المحكمة الخاصةُ بلبنان تُعفي المُجرِمين الحَقيقيينَ من المَسؤولِيةِ ولا تُبرؤهم
للاشتراك بالنشرة البريدية اضغط هنا
لم يكن مُفاجئًا للبنانيين ذاك البيانُ الذي أعلنتهُ رَئيسَةُ المَحكمَةِ الدَّوليَّةِ الخاصَّةِ بلبنان القاضيَةُ “إيفانا هردليكوفا” والذي أعلَنت فيه “أن غُرفَةَ الاستئنافِ التَّابِعَةِ للمَحكَمَةِ الخاصَّة بلبنان قد أصدَرَت حُكمًا غِيابِيًّا بالإجماعِ قَضى بعُقوبَةِ السِّجن المُؤبَّدِ بحَقِّ كُلٍّ من حسن حَبيب مرعي وحسين عنيسي، كذلك لم يتفاجؤوا أيضًا بكون العُقوباتِ التي أقرَّتها بحقِّ من أدانَتَهُم هي أقصى ما يَنُصُّ عليهِ نِظامُها الأساسيُّ، وذلك نَظَرًا لخُطورَةِ الجَريمَةِ ودَوافِعِ ارتِكابِها وفَظاعَةِ تنفيذِها (استِعمالُ كَمِّيَّةٍ هائلَةٍ من المَوادِّ المُتَفَجِّرَة)، وارتِفاعِ عَددِ الضَّحايا والجَرحى بالإضافَةِ إلى الخسائرِ المادِّيَّةِ والمَعنَوِيَّةِ التي تَسبَّبَت بها.
لقد أنشِئت هذه المَحكمَةُ بموجَبِ قرارِ مَجلِسِ الأمنِ رَقم 1757 الصَّادِرِ بتاريخ 30 أيّار 2007، بناءً لاتِّفاقٍ أُبرِمَ ما بين الأُمَمِ المُتَّحِدَةِ والجُمهورِيَّةِ اللبنانِيَّةِ تَلبيةً لِطَلَبِ الحُكومَةِ اللُّبنانِيَّةِ من مَجلسِ الأمنِ “إنشاء مَحكمَةٍ ذاتِ طابَعٍ دَوليٍّ لمُحاكَمَةِ جميعِ من تَثبُت مَسؤوليَّتُهم عن الجَريمَةِ الإرهابِيَّةِ التي أودَت بحياة رئيس الوزراء اللبناني السَّابقِ رفيقِ الحريري وآخرين”، وتضمَّنَ القرار المُشارُ إليه مُلحَقًا خاصًّا بالنِّظام الأساسي للمَحكمَةِ المَنوي إنشاؤُها، والذي حدَّدَ بدَورِهِ اختِصاصَ المَحكمَةِ وهيكَلَها ونواحٍ أُخرى مُهِمّة تتعلّقُ بتَنظيمِ عَمَلِها.
قامَتِ هذه المَحكَمَةُ على مَبدأ التَّقاضي على دَرجَتين، بحيث لُحِظَ من بين دوائرِها دائرتي حُكم (أي غرفتين) الأولى ابتدائيَّةٍ وتَتكوَّنُ من ثلاثَةِ قُضاةٍ أحَدَهُم لُبناني والآخرين دَولِيَّين، والثانِيَةُ استِئنافِيَّةٍ وتتألَّفُ من خَمسَةِ قُضاةٍ اثنين لبنانيينِ وثلاثةِ دَوليين.
بدأت المَحكمَةُ اعمالَها في الأول من آذار 2009 واتَّخذت مقرًّا لها في “لايدسندام” قُرب لاهاي، وبدأ الإدعاءُ العامُ كما قاضي الإجراءاتِ التَّمهيديَّةِ بأعمالهما وأنهى الأخيرُ المَلفَّ الذي أُحيلَ إلى الغُرفَةِ الابتَدائيَّةَ التي وضَعَت يَدَها على القَضيَّةِ وباشَرَت بإجراءاتِ المُحاكَمَةِ بما في ذلك الاستِماعُ للشهودِ ومُناقَشَةِ الأدلَّةِ واستِجوابِ المُتَّهَمين وكانت تُبَثُ جلساتِها بالصَّوتِ والصُّورَة على العُموم (عملًا بمبدأي عَلنيَّةِ المُحاكمَةِ وشَفوِيَّتِها). وبنهايَةِ جلساتِ المُحاكَمَةِ أَصدَرَت قرارًا اعتَبرَت فيه أن المُتَّهم عيّاش “مُذنِبٌ على نحو لا يَشوبَه أيّ شَكّ مَعقولٍ، وأدانتْهُ بقَرارِها الصَّادِرِ بتاريخ 18 آب 2020 ” بالتُّهَمِ الخَمسِ المُسنَدَةِ إليه بقرارِ الاتِّهام وهي “تدبيرُ مؤامَرةٍ هَدفُها ارتِكابُ عَملٍ إرهابي وارتِكابُ عَمَلٍ إرهابي باستِعمالِ أداةٍ مُتَفَجِّرَةٍ وقتلِ الحَريري عَمدًا باستِعمالِ مَوادَّ مُتفجِّرةٍ وقتل 21 شخصا آخر عَمدًا باستِعمالِ موادَّ مُتفجِّرَةٍ ومُحاولَةِ قَتلِ 226 شخصًا عَمدًا باستِعمالِ موادَّ مُتفجِّرَة، وتلتهُ بقَرارٍ آخَرَ بتاريخ 11|12\2020 مُصدِرَةً حُكمَها بحَقِّ المُتَّهمين بالإجماع، بحيث أنزَلت بِحَقِّ المُتهم عيَّاش خمس عُقوباتٍ كُلٌّ منها يقضي “بالسَّجن المؤبَّد” على أن تُنفّذَ في الوَقتِ نفسِه. ولكِنَّها برَّات المُتَّهمين الآخَرين الثَّلاثَةَ الذين أُحيلوا إليها، وهُم حبيب مرعي وحسين عنيسي وأسد صَبرا، لعلَّةِ أنها لم تَجِد أدِلَّةً كافِيَةً لإدانَةِ أيٍّ منهم، ولكن الادِّعاءَ استأنَفَ الحُكمَ الابتدائي بحَقِّ المُتَّهَمين مرعي وعنيسي اللذين تَمَّت تبرئتُهُما.
استأنَفَ المُدَّعونَ (الإدعاء العام والمدعون بالحقِّ الشَّخصي) الحُكمَ الابتدائي بوجهِ المُتّهَمين مرعي وعنيسي واستَندوا في استئنافِهِم إلى وجودِ أدلَّةٍ تُظهِرُ استِخدامَهما لهواتِفَ جَوَّالَةِ إلى جانِبِ هاتِفٍ ثالثٍ الأمرُ الذي يُؤكِّدَ ضُلوعَهُما في اغتيال الحريري. وأحيلَ ملفُّ القضيَّةِ إلى الغرفةِ الاستئنافيَّةِ التي قَبِلَت الاستئنافَ شَكلًا ووضعت يَدَها على القَضِيَّةِ في ما خَصَّ المُتَّهَمين، وبعد الانتهاءِ من دَرلسَةِ المَلفِّ والّتَداولِ به أصدَرَت قَرارًا في العاشِر من آذار 2021 أدانت فيه كُلًّ من حَسن مرعي وحسين عنيسي وأدانَتهُما بالتآمُرِ لارتِكابِ عَملٍ إرهابِيٍّ والتَّواطُئ في القَتلِ العَمَد، مُعتَبِرَةً أن استِخدامَهُما لهَواتِفَ جَوَّالَةٍ إلى جانبِ هاتِفٍ ثالِثٍ بمثابَةِ إثباتٍ على ضُلُوعِهِما في التَّفجيرِ المُؤامَرَةِ التي هَدَفَت إلى ارتِكابِ العَملِ الإرهابيِّ في وَسَطِ بيروت بتاريخ 14 شباط 2005. آخذةً على الغُرفَةِ الابتِدائيَّةِ تبرئتِها المُتَّهَمين المُشارِ إليهِما لِعلَّةِ عَدَمِ وجودِ أدِلَّةٍ كافِيَةٍ بحَقِّ أيٍّ منهُما توجِبُ الإدانة.
يُستدَلُّ من بيانِ المَحكَمَةِ أنَّ الغُرفَةَ الاستِئنافِيَّةَ قد نَسَبت للمُتَّهمينِ أفعالًا إجرامِيَّةً تَنطَوي على توصيف جُرمِيَّةٍ مُختلِفَةٍ “المشاركَةُ في مُؤامَرَةٍ هَدَفُها ارتِكابُ عَملٍ إرهابِي، والتَّدخُّلِ في جَريمَةِ ارتكابِ عَملٍ إرهابي، وجَريمَةِ القَتلِ قَصدًا، ومُحاوَلَةِ القتلِ قَصدًا”، وقد أُشيرَ في البَيانِ أيضًا إلى أن المَحكمَةَ قد تلقَّت بعدَ صُدورِ حُكمِها الاستِئنافيِّ مُذكَّراتٍ ومُلاحَظاتٍ من الادِّعاء ، والممثل القانوني للمُتضررين، وجهتَي الدِّفاع عن مرعي وعنيسي بشأن تحديدِ العُقوبَةِ (ولكن لم يُحدِّدُ البيانَ مَاهيتُها).
بإصدارِ الغُرفَةِ الاستئنافيَّةِ لقرارِها التَّجريمي الذي أنزَلَ أشَدَّ العُقوباتِ بحَقِّ كُلٍّ من مرعي وعنيسي، والذي فيما لو أُضيفَ إلى قَراري الغُرفةِ الابتِدائيَّةِ الأولُ الذي أدينَ به المتهم سليم عيَّاش والثاني الذي أنزلَ به عقوبةَ الحبسِ المؤبَّدِ، تكونُ المَحكمَةُ الخاصَّةُ بلبنان قد فَصَلَت ولو بحُكمين غيابيَّين بقَضِيَّةِ اغتِيالِ المَغفورِ له دولَةَ الرَّئيسِ الحَريري، وخَلُصَت إلى إدانَةِ ثلاثَةِ مُنتَسِبينَ لِحِزبِ الله اللُّبناني بخَمسَةِ تُهَمٍ سَبَقَ وأشرنا إليها، وعاقبَت كُلَّا منهم بخَمسَةِ عُقوباتٍ من أقصى العُقوباتِ التي ينُصُّ عليها نِظامُها الدَّاخِلي أي السِّجن المؤبَّد.
إن إصدارَ المَحكمَةِ للأحكامِ المُنوَّهِ عنها تكونُ قد بتَّت بصورةٍ نهائيَّةٍ في قضيَّةِ الاغتيال، إلاَّ أن ذلك لا يعني أن العُقوباتِ المُقرَّرةِ بحَقِّ المُتَّهمين قد أضحَت واجِبَةَ التَّنفيذِ لكونِ المُحاكَمَةَ حصلت بصورةٍ غِيابيَّةٍ وكذلك إصادارُ الحُكم بالنِّسبةِ للمَحكومِ عليهم، إنَّما يجعلُ منهم مَحكومين غيابيًّا مَطلوبينَ للعدالَة، وعليهِم أن يُسلِّموا أنفُسَهَم، وعلى أجهِزَةِ إنفاذِ القانونِ العَمَلَ على توقيفِهِم، وأنَّهُ في حالِ تَسليمِ أيٍّ منهم لنَفسِهِ أو إلقاءِ القَبْضِ عليه يُمكِنْهُ أن يَطلُبَ إعادَةَ مُحاكَمَتِهِ (أمام المَحكَمَةِ الخاصَّة) فيما لو لم يَقبَلَ بالحُكمِ الصَّادِرِ بحَقَّه، وذلك عَمَلًا بأحكام البند الثالث من المادَّةِ 22 من النِّظامِ الأساسيِّ الخاصِّ بالمَحكَمَة.
ورَغمَ بتِّ المَحكمَةِ الخاصَّةِ في جَريمَةِ اغتِيالِ الحَريري إلاَّ أنَّها لم تُنجِز كل مهامَها إذ لم يَزَل مُتوَجِّبًا عَليها الفَصلُ في عددٍ من الجَرائمِ المُتلازِمَةِ مع تلك الجَريمَة، حيث سَبَقَ وتَقَرَّرَ بالاتِّفاقِ ما بين الحُكومَةِ اللُّبنانِيَّةِ والمَحكَمَةِ ووافَقَ مَجلسُ الأمن على أن تَنظُرَ أيضًا بجَرائمَ أُخرى منها مُحاوَلَةُ اغتِيالِ النائبِ والوزيرِ السَّابقِ مَروان حَمادَة والوزير السَّابقِ إلياس المُر كونها اعتداءاتٌ مُماثِلَةٌ لطَبيعَةِ وخُطورَةِ جَريمَةِ اغتِيالِ الحَريري، باعتبارِها هَجَماتٌ مُتلازِمَةٌ مَعَها من حيثُ القَصدِ الجِنائيِّ والغايَةِ وصِفَةِ الضَّحايا ونَمَطِ الهَجَماتِ والجُناة، وهي مَشمولَةٌ باختِصاصِ المَحكَمَةِ الخاصَّةِ، والتي أضحى متوجِّبًا عليها أن تفصِلَ فيها وِفْقًا لمَبادِئ العَدالَةِ الجِنائيَّة، وذلك استِنادًا لما هو واردٌ في المادَّةِ الأولى من النِّظامِ الدَّاخِلي الخاصِّ بالمَحكَمَة. وعلى هذا الأساس كان من المُقرَّر أن تبدأ الغُرفَةُ الابتِدائيَّةُ في حُزيران مُحاكَمَةَ سليم عياش في قَضايا تَتعلَّقُ بثلاثَةِ اعتِداءاتٍ أرهابِيَّةٍ استَهدَفَت سِياسِيينَ خِلالَ عامَي 2004 و2005، إلاَّ أن مُعوِّقاتٍ مالِيَّةٍ تَتعَلَّقُ بعدَمِ توفُّرِ التَّمويلٍ للمَحكَمَةِ “نتيجَةَ الأزمَةِ المالِيَّةِ التي يُعاني منها لبنان أوجَبَت تَجميدَ هذه القَضايا وتَخفيضَ نَفقاتِ المَحكَمَةِ ككل، والتي اضْطَرَّت إلى صَرفِ عَدَدٍ من مُوَظَّفيها.
وبالعَودَةِ إلى أحكامِ الإدانَةِ والتَّجريمِ التي صَدَرَت عن غُرفَتي المَحكَمَةِ الخاصَّةِ نرى أن ما صَدَرَ عن هذه المَحكمَةِ وما قد يَصدُرُ في ظِلِّ نِظامِها الدَّاخليِّ سَيَبقى قاصِرًا عن تَحقيقِ العَدالَةِ الجِنائيَّةِ المَنشودَة، لكون أحكامِها مُعلَّبةٌ وفق القُيودِ التي تَضَمَّنها هذا النِّظامِ، والتي توجِبُ حَصرَ المَسؤوليَّاتِ بالأفرادِ أي الأشخاصِ الطَّبيعيين وعدَمِ تَحميلِ الأشخاصِ المَعنويين (دول وأحزاب) أيَّةِ مَسؤوليَّة، وهذا ما يُستشَفُّ مما ورَدَ في البند الأولِ من تلك المادَّة الثالثة من النِّظام، والتي ورَدَ فيها “يتحمَّلُ الشَّخصُ مَسؤوليَّةً فردِيَّةً عن الجَرائمِ الدَّاخِلَةِ ضِمن اختِصاصِ المَحكمَة…” وكأني بهذا النَّصِّ وقد جاءَ وليدَ توافُقٍ على الطَّريقةِ اللبنانيَّة، وإن كان البندين الثاني والثالث من المادَّةِ عينها قد شَدَّدا على مَسؤولِيَّةِ الرَّئيسِ عن أعمالِ المرؤوس، وكأن الغَرَضَ من ذلك كان توَخِّي مُلاحَقَةِ مُوظَّفينَ قِيادِيينَ ورُبَّما رُؤساء.
تَقتَضي المَوضوعِيَّةُ مِنَّا، وعلى الرَّغمِ من عدَمِ اطِّلاعنا على حيثياتِ القَراراتِ المُنوَّهِ عنها ليتسنى لنا التَّعليقُ عليها من النَّاحيتينِ القانونيَّةِ والقَضائيَّةِ، أن نَتَساءَلَ ونسأل، هل من العَدلِ أن تُحصَرَ المَسؤوليَّةُ بثلاثةِ مَسؤولينَ أو عناصِرَ من حِزبِ الله عن جريمةٍ زَلزَلَت لُبنان، ووصلَ صَداها إلى دُوَلِ العالَمِ أجمَع، والتي أودَت بحَياةِ الرَّئيسِ رَفيقِ الحَريري و22 شَخصًا آخَرين، وإصابَة 226 ، وبالإضافَةِ إلى تَسبُّبِها بأضرارٍ ماديَّةٍ جَسيمَة، وزَعزَعَتِ الاستِقرارَ في لبنان كدولَةٍ وألحقَت به وبمواطنيهِ أضرارًا مُباشِرَةً وغيرِ مُباشَرَةٍ يَصعُبُ حَصرُها؟ وهل هؤلاءِ الثَّلاثةِ وحدَهم قادرونَ على ارتكابِ هذهِ الجَريمةِ مُنفردين؟ وفيما لو سلَّمنا أنهم المنفذون، هل أقدموا على فعلتهم بدوافِعَ وأغراضٍ شَخصِيَّة؟ وبغضِّ النَّظرِ عما إذا كانوا يتبوؤونَ مراكزَ قِيادِيَّةٍ أم لا، فهل ارتكبوا فِعلَتَهُم من دون ِعِلمٍ القِيادَةِ أو بإيعازٍ منها؟ واستِطرادًا هل هم فعلًا مُرتكبونَ لهذه الجريمَةِ ومسؤولونَ عنها؟ وهل مُحاكَماتٌ غِيابِيَّةٌ خاليةٌ من شاهِدِ عيانٍ كفيلةٌ بتأكيدِ وإثباتِ مسؤوليَّتِهم عنها؟
الأسئلةُ كثيرةٌ، أما التَّساؤلاتُ فأكثرُ وأفظَع، ألا يَنطوي ذلك على تقليلٍ من قَدرِ الجريمَة؟ وطَمسٍ للحَقيقَةِ وإغفالٍ لمَسؤولِيَّةِ كُلٍّ من المُجرمينَ الحَقيقيينَ الخَطِرين الذين اتَّخذوا القرارَ بتَصفِيَةِ الحَريري على نحوٍ فَظيعٍ ولا مَسبوق، غير آبِهينَ بعَدَدِ الضَّحايا البَشرِيَّةِ والجَرحى ومُجملِ الأضرارِ التي تَسبَّبَ بها التَّفجير الإرهابي؟ وبما ستؤولُ إليهِ الأوضاعُ في لبنان على أثرِها؟ وكيفَ ستكونُ مواقِفُ مُختلِفِ الجِهاتِ المَعنِيَّةِ بالحُكمِ؟ وما هو مآلُ هذا الحُكمِ وتبعاتِه؟ وما مَصيرُ المُلاحقاتِ في الاعتداءاتِ الإرهابِيَّةِ المُتلازِمَةِ مع هذه القَضِيَّة؟ وإن كانت المُلاحقاتُ الجزائيَّةُ تتغيَّ تحقيقَ العدالةِ وردعَ المُجرمين، فهل تحقِّقُ غاياتِها إن بقِيَت حِبرًا على وَرَقٍ وغيرِ قابِلَةٍ للتَّنفيذِ بحقِّ من تَصدُرُ بحَقِّهِم، حتى وإن كانت صادِرَةً عن مَحاكِمَ دَولِيَّةٍ يَقِفُ المُجتَمَعُ الدًّوليُّ برُمَّتِه خلفَها مُمَثَّلًا بهيئةِ الأُمَم المُتَّحِدَة ومَجلِسِ الأمنِ والفَصلِ السَّابِعِ الذَّائعِ الصِّيت؟ ومن يَضمنَ عدَمَ إبقاءِ هذه الأحكامِ دون تنفيذٍ وغبَّ الطَّلبِ لاستِغلالها في الوقتِ المُناسِبِ لتَحقيقِ مَآرِبَ انتِقاميَّةٍ سِياسِيَّةٍ وغَيرِ سِياسِيَّةٍ بعيدَةً عن مَرامي تَحقيقِ العَدالَةِ الجِنائيَّة وبالتَّحديدِ للنَّيلِ من حزبِ الله؟
يَصعُبُ في معرضِ هذا المقالِ توفيرُ إجاباتٍ وافيةٍ على كل تلك الأسئلةِ والتَّساؤلات، ولكنَّها ستكونَ محلَّ أخذٍ ورد بين المعنيين بهذه الجريمة. مما لاشَكَّ فيه أن أفرادَ عائلة المغفور له دولةُ الرَّئيس رفيق الحريري هم المعنيَّون الأول بما خلُصت إليه المحكمةُ الخاصَّةُ بغُرفَتَيها، وبخاصَّةٍ دولةُ الرَّئيس سَعد الحريري الذي تجاوزَ تبعاتِ حُكمِ الغرفة الابتدايَّة، وارتَضى أن يكونَ رئيسًا لحُكومَةٍ يُشارِكُ فيها وزراءً من الحِزب، ولكن قد يكون مُحرَجًا بعد صُدورِ حُكمِ الغُرفَةِ الاستِئنافِيَّةِ “تجاهَ أيِّ تَعاونٍ أو مُهادَنَةٍ مُستقبَلِيَّةٍ مع قِيادَةِ الحزبِ، فيما لو بقِيَت مُصرَّةً على رفضِ تَسليمِ المَحكومِ عليهِم. ثاني المَعنيينَ بما خلُصَت إليهِ المُحاكَمَةُ لغايَةِ الآن هو حِزبُ الله الذي يُفترضُ على الأقل أن يكونَ مُحرَجًا بإدانةِ ثلاثةٍ من قادَتِهِ، من قبل مَحكمَةٍ دوليَّةٍ ومن غرفتين مُختلفتين، وباعتقادنا أن الحزبَ سَيجِدُ نفسهُ أمامَ خيارَين لا ثالثَ لهما، إمَّا تَسليمُ المُتَّهَمينَ لإعادةِ مُحاكمتِهم لإثبات براءتِهِم وبالتالي تبييض صفحةِ الحزب، وهذا يوجبُ عليه تَوفيرَ كافَّةِ مُستلزَماتِ الدِّفاعِ للمَحكومِ عليهم؛ وإمَّا البَقاءُ على موقِفِهِ السَّابِقِ أي تَجاهُلِ قَراراتِ المَحكَمَةِ بعلَّةِ أنها مُسيَّسةٌ وتستهدِفُ النَّيلَ من الحِزبِ ووَصمَهُ بالإرهابي، وهذا دونه مخاطِرَ جَسيمَةٍ وضغوطٍ دوليَّة، قد تَتمَثَّلُ بضُغوطٍ دوليَّة لتسليم المتهمين، وإما استغلال لإدراجِ الحِزبِ على قائمَةِ التَّنظيماتِ الإرهابِيَّة، وإخضاعِ مسؤوليهِ ومُناصِريهِ لمَزيدٍ من العُقوباتِ المالِيَّةِ وغَيرِ المالِيَّة.
وأخلُصُ يإعلانِ فوزِ الإجرامِ على العدالةِ لأن القاصي والدَّاني يَعلَمُ أن جَريمَةَ بحجمِ اغتِيالِ رَفيقِ الحَريري أعقَدُ من أن يرتَكِبُها أفرادٌ من دونِ دَعمٍ لوجِستيٍّ، وأكبرُ من أن يُتَّخِذَ قرارُ ارتِكابِها على مُستوى حِزبٍ من دون غطاءٍ سِياسِيٍّ دَولي. وأن القرارَ بتَنفيذِها لا بُدَّ أن يكونَ قد اتُّخِذَ من قِبَلِ مَسؤولين كِبارٍ من الصَّفِّ الأوَّل، ومن دولٍ تُدارُ بنُظُمٍ تتَّخِذُ من العُنفِ والإرهابِ وَسيلَةً لتَحقيقِ مآرِبِها، وهذا ما افتَقَدَت إليهِ أحكامُ المَحكَمَةِ الخاصَّةِ بغُرفَتَيها ولو من باب التَّلميحِ لا الإدانَة، ورغمَ كُلِّ ذلكَ نرى أن المَحكَمَةَ الخاصَّةَ قد أعفت المُجرِمين الحَقيقيينَ من المَسؤوليَّةَ ولكِنَّها لم تُبرِّؤهُم.
العميد المُتقاعِد د. عادل مشموشي