنها لحاضِنهٌ لكنيسةِ القيامةِ والمَسجدِ الأقصى.
إنها فلسطينُ يا سادةُ، تستصرخً ضَمائرَكم كُلَّ يوم، وتناشِدُكم للذَودِ عن كرامتكُم وليسَ عنها، لأنها مُقتنعَةٌ ومؤمنةٌ بأن شعبَها الجَبَّارُ لن يخذُلها، ولن يتخلى عنها كما تخلَّيتُم، إنها لمُنتصرَةٌ لا مَحالَ مهما تقاعستُم وتكاسلتُم في الدِّفاعِ عنها، ولأنها عاجلا أم آجِلا ستتحرَّرَ من الاحتلالِ، ولا خوفَ عليها طالما بقيَ فيها أمُّهاتٌ ولَّادةٌ تُنجِبُ أمثالَ شيرين أبو عاقلة من أبطالٍ يواجِهونَ جَبروتِ الاحتلالِ عُزَّلِا، ويُجابهون أدواتِ القتلِ الإسرائيليَّةِ بإيمانٍ راسِخٍ وإصرارٍ على صَون الأرضِ والعِرضِ بدمائهم الطَّاهِرَةِ الذكيَّةِ.
صدقوني لا خوفَ على فلسطين فهي لن تَضيعَ، ولا على أقصاها ولا حتى على كنيسَةِ القيامَةِ فيها، طالما بقيَ فيها ولو طِفلٌ واحدُ يَحملُ حَجرَاً مُباركاً ومِقلاعَاً ويقفُ شامِخا راسِخا وَجهِأ لوَجهِ غير آبهٍ بآلةِ الحَربِ الإسرائيليَّة، مُنادياَ إنِّها أرضي وأرضُ أجدادي، كانت وستبقى أرضاً عربيَّةً حُرَّةً أبيَّة عصيَّةً على الإذلالِ والعُبوديَّة.
إن الخوف ليس على فلسطين، إنما الخشيةُ كُلِّ الخشيةِ على أمتنا العَربيَّة، التي هانت بل سَهُلَ الهَوانُ عليها، وتخاذلت في الدِّفاعِ عن مَصالِحِها، وسادتِ الفرقةُ والبَغضاءُ في ما بينَ قادتها، وانجرفت في سِياق التَّطبيعِ مُتخلِّيَّةً عن مُبادرتِها لحلِّ القضيَّةِ الفلسطينيَّةِ، وكأني ببعضِ قادتها وكأنهم اختلطت الأمورُ عماليهم، ولم يعودوا يحسنونَ التَّمييزَ بينَ أخٍ جاحدٍ ومُشاغبٍ وعدوٍّ مارق مُتربِّص.
أقولُ هذا على أملِ إصلاحِ ذاتَ البين في ما بين دُولنا، وإطلاقِ مُبادَرَةٍ عربيَّةٍ تَنجحُ في لمًّ شَملنا، وتُنقذُنا من أحقادنا وأنانيَّتنا وتخلِّصُنا من جراثيمِ الفِرقَةِ وفيروساتِ الكراهيَةِ التي قطَّعتِ الأوصالَ بين دولنا، تارةً باسم الدينِ والطائفِيَّةِ والمَذهبيَّة، وتارةً ثانيةً باسمِ الإثنيَّةِ والعِرقيَّةِ، وثالثةِ باسمِ التاريخِ والجُغرافيا.
وحده الشَّعبُ الفلسطيني من بينِ الشُّعوبِ العَربيَّةِ حافظَ على وحدتِه، وعرفَ مَعاني الانتماءِ الوطني، وأخلصَ الولاء له بعيدا عن كُلِّ أسبابِ التمييزِ والتَّفرقة، ربما جمعته المُصيبةُ وتوحِّدَ توجُّهاته، ولكن يكفيه شَرفا أنه يواجِهُ المُحتلَ موحَّدا مُتكافِلاً مُتعاونا مُتحابا في السَّرَّاءِ والضَّرَّاء.
ألف تحيةٍ للشَّعبِ الفلسطيني المناضلِ والمُدافعُ عن أرضِهِ وعرضِهِ وكرامتِه باللَّحمِ الحي وبأدنى مُقوماتِ الصُّمود، والذي يبذلُ في سبيلِها الغالي والنَّفيس، رافضا الرُّكوع أو الخُنوع، في زَمنٍ ندُرت فيه التَّضحياتُ، وهانت فيه الكرامات، وأضعنا البوصِلةُ السياسيَّة، واختلطَت علينا التوجُّهات الأساسيَّة وقضايانا المصيريَّة.
هنيئا لـ شيرين أبو عاقلة ارتقاؤها إلى حيثً الطُّهرِ حيث أرواح الشُّهداء الأبرار. والمجدً والخلودُ لمن يسيرُ على نهجها وخطاها.، وصبرا جميلا لأهلها وذويها.